دولياترئيسي

البابا فرنسيس… عقد اجتماعي جديد ينقذ اجيال الشباب

الزيارة التي قام بها، بابا الفاتيكان، فرنسيس، الى البرازيل، في الاسبوع الماضي، لترؤس مؤتمر الشباب العالمي، كانت اكثر من زيارة دينية، الى بلد اكثرية سكانه المئة والثلاثين مليوناً، هم من اتباعه الكاثوليك واكثر من زيارة تاريخية، يقوم بها اول بابا من اميركا اللاتينية، الى قارة خرج منها. وليس لان هذا البابا يعتبر انه يحمل رسالة اجتماعية، الى قارة هي ضحية اكبر قدر من اللا-مساواة والتمييز، حيث لا تزال اقلية تستولي على 90 في المئة من ثروات بلاد، خرج ملايين من شعوبها من تحت سقف الفقر.

اهمية زيارة البرازيل، العملاق الاقتصادي الصاعد، هي ان البابا فرنسيس يحمل، ليس نظرية كنيسة عادت معه، الى اصول الفقر التي ولدت منها، فحسب، بل، الى مجتمع يعيش في ظل نظام اقتصادي يقوم على الاستثناء والاقصاء. وقد لا يكون مجرد صدفة ان يشبه البعض هذه الزيارة الاميركية بزيارة اخرى، قام بها البابا البولوني كارول فوتييلا، في سنة 1979، الى وارسو الشيوعية. عهدئذٍ قالوا، ان البابا يوحنا بولس الثاني استعمل موقعه الديني، لمحاربة الشيوعية، التي كانت تقمع الحريات والحقوق المدنية الاساسية، عن طريق فرض ديكتاتوريات ملحدة، وبعد مدة سقط النظام الشيوعي، وشكر ميخائيل غورباتشوف، آخر زعماء الامبراطورية السوفياتية، البابا فوتييلا، على المساعدة التي قدمها لاسقاط جدار برلين.

رفع الصوت
وعاد البابا فرنسيس اليوم، الى القارة الاميركية اللاتينية ليرفع الصوت، ليس لان في هذه القارة، ديكتاتوريات تحارب الايمان وتسجن المؤمنين، ولا شيوعية ستالينية، تخنق حريات الناس الاساسية، فان التي تحكم في اميركا اللاتينية، اما سياسات نيو-ليبيرالية او شعوبية ملونة بالاشتراكية، تواصل زيادة عدد الفقراء، والذي يمكن ان يحصل، هو ان تؤدي هذه الزيارة على غرار زيارة بولونيا الشيوعية، الى تغيير وجهة التاريخ، وان تساعد على تحويل الواقع القائم، الى سياسات دمج واندماج، والى المساواة في الفرص.
والذين يعرفون البابا فرنسيس، يحسمون ان هذا البابا الارجنتيني الشديد البساطة، والكثير التواضع، يسعى الى تغيير ليس الكنيسة التي يترأس، فحسب، بل كذلك الى تغيير اجتماعي على صعيد العالم.
كما لو ارادوا القول، ان رجل الدين هذا لا يستطيع ان يقمع الحيوان السياسي الذي فيه، من دون الاندماج في دوامة سياسة الاحزاب والايديولوجيات. فالبابا فرنسيس، يقول ان على المؤمن سواء كان مسيحياً ام مسلماً ام بوذياً ام يهودياً، ان يعمل من دون ان يتخلى عن معتقده وايمانه، من اجل الغير وان يغوص في جحيم اللا-مساواة الاجتماعية، ليعدلها، وان يقف الى جانب الذين تخلت عنهم مجتمعات الاستهلاك والجشع، وتركتهم بمصيرهم.
ولعل الافق الاوسع لهذا المفهوم، يجعل البابا فرنسيس، لا يسأل الذين يلتقيهم ما هو دينه، وانما عن شعوره تجاه الآخر، واذا كان يهتم به.
وهناك مثل ارجنتيني قديم، يحور كلاماً للاقتصادي، بول صامويلسون، بان هناك دولاً على طريق النمو، ودولاً اخرى، مثل في الغرب الاميركي – اللاتيني على طريق تهشيم النمو. وفي المدن التي زارها بابا روما، في الاسبوع الماضي، شيء من هذا.
فمن منظار المعطيات الماكرو-اقتصادية، تتميز دول اميركا اللاتينية، منذ بضع سنوات، بنمو مطرد في دخلها القومي الخام (تتمناه اوروبا)، تستقبل على اراضيها، شعوباً شابة، متمسكة بالحياة ومنفتحة على كل الافاق.

حالات صعبة العلاج
ولكن التعمق في حياتها الحقيقية، وتحليل حالاتها، واحدة واحدة يكشفان عن واقع مختلف اساسه نواقص اجتماعية، وحالات اقتصادية وسياسية، يصعب معالجتها واقتلاعها، وقد تكون اكثر صعوبة لحل  الفقر الذي تتخبط فيه قطاعات واسعة من شعوبها، والذي يقول محللون، انه ازداد في السنوات الاخيرة، على وتر الاقتصاد الليبيرالي المتطرف الذي اعتمدته بعض دولها. ويقدر الخبراء ان نسبة الناس الذين يعيشون تحت مستوى الفقر، في دول اميركا اللاتينية، تصل الى 29 في المئة، من شعوب تعدادها 167 مليون شخص، اي اكثر من الثلث.
ومعلوم ان الفقر يجر العنف، ويفسر جزئياً، قيام «نقابات» الاجرام، وعصابات المخدرات، وعلى درجات اكثر خطورة واجراماً، عصابات العنف الشبابي، او ما يسمى في تلك البلاد «الماراس»، التي تفرض وجودها على العديد من نواحي الحياة.
ان اميركا اللاتينية تمكنت على مدى السنوات الاخيرة من ان تتخلص من صراعات اجتماعية، مثل السلفادور وغواتيمالا، وان تنتصر على حروب ماركسية، مثل البيرو، وصراعات داخلية، اخرى، بلغت حداً اقصى في عدد القتلى مثل كولومبيا.
وما تزال مافيات الاجرام تتمتع بصحة جيدة، ففي المكسيك وحدها، تسببت كارتيلات الاجرام، بمقتل 70 الف شخص، منذ 2006 الى اليوم. وفي نسبة معينة، بسقوط الانظمة الاكثر محافظة، بعد ان سعت الى محاربتها بالعنف التصفوي.
ويشكل التوزيع غير العادل للثروة، احد اكبر اسباب السهولة التي تميز التحاق الشباب بعصابات الاجرام. ويعتبر انطونيو ماتزينللي، مندوب المكسيك في مكتب الامم المتحدة للمخدرات والاجرام: «ان النمو الاقتصادي والاجتماعي، الذي شهدناه خلال الثلاثين سنة الماضية، تضمن نسباً كبيرة من الفوارق، تشكل احد اسباب العنف».

ارتفاع نسبة الجريمة
ففي هندوراس، وصلت معدلات جرائم القتل الى مستويات تزيد عشرة اضعاف عن معدلاتها العالمية.
فالاجرام المتجذر في نواح عديدة من اميركا اللاتينية، يتغذى من اللا-مساواة الاجتماعية والاقتصادية، ومن تجارة المخدرات في اتجاه اسواق اميركا الشمالية، واوروبا، اضافة الى جذور ثقافية، يصعب اقتلاعها، مثل الذكورية، التي تفسر انتشار الاسلحة بين الناس على المستوى المنزلي، والسهولة التي تتحول فيها الخلافات الى مآسٍ عصرية.
  ويشكل الفساد الذي يميز الحياة العامة في اميركا اللاتينية، آفة ثالثة اساسية، الى جانب الفقر والاجرام، حتى على المستويات العليا من السلطة (الرئيس الارجنتيني الاسبق السوري الاصل، كارلوس منعم، تاجر بالاسلحة، وهو رئيس) او على مستوى الموظفين الصغار ورجال الشرطة. فيساهم كل ذلك، في اضعاف المؤسسات العامة، حتى على الصعيد القضائي، مما يزعزع اسس الديموقراطية، التي قامت على اشلاء الديكتاتوريات العسكرية، وتبقى مهددة من ضربات الخطر الاكبر، الذي تشكله الديموقراطيات الشعوبية، فان ما يسمى «الجبهة البوليفارية» تحت قبعة فنزويلا، وهي كوبا، تشكل مجموعة متجانسة، على صعيدي الايديولوجية والاقتصاد شكلياً وظاهرياً، على الاقل. بينما تشكل مجموعة «مركوسور» المعتبره سوقاً مشتركة والمكونة من البرازيل والارجنتين واوروغواي وفنزويلا، فانها واجهت فشلاً ذريعاً على صعيدي التجارة الداخلية والسياسة، تحت وطأة نزعة كل الاعضاء الى ممارسة الحماية التجارية.
وعلى النقيض الاخر، مجموعة «تحالف المحيط الهادىء» المشكل من المكسيك وكولومبيا والبيرو والشيلي، الذي استبدل توجهات التجارة الحرة المتطرفة ببلاغة ماركسية جديدة.

عقد بين الاجيال
وفي هذا السبيل، دعا البابا الارجنتيني، الى قيام عقد بين الاجيال، لوقف الانحدار، وطرح تحالفاً بين الشباب والمسنين، من اجل مواجهة «ثقافة الاستثناء والاقصاء».
ويختصر البابا فرنسيس، رحلته الى البرازيل: «انني لا احمل مالاً وذهباً، ولكنني جئت اغذي الحب في قلوب الشباب، الذين هم رموش العين».
وتكون قوة الشعوب، هي في ضم قوة الاجيال الجديدة الى حكمة القدامى. لان الخطر، هو في مبدأ «ثقافة الاستثناء والاقصاء» الذي يبعد قطاعات كاملة من الناس. انه في ولادة «جيل كامل من الشباب، من دون  عمل، فالازمة العالمية لا تصنع اشياء جيدة للشباب».
ويشدد البابا فرنسيس، على هامش رحلته البرازيلية على «ضرورة بذل جهد من اجل اعادة الجميع الى المجتمع ولا استثناء. وهذا هو المعنى الذي اسعى لاعطيه لهذه اللقاءات الشبابية».
وتوافقت حملة البابا فرنسيس، مع تحقيق نشرته نيوويرك تايمز في 19 تموز (يوليو)، يكشف عن ان الشباب الذين تخرجوا من الجامعات الاميركية بين 2009 و2012 يكادون لا يجدون من يشغلهم، لان المؤسسات القادرة «تعاقبهم» على بطالة استمرت سنتين ام ثلاثاً، ويفضلون عليهم من تخرج في سنة 2013، لان المسؤولين عن التوظيف يعتبرون ان البطالة تسبب يأساً وخيبة، وفراغاً نفسياً ويفضلون متخرجين جدداً، اكثر اندفاعاً وحماساً، واشارت وكالة ارنست اند يونغ، الى ان الشركات الكبرى، تفضل اليوم، التوظيف على اساس توصيات ووساطات او من امضى فترات تدريب في الشركة، بفضل تدخل من اصدقاء على نشر اعلانات توظيف في اطار التوجهات الجديدة التمييزية.

جوزف صفير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق