دولياترئيسي

روسيا والاتحاد الاوروبي يتقاسمان الاتحاد السوفياتي

عندما قال فلاديمير بوتين، ان تفكك الاتحاد السوفياتي، شكّل «احدى اكبر كوارث القرن العشرين»، لم يكن يعني انه يطلق يد الغرب في الاستيلاء على بقايا الاتحاد. ورأى الرئيس الروسي، ان افضل ما في تلك الايام، يمكن ان يعود، وان لم يكن في ظل العلم الواحد الاحمر، لكن ربما عبر جسر تعاون تجاري وعسكري بين الرفاق القدامى.

 ارتأى فلاديمير بوتين ان الرد على سعي الاتحاد الاوروبي، الى استقطاب دول، مثل اوكرانيا، وجورجيا ومولدافيا، هو في الضرب على الطاولة بيد من حديد، وسمعت اوكرانيا، المتشابكة صناعتها مع الصناعة الروسية، والتي تعتمد في صورة كلية على غاز روسيا للتدفئة في هذا الشتاء، ففضلت حل مشاكلها مع موسكو، على حساب الاخلال بالوعد الذي قطعته لاوروبا بروكسيل، بالانضمام الى نادي الاتحاد الاوروبي التجاري.
ويأتي هذا التحول، بالرغم من ان اوكرانيا استوردت في السنة الماضية من دول الاتحاد، بقيمة 23،800 مليار يورو، بضائع وخدمات، وصدّرت اليها باكثر من 15 ملياراً. وبالرغم من ان اعتمادها على الاتحاد الاوروبي تضاعف منذ سنة 2003 فاصبح احد احسن زبائنها في المواد الاولية والمنتوجات الصناعية، فشكل الاقتصاد افضل سلاح اقناع لدى بروكسيل للتعاطي مع الازمة التي نشبت، منذ اسبوعين، بعد تراجع اوكرانيا، عن تو قيع اتفاقية تجارية، تزيل عدداً من العوائق التجارية. فدعا اسطفان فوتيه مفوض الاتحاد الاوروبي لشؤون التوسع، اوكرانيا الى الاخذ في الاعتبار، ان عدم التوقيع، «يعرض مستقبل اقتصادها للخطر».

ضغط روسي
وترى بروكسل، ان تراجع اوكرانيا، المفاجىء عن التوقيع مع الغرب، ناتج عن «ضغط خارجي»، آت من الجارة روسيا. لكن الشيء الاكيد، هو ان الوحدة التجارية التي تجمع روسيا مع بيللو-روسيا، وقازاخستان، تبقى عرجاء من دون اوكرانيا. فقوتها الصناعية الذاتية، وزراعتها التي اشتهرت تاريخياً باهميتها، وسوق 45 مليون مستهلك، تجعل منها العمود الفقري في بناء لا يستطيع الكرملين التخلي عنه.
وتدرك موسكو جيداً، ان جورجيا او مولدافيا، لا تستطيع فعل الكثير بعيداً عن علاقة مفضلة مع الاتحاد الاوروبي، تستطيع ان تعود عنها في المستقبل. بينما تملك اوكرانيا، من الثروات التي ترشحها مستقبلاً للانضمام الى الاتحاد الاوروبي وذات يوم الى الحلف الاطلسي. ان كابوس موسكو، هو خسارة التعاون العسكري معها في البحر الاسود، حيث  لها قاعدة بحرية، في احد مرافئها، وقد نفهم، على ضوء ذلك، موقف موسكو من الحرب السورية.
وخلال الزيارة التي قام بها الى ايطاليا في الاسبوع الماضي، قال فلاديمير بوتين: «اننا على استعداد لان نفتح اسواقنا امام البضائع الاوروبية». قال ذلك، لان روسيا، تخاف من ان تؤدي شراكة تجارية، الى ايصال صادرات غربية الى اوكرانيا، وفي صورة غير مباشرة الى السوق الروسية، وكانت موسكو تمارس منذ امد الضغوط على شريكتها الستراتيجية، مذكرة كييف، بأن من شأن اية شراكة مع الاتحاد الاوروبي الغربي ان تنعكس على علاقتها، ليس مع روسيا فحسب، بل كذلك مع سائر اعضاء الوحدة الجمركية الشرقية، «التي قد تعمد الى التفكير ببعض تدابير الحماية» (فلاديمير بوتين)، واستبقت موسكو الامور بمنع استيراد بعض منتوجات اوكرانيا، مما انعكس سلباً على مسار البلد الاقتصادي، الذي يتخبط هو الآخر بأزمة.

تظاهرات تنديد
وكانت الجرعة مرة، بالنسبة الى اوكرانيا، التي اجتاحتها التظاهرات المنددة بهذا «الخضوع» لموسكو، بينما كانت رئيسة الحكومة السابقة، يوليا تيموشنكو، تعلن الاضراب عن الطعام، في المستشفى الذي تقضي فيه عقوبة سجن، احتجاجاً على عدم التوقيع مع الاتحاد الاوروبي، بينما تنتظر ان تسمح لها حكومتها بالخروج من البلاد، لمعالجة مشاكل صحية خطيرة.
وبدا الرأي العام الاواكراني مفضلاً التحالف مع اوروبا، لكن البرلمان ذا الاكثرية الموالية رفض سحب الثقة برئيس الحكومة، وصفّر له، عندما تكلم باللغة الروسية، وليس بالاوكرانية.
وفي ردود الفعل الدولية، الغى وزير الخارجية الاميركية، جون كيري، زيارة كان من المقرر ان يقوم بها الى كييف، عاصمة اوكرانيا، خلال هذا الاسبوع، وقد يكون الالغاء مرتبطاً بعدم توقيع حكومتها، على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي، ولكنه زار مولدافيا، دولة الثلاثة ملايين وستمئة الف من السكان، التي تكثف  علاقاتها مع الاتحاد الاوروبي والدول الغربية، فكانت اول زيارة يقوم بها وزير خارجية اميركي الى مولدافيا، منذ زيارة جيمس بايكر، في سنة 1992، بعد استقلالها عن موسكو، وقال مصدر في وزارة الخارجية الاميركية: «ان واشنطن تريد ان ترسل اشارة دعم قوية الى تلك الدول الشرقية التي تحركت نحو الاتحاد الاوروبي، اشارة الى التزامها بالاصلاحات. والتقى جون كيري وزيرة خارجية جورجيا، مايا بانييكايدتزه، وكانت حكومة تبليسي، وقّعت على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي، في مناسبة قمة الشراكة الشرقية، التي انعقدت منذ ايام، في فيلنيوس في ليتوانيا.

استقطاب
ويبقى ان الاتحاد الاوروبي يأمل في استقطاب على مستويات مختلفة، 6 دول، من الاتحاد السوفياتي السابق. واذا استمرت اوكرانيا في موقفها الرافض، تنطلق الشراكة الشرقية من جورجيا ومولدافيا، بينما يبقى ازدهار اذربيجان وارمينيا وبيلوروسيا، مهدداً من عدم استقرارها السياسي، وتستمر يد الاتحاد الاوروبي ممدودة الى رئيس حكومة اوكرانيا، بانوكوفيتش، الذي شارك في قمة الشراكة الشرقية. ولكن ماضي اوكرانيا، ما زال يضغط. ولا تزال روسيا سوقها التجارية الاولى. وتبقى علاقاتها التجارية والثقافية، قوية مع روسيا، بالرغم من تواجد شركات ومؤسسات غربية، فخافت ان يكون الانتقام الروسي اكثر ضرراً من الفوائد التي قد تجنيها من الشراكة الغربية.
وكانت ليتوانيا، السباقة في ركوب الاجنحة الغربية، بعد زوال الاتحاد السوفياتي، وتترأس دورياً، مجلس الاتحاد الاوروبي، وللمناسبة بعد رمزي له ابعاده، ليس لانها كانت عضوة في المعسكر الشرقي، سابقاً، فحسب، بل لانها المرة الاولى، التي تعود  فيها رئاسة المعسكر الاوروبي الغربي، الى دولة كانت اراضيها جزءاً من الاتحاد السوفياتي، حتى سنة 1991.
وكانت موسكو بدت بعد سقوط حائط برلين، في سنة 1989، وكأنها تستسلم لتفتت، منطقة نفوذها الاوروبي، التي كرستها معاهدتا يالطا وبوتسدام، الموقعتان من الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ولزوال سوقها المشتركة (كوميكون)، وتحالفها العسكري (حلف وارسو)، بينما انخرط حلفاؤها السابقون في الاتحاد الاوروبي، والحلف الاطلسي. ولكن الاتحاد الاوروبي ليس في نظر رئيس روسيا الحالي، فلاديمير بوتين، رجل الـ «ك. ج. ب» في ايام الحرب الباردة، اكثر من ذراع مدني لتحالف عسكري، الذي هو الحلف  الاطلسي، الذي تقوده الولايات المتحدة، خصمه القديم، فيرى اية محاولة من التنظيمين للاقتراب من حدوده محاولة من القوة العسكرية الاميركية لمحاصرته.

اعادة تجميع
ويعمل بوتين، لاستعادة الوزن الدولي، الذي كان للاتحاد السوفياتي، عبر اعادة تجميع الجمهوريات التي كانت تكوّن الاتحاد السوفياتي. ويسعى الى تشكيل سوق مشتركة، هي الوحدة الاقتصادية اليورو – اسيوية، واما الاسلحة التي تعتمدها موسكو، على هامش طاقتها العسكرية، التي اكل عليها الدهر، فانها الضغط على تصديرات الدول المعنية، الى روسيا وفرض شروط تعجيزية على امدادها بالغاز الذي تحتاج اليه هذه الدول.
وانضم الى هذا الوضع، سعي الرئاسة الليتوانية الى اتفاقية مشاركة بين الاتحاد الاوروبي واوكرانيا ومولدافيا وجورجيا، كجزء من المشاركة الاسيوية التي انطلقت من براغ ووارسو، في 2009 و2011، اما ارمينيا، فانها رفضت الدعوة، لعدم رغبتها في الابتعاد عن موسكو، حليفها الاساسي، في الصراع على ناغورنو-كاراباخ، مع اذربيجان. وامتنعت اوكرانيا، قبل اسبوع من انعقاد القمة بعد ان قاطعت موسكو صادراتها وان هددت بقطع امدادات الغاز.
وعندما كانت بولونيا تتفاوض على انتمائها الى الاتحاد الاوروبي والحلف  الاطلسي، كان الوزير برونيسلاف  جيريميك، يتحدث عن فصل حدود «الدب الروسي» عن بقية اوروبا بواسطة حدود فاصلة، لتجنب اعادة تجارب جديدة، كالتي ضربت بولونيا بين سنتي 1945 و1989. من هنا كان اصرار  بولونيا على الاعتراف  باوكرانيا، دولة مستقلة.
ومع الشراكة الشرقية، كانت حدود الاتحاد الاوروبي وصلت الى روسيا، كما حصل مع الجمهوريات البلطيقية.

التمسك باوكرانيا
تحرص روسيا على عدم خسارة جورجيا ومولدافيا، اللتين لها معهما خلافات حدودية،  ولا تريد خصوصاً، خسارة اوكرانيا، الدولة الستراتيجية، ذات «المصالح» الاقتصادية، والتي ينتظر الروس المتدينون الى عاصمتها على البحر، كييف، على انها مدينة مقدسة، والتي يقيمون في مرفئها الآخر، سيباستوبول، قاعدة قيادة للاسطول الروسي، في المتوسط. وكانت اوكرانيا سعت منذ استقلالها على موازنة علاقاتها مع موسكو ومع الاتحاد الاوروبي، الامر الذي زعزع استقرارها، باحداث مثل تسميم الرئيس فيكتور يوشنكو وسجن رئيسة الحكومة السابقة يوليا تيموشنكو، بعد محاكمة انعدمت  فيها اية ضمانات حقوقية، وادانها الاتحاد الاوروبي.
وكانت موسكو عبرت عن انزعاجها وغضبها في الاشهر الاخيرة، بزيادة العقوبات الاقتصادية والطاقية، على الدول المتهمة، في تطور وضع دول المنطقة والعالم، في مواجهة وضع جديد كادت القيود على تصدير الغاز الروسي مثلاً، تضع استقرار دول المنطقة، الشرقية في اوروبا على المحك، وكذلك مستقبل العلاقات بين بروكسل وموسكو، بسبب موقع الغاز الروسي.
البعض اعتبر ان توسع الاتحاد الاوروبي شرقاً، ابتداء من التسعينيات، جرى في صورة متسرعة وقبل أوانها، ساهم فيها المستشار الالماني الاسبق، هلموت كول، للاستفادة من الضعف  الذي اصاب موسكو، ولكن الوضع اليوم مختلف، فروسيا لم تعد كما كانت في الامس، وكذلك الاتحاد الاوروبي على حدوده. وعندما سعى الى ضم دول اوروبية، سوفياتية سابقاً، كان عليه ان يفعل بدقة، حتى لا تشعر موسكو، بانها مهددة، فتظهر الشراكة الشرقية، وكأنها جسر لا سلاح مهدد.
الجنرال ديغول، كان تطلع الى يوم قيام اوروبا، تمتد من الاطلسي الى جبال الاورال تضم موسكو. ولكن من المستحيل اليوم ان تنضم روسيا الى الاتحاد الاوروبي.

جوزف صفير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق