فاروق محمد يبحث عن طفولته البارحة واليوم وغداً
انها بكل صدق لوحات احاسيس تعبر عن حالات وجدانية بجو طفولي، نقصد مجموعة لوحات الفنان فاروق محمد الاخيرة في غاليري زمان الحمرا – بيروت، تحت عنوان «البارحة واليوم وغداً»… لوحات تتجلى فيها مفردات ريفية بسيطة، سهول وسهوب مترامية آتية من السماء الى الارض.
مساحات كبيرة ضمن 35 لوحة بالاكريليك على القماش يلفها ضباب وتفاصيل من الطفولة غابت من الذاكرة في وجه الزمن. تفاصيل تشغلها في بعض الاحيان بقع لونية باهتة كأنا بالرسام القادم، بعد ان تزود بكل ما يلزم لاغناء المختبر الفني، يبحث فيها عن الطفل الكامن فيه وينتظر لحظة الخروج، الباحث دائماً عن طبيعة رسمت في ارشيفه البصري والوجداني منذ الطفولة تحمل رائحة قريته عفرين في الشمال السوري حيث نشأ وترعرع.
بين الحلم والواقع
حين نتأمل لوحاته الموزعة في صالة زمان يستوقفنا قبل كل شيء ذلك التوافق الحميم بين الحلم والواقع عنده حيث استطاع ان يبدع وان يخلق لنا عوالم واجواء شديدة الغنى. اما سطح لوحته فنسيج واحد، العنصر يتوالد من السطح والسطح يتوالد من العنصر بمعنى ان الشكل متزن وساكن وسط فراغ يتجاور مع الشكل بذكاء مما يدعو المتلقي للتأمل.
اعتمد الفنان الاسلوب التجريدي المتداخل مع الانطباعي فنرى ان لوحاته تتداخل فيها هندسة المشهد البيئي المتوالد من الريفي وتتألق فيها المساحات الملونة وكأنها تغطي النواحي النوستالجية عنده عبر صور استردادية من ذاكرة الامس، وذلك ضمن طبقات من الالوان المشغولة بحرية، لكنها تبقى محددة في المصوغ التجريدي، محكومة بالانغلاق داخل مدى المكونات المشهدية للعمل. ولعل ابرز ما يميز تجربة فاروق محمد، هذا، التقابل للمضادات في لوحته دون ان تتخلى عن عناصرها وتتباعد العناصر فيها دون الخروج عن مكان اللقاء في نقطة التضاد او في نقطة الارتكاز داخل اللوحة.
اما اذا امعنا النظر في اللوحات فاننا ندرك اهمية الرؤية الفنية وقدرتها على توجيه صاحبها نحو احتمالات تعبيرية غير جاهزة، تقوم على الحذف والاضاءة والتشطيب مما يؤكد مسألة الاختبار التقني الذي يسبق مرحلة الوصول الى القناعات الثابتة في فراغ السطح التصويري. وهو في كل ما يفعل لا يصف مكاناً معيناً او نوعاً معيناً او اشخاصاً محددين او عناصر محددة من الطبيعة، لكنه يعيد تركيب الاشياء من خلال ترجمته الحرة للواقع. فنجد في نتاجه اماكن وهمية ووجوه اشخاص مخلوقات، يعجب الفنان ان يضعها كما يشتهي ضمن المشهدية الجديدة التي خلقها.
الطبيعة الخارجية
من الواضح ان الفنان يفضل التركيز على التحليل والالهام اكثر من الاستنتاج وقيادة الاشكال على بنائها. اذاً فان الطبيعة الخارجية المراجعة والمصححة من قبله تشكل عبر تحولها مصدر الهامه، وبذلك تصبح اللوحة غرضاً لامتاع الحواس او شيئاً حيوياً بامكانه التواصل بشكل مباشر. اذاً مما لا شك فيه ان الفنان استطاع ان يترجم من خلال لغة تشكيلية للاشكال والالوان المتناغمة اضداداً قوية من هذا العالم المشهدي والرمزي الذي يشكل جزءاً من مخيلته. وفي هذه الاجواء بالطبع تختلط الامور على الناظر فيشك انه كان داخل العالم المرئي حيث المظاهر تشهد او ان كان في عالم اخر حيث القواعد والايقاعات السرية تأخذ اشكالها امام عينيه. ومن هنا، من هذا الغموض تولد الاجواء الشاعرية الخاصة بهذا المعرض.
وفي الختام يمكن القول بأن فاروق محمد في معرضه الذي نحن في صدده، كما في معارضه السابقة، اتجه الى التجريد انطلاقاً من تجارب العديد من الفنانين المعاصرين ولا سيما الاختبارات الآتية من رؤية الاختبارات التعبيرية – التجريدية القائمة على فكرة الغاء البعد الثالث واضفاء المزيد من التسطيح في خطوات اعادة صياغة المشهد المستعاد من مخزون الانطباع وليس من الرؤية البصرية المباشرة.
كوثر حنبوري