العراق: ما هي اسباب العنف وتمادي الارهاب؟
قبيل اقل من خمسة اشهر على موعد الانتخابات العامة في العراق، تبدو المسألة الاساسية للناخبين والقوى السياسية على اختلاف انتماءاتها على حد سواء، هي مسألة الاستقرار الامني في ظل عجز بيّن للسلطات العراقية عن فرض اجراءات وتدابير تحول دون ارتفاع وتيرة التوتر، وتطمئن الانسان العراقي الى مستقبل الامن والامان في طول البلاد وعرضها، وخصوصاً ان ارقام الضحايا الذين سقطوا بفعل الانفجارات واعمال القتل الاخرى، ولا سيما في الاشهر العشرة الاخيرة، اظهرت ارتفاعاً لا يماثله الا في الاعوام التي كانت البلاد فيها تقترب من حرب اهلية، وبالتحديد في الفترة الممتدة ما بين 2005 و2008.
لا شك في ان النقاش الاساسي في الكواليس والدوائر السياسية المعنية في بغداد، بات متمحوراً حول الاسباب التي ادت الى تداعي الاستقرار النسبي الذي تحقق في اعوام اربعة خلت، ومدى الظروف والمعطيات التي فتحت المناطق والحدود والابواب امام عودة الارهاب والارهابيين بأبشع صورهم ليتحركوا في الداخل العراقي، ويتركوا بصمات ارهابهم جلية في السيارات المفخخة التي تنفجر في الشوارع والاحياء المكتظة ولا سيما احياء الفقراء والمهمشين، لا بل في احيان كثيرة سجلت حالات قتل على اساس الهوية المذهبية والطائفية على غرار ما حصل في السنوات العجاف، مما اقض مضاجع العراقيين وافقدهم ثقتهم بالعملية السياسية وبمستقبل الوضع في البلاد.
الوضع المشتعل
لا ريب في ان ثمة من يعزو هذا «النمو» المطرد لاعمال القتل والارهاب في العراق في الاشهر الماضية، الى الوضع المشتعل في الساحة السورية المجاورة، حيث نجحت القوى المتشددة المعارضة للنظام في دمشق، في «الهيمنة» على المشهد في الساحة المضطربة، وسيطرت على مناطق واسعة من الاراضي السورية، وخصوصاً المتاخمة للحدود مع العراق، وركزت وضعها ونظمت حالتها واقامت سلطتها، بعدما آنست من نفسها قوة وتأييداً، وبعدما نجحت في اقصاء الفصائل الاخرى المعارضة.
ولا شك ايضاً في ان هذه القوى المتشددة التي تنمو وتتسع حضوراً في سوريا، وتصير رقماً صعباً، قد ضخمت آمالها واحلامها وطموحاتها، وبدأت فعلاً تسعى لجعل اجزاء من الساحة العراقية قواعد امداد وامتداد لها، ولا سيما بعدما ظهر الى واجهة الميدان السوري، تنظيم «الدولة الاسلامية في الشام والعراق»، والتي في مراحل نشوئها الاولى، اوعزت للمجموعات والخلايا الكامنة في بعض محافظات الوسط العراقي، انها في طور السعي لانشاء امارة اسلامية واحدة، تمتد من الشمال في سوريا، حيث لها اليد العليا الى بعض محافظات العراق في مرحلتها الاولى، توطئة ليوم موعود تمسك فيه بزمام الحكم في اكبر بلدين في سوريا الطبيعية هما سوريا والعراق.
وهكذا، اعادت “رياح” هذه الامال والوعود النامية على وهج المواجهات الميدانية والمستمرة في سوريا بعث الحياة ونفخ الروح في «جذور» المجموعات الكامنة في الساحة العراقية، او تلك التي جنحت الى الانكفاء والتواري بعد الاخفاقات التي عاشتها ابان الحقبة التي تلت عام 2008، حيث انهارت كل الدويلة التي وفرتها لنفسها في بدايات الاحتلال الاميركي للعراق، وخصوصاً في محافظات الوسط ولا سيما بعدما هبت مجالس الصحوة لتواجهها من قلب البيئة الشعبية التي تتحصن فيها، وبعدما زادت القوات الاميركية والعراقية معاً من منسوب استعداداتها الميدانية لمواجهتها في عقر دارها، وتوجيه الضربات العسكرية المتتالية لها.
خلايا نائمة
وعليه، وجدت هذه المجموعات الباقية والخلايا النائمة الفرصة لترفع رأسها من جديد ولتسعى جاهدة لفرض امر واقع امني وسياسي جديد مستغلة الانفتاح العسكري للحدود بين العراق وسوريا، ولا سيما بعدما خفت القبضة الامنية للنظام في دمشق، واضطر الى سحب قواته من العديد من المعابر الحدودية بين البلدين.
لذا، لا يمكن لاي مراقب ان ينكر انعكاسات وتداعيات الاوضاع المشتعلة في سوريا وتراجع دور النظام واذرعه الامنية في سوريا، وخصوصاً في المناطق الطرفية والحدودية التي جذبت آلاف المقاتلين والمتطرفين من دول عدة في الخارج، ومعهم سادت موجة عارمة من الطموحات بإحداث تحولات في الواقع السياسي العراقي الذي ارتسم قبيل الجلاء النهائي للاحتلال الاميركي من الساحة العراقية في اواخر عام 2009، والذي بقي موضع جدل وسجال وعدم رضا من شريحة واسعة من العراقيين.
وقد تقاطع هذا الوضع المستجد في سوريا ومناطق من العراق، مع تحولات في داخل الساحة العراقية افضت الى ما يشبه انسداد افق العملية السياسية واخفاق حكومة نوري المالكي، مما شكل ايضاً حبل الصرة الذي غذى مناخات وبؤر الارهاب الباحث عن فرصة للنهوض مجدداً من جهة، وقوى من جبهة المعارضة للمالكي من جهة اخرى، وفتح الابواب على مصراعيها امام انفلات حبل الامن واشتداد وتيرة الصراعات السياسية في الوقت عينه.
فلم يعد خافياً ان جذور الازمة السياسية الحالية في الساحة العراقية، تعود الى اعوام عدة خلت، وبالتحديد الى الفترة التي اعقبت مباشرة الانتخابات العامة الاخيرة في العراق في اواخر ربيع عام 2009، حيث ان النتائج التي افرزتها صناديق الاقتراع في هاتيك الانتخابات، اوجدت معادلة سياسية متحولة في الساحة العراقية، اذ قويت رغبة خصوم رئيس الوزراء نوري المالكي في ازاحته عن سدة الحكم التي وصل اليها في عام 2005 والحلول محله، وخصوصاً ان تلك النتائج اظهرت تقارباً بين كتلة المالكي من جهة، وكتلة القائمة العراقية بزعامة اياد علاوي من جهة اخرى، مما جعل الاخير يرفع صوته مطالباً بأن يكلف هو بتأليف الحكومة الجديدة، وهو امر عارضته بالمطلق القوى التي جمعت نفسها لاحقاً في اطار ما صار يعرف بـ «الائتلاف الوطني العراقي»، اي كل القوى السياسية الشيعية التي ازاحت خلافاتها وصراعاتها جانباً تحت وطأة ضغوط خارجية، وبالتحديد ايرانية لتقف معظمها قسراً وراء التمسك بترشيح المالكي لولاية ثانية.
سلة سياسية
ورغم ان الامر تم تحت عنوان اقرار «سلة سياسية متكاملة» تشمل ارضاء القوى الاخرى، وبالتحديد علاوي والقوى السياسية السنية المؤتلفة معه من خلال التفاهم على اتفاق سياسي شامل يقسم القرار الوطني بين المالكي من جهة، وعلاوي من جهة اخرى، بعدما استحدث منصب المجلس الاعلى للسياسات الاستراتيجية ويشترك الجميع في حكومة واحدة يكون فيها المالكي وفريقه السياسي المستأثر والمهيمن على مجلس الوزراء والعملية السياسية في العراق، الا ان المالكي نجح من خلال سلسلة من المناورات البارعة في اطاحة موجبات هذا التفاهم وخطوطه العريضة، ثم نجح لاحقاً في محاصرة خصومه السياسيين بعدما نجح في ابعاد الخصم القوي والعنيد اي نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي عن الساحة العراقية، ومن ثم انقض على خصومه الواحد تلو الاخر، وامعن تفتيتاً في جبهة الخصوم وفي رد كل هجماتها وموجهة كل محاولاتها الرامية الى انزاله عن سدة السلطة تحت عنوان سحب الثقة منه في البرلمان العراقي.
ولاحقاً وبسبب كل هذا الاداء السياسي المضطرب والمتشدد للمالكي شهدت 3 محافظات اساسية، وفي مقدمها محافظة الانبار حركة اقرب ما تكون الى الانتفاضة في وجه المالكي وفي وجه نهج حكومته حيال شريحة واسعة من ابناء العراق، وبالتحديد السنة العرب ونزل المعارضون الى الشوارع والساحات ونظموا اعتصامات ومهرجانات وتظاهرات انهت بالامس القريب عامها الثاني، صامدة في وجه العديد من الضغوط وعمليات الترهيب والترغيب التي واجهها المشاركون في مظاهر الرفض والانتفاض على حكومة المالكي ومطالبتها برفع السيف المصلت فوق رؤوس هذه الشريحة.
المالكي يتهم
وعلى رغم ان هذه الاعتصامات ظلت تراوح في مكانها وظلت عاجزة عن تحقيق الشعارات التي رفعت لواءها، الا ان هذا الحراك الذي اخذ مجده بداية والذي واجهته السلطة مراراً بالحديد والنار زاد في الفجوة القائمة بين المعتصمين والمتظاهرين ومن يمثلون على المستويين الشعبي والسياسي من جهة، والمالكي وحكومته من جهة اخرى، خصوصاً ان المالكي بدأ يتهم المعتصمين ضده بأنهم تحولوا الى بيئة حاضنة للارهاب الذي عاد ليرفع من منسوب ضرباته ويكرس حضوره في الساحة كأمر واقع عنيد، ادى في العديد من المحطات والمراحل الى «محاصرة» المالكي وحكومته بشتى الاتهامات منها التقصير في المعالجة والتدبير ومنها العجز عن المواجهة.
وعليه، فإن اضطراب حبل الامن مجدداً وعودة الارهاب بأبشع صوره الى الواجهة زاد من اختلال الموازين السياسية والامنية في الساحة العراقية لدرجة ان ثمة من بدأ يمني النفس بإنهيار وشيك للعملية السياسية في العراق والتشكيك في قدرة المالكي على الصمود والفوز لاحقاً في الانتخابات النيابية الوشيكة.
ومهما يكن من امر، فإن انخفاض منسوب العمليات الارهابية في العراق في الآونة الاخيرة لا يعني اطلاقاً بأن الامور عادت لتستتب بيد حكومة المالكي، بل ان ثمة من يرى بأن الارهاب في العراق قد صار في مرحلة اعادة الحسابات وتغيير استراتجيته وتكتيكاته في ضوء المرحلة الماضية.
ابرهيم بيرم