ماذا يجري في دولة جنوب السودان؟

في الساعة الثامنة والنصف، من مساء الثلاثاء الماضي، وبينما كان عدد كبير، من سكان جوبا، عادوا الى اكواخهم المحرومة من الاضاءة، ظهر رئيس دولة جنوب السودان، احدث دول الكرة الارضية ولادة، ليعلن اعفاء نائبه مع الحكومة بكاملها من المسؤولية وتسريحهم.
قرار سالفا كير مايارديت، فاجأ الكثيرين من المعنيين المباشرين، فلم يعرف عدد كبير من الوزراء بخبر «تسريحهم»، شأن سائر الناس، الا من التلفزيون.
ضربة غير متوقعة، وسط اوضاع مترجرجة منذ اشهر، تضع جنوب السودان الذي لم يحصل على استقلاله الا منذ 24 شهراً، على حافة صراعات داخلية جديدة.
وبعد ليلة، فاجأت الجميع بهدوئها استفاق جنوب السودان، غارقاً في لجة من التوتر واللا-امن. فأغلق الجيش بعض الطرق الرئيسية التي توصل الى العاصمة، وعزل، لبعض الوقت، مربع الوزارات والبرلمان، وفي سوق كونيو كونيو، الاكبر في العاصمة، وقعت بعض المشادات جعلت الناس يهربون فزعاً.
الاخبار الآتية من جنوب السودان، بقيت متقطعة ونادرة. لم يذهب العديد من الناس، الى مراكز عملهم. وبقيت المحلات مقفلة، ودعي موظفو بعثة الامم المتحدة (اكثر من عشرة آلاف شخص) والمنظمات الاجتماعية العاملة في البلاد، الى عدم ترك مجمعاتهم.
صراعات على الصلاحيات
جاء المرسوم الرئاسي، في ختام مرحلة توتر صامتة، بدأت تتصاعد منذ شهر شباط (فبراير) الماضي، عندما بدأ الرئيس سالفا كير تطبيق عملية اعادة تنظيم للجيش، بتسريح ليس اقل من 117 ضابطاً كبيراً. كثيرون رأوا في هذه المبادرة، تحركاً يرمي الى موازنة وجود عسكر من اتنية النوير، التي ينتمي اليها نائب الرئيس ريك ماشار. بينما ينتمي سالفا كير مع اكثرية اعضاء الحكومة الى اتنية دينكا، التي جاء منها البطل الثوري جون غارانغ، الذي قتل في حادث طائرة، في العام 2005، وكان جرى، تحويل قوات الثورة «جيش التحرير الشعبي» الى جيش الدولة الوطني. في حين كان ريك ماشار (نائب الرئيس المعزول)، على رأس عملية انشقاق دموية، في صفوف جيش التحرير، خلال الحرب الاهلية السودانية الثانية، فعرّض جبهة المعارضة، الى خطر التحاق بعضها بحكومة الخرطوم. ويلتحق قرار «تسريح» نائب الرئيس والحكومة باكملها، بعد تخفيض عدد اعضائها، من 29 الى 18 وزيراً، بتخفيض صلاحيات نائب الرئيس، في 15 نيسان (ابريل)، جعلت منه مجرد قائم بالاعمال. ويتميز نائب الرئيس بحيوية مبالغة، وبشعبية كبيرة. وكان قال، في حديث ادلى به مؤخراً الى جريدة «غارديان» البريطانية، انه على استعداد لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي ستجرى في سنة 2015. فكانت عملية تحد مفتوح، لزعامة سالفا كير.
الانعكاسات
وما يخشاه المراقبون، هو انعكاسات ما جرى على المسرح السياسي السوداني – الجنوبي، وعلى اوضاع افريقيا الشرقية كلها، والتي يمكن ان تكون مأساوية. فان دولة جنوب السودان، تحتل بعد سنتين من قيامها المرتبة الرابعة، في تراتبية «الدول الفاشلة». وكانت الثروة الطبيعية الوحيدة التي تملكها الدولة الشابة، وهي النفط قد توقف عن السيلان، في كانون الثاني (يناير) 2012، عندما سكرت جوبا الحنفيات، متهمة حكومة الخرطوم بـ «سرقة» ما يساوي 2،1 مليون برميل من الذهب الاسود، ضريبة على عبور النفط. فدولة جنوب السودان، لا تطل على البحر، من اي مكان، وليس لديها اكثر من 300 كلم من الطرقات المفروشة بالاسفلت. فيبقى خط الانابيب الذي ينقل النفط الخام من حقول جنوب السودان، الى مصافي بور سودان، في الشمال، الوسيلة الوحيدة لتصدير نفط الجنوب، ثم اعيد فتح الابار وتشغيل خط الانابيب، في ايار (مايو)، مما اثار آمالاً قصيرة المدى، انتهت عندما هدد الرئيس السوداني البشير باغلاق الانابيب مجدداً، ابتداء من 7 آب (اغسطس) متهماً سلطات جوبا، بدعم ميليشيات كردفان الجنوبية المتمردة.
بينما تعتبر جوبا، من جهتها، الخرطوم الداعم الرئيسي للتمرد الذي يقوده دايفيد ياو ياو، في ولاية يونغلي، حيث يعتبر مراقبو الامم المتحدة، ان الوضع انحدر الى مستويات المآسي الانسانية. ان عشرات السنين من الحروب الاهلية، والصراعات العسكرية بين القبائل، التي لا تتوقف والمرتبطة، خصوصاً بسرقة المواشي، منعت حتى الآن، تطوير قطاع زراعي قادر على التنافس، مما يعني الاضطرار الى استيراد كل احتياجات الاسواق، تقريباً، من الدول المجاورة، والى ارتفاع الاسعار، في شكل جنوني، في حين ما يزال الامن الغذائي، من عالم السراب.
تسريح ماشار
وجاء التدبير الاخير يدفع سالفاكير الى اخراج اقوى الداعين الى الحوار مع الخرطوم من الحكومة وهو: ريك ماشار، وباغان آمون، الامين العام لحزب الحكومة.
فتبدو آفاق ورقة جنوب السودان، تزداد تلبداً من يوم الى يوم. فالاحتفال في 9 تموز (يوليو)، بالذكرى الثانية لقيام دولة جنوب السودان، ترافق مع تخريج اول دفعة من الممرضات، منذ ولادة الجمهورية، جئن من كل ولايات الدولة والقبائل الاربع التي تكون شعبها. فيعدن الى مناطقهن، يشكلن العمود الفقري للنظام الصحي الذي سيقوم. لانه غير موجود في الوقت الحالي. كما ان ليس في جنوب السودان، دولة، واي شيء قائم، في استثناء القوات المسلحة.
فدولة جنوب السودان، ولدت قبل اوانها، وستبقى في رعاية الامم المتحدة، مدة طويلة، تحوطها برعايتها بسبعة آلاف قبعة زرقاء، و22 وكالة للتعاون والانماء. وكان مؤسس الكيان، جون غارنغ، الذي مات بعد توقيع اتفاقيات السلام، معارضاً للانفصال عن الخرطوم، «قبل ان يقوم الشمال بتطوير الجنوب». بينما الذي حصل، هو ولادة دولة بين الاكثر فقراً في العالم، ليس فيها وسائل نقل وفيها طبيب لكل عشرة آلاف شخص، تستورد 97 في المئة من مواردها الغذائية، و70 في المئة من سكانها لا يجيدون الكتابة والقراءة وتسود فيها الملاريا والسيدا، على كل شيء آخر.
ولكنها مشاكل لا تعني المناطق النخبة المزدحمة في جوبا، اكثر من اللزوم. التي تجوبها سيارات الاثرياء الجدد، الفخمة، من ذات الثماني اسطوانات، بينما تعيش جوبا تفجراً عمرانياً هائلاً، يزرعون فيها مداخيل النفط: نصف مليون برميل في اليوم و 3 مليارات دولار في السنة.
بينما كل شيء آخر، هو في عهدة الامم المتحدة، التي يعتبر ممثلها طوني لانزر، ان قيام دولة متكاملة، يحتاج الى حوالي 20 ام 30 سنة، ولكنه يشير الى انجازات مثل مدرسة الممرضات، وزيادة عدد الاطفال الذين يذهبون الى المدرسة في معدل الضعف، الى جانب تحسن احوال الامن.
قبيلة الدينكا
ولكن منطقة جونغلي، حيث يقاتل الزعيم الميليشياوي، دايفيد ياو ياو، «تسلط الدينكا»، فانها ارض لا احد. وينتمي الرئيس الحالي سالفا كير مايارديت (الذي لا يتخلى عن قبعة الكاوبوي، التي اهداه اياها الرئيس جورج دبليو بوش) الى الدينكا، شأن اكثرية المسؤولين في الحكومة المركزية.
سوزان بايدج، السفيرة الاميركية، تعتقد انه «اذا جرى كل شيء على ما يرام، فان الاوضاع قد تنتهي الى ما آلت اليه في السنغال، حيث تسيطر اتنية وولوف، ولكن في اطار من التوازن»، اذا جرى كل شيء على ما يرام، بعد ازاحة نائب الرئيس، سيد قبيلة الحرب الاهلية السابق، النوير، وجيش قوامه 40 الف مقاتل لا يأتمرون الا به. واذا لم يصر سلفا كير على تجديد ولايته في 2015. فعندئذٍ قد تتفجر جهنم، وكانت جوبا تعيش حتى تطورات الاسبوع الماضي، في ظل منع تجول، يبدأ في الحادية عشرة ليلاً، لا يمنع حياة ترف، يعيشها شباب «النخبة» في مطاعم العاصمة.
وكان من المفروض، ان يجعل جماعة الدينكا، من قرية رومبيك، حيث ولدت الثورة الجنوبية، عاصمة الدولة الجديدة، ولكنهم فضلوا تأجيل التنفيذ، بسبب النقص في البنى التحتية والمال. فالمدينة، لا وجود لها، وسط الغابات التي تحوط بها، في اجواء رطوبة مثقلة. تحول كل شيء الى مرتع للبرغش، حيث ان موسم الامطار، لم يظهر بعد كرماً زائداً. فيتحول هذا البرغش، الى القاتل الاكثر وحشية. في بلاد عايشت الحرب الاهلية من 1981 الى 2003. ففي جنوب السودان، لا يبلغ سن الخامسة، طفل من اصل ثمانية، بسبب امراض الملاريا والسل، والسيدا. بينما يكفي القليل لانقاذ 90 في المئة منهم.
وتسعى منظمة «غلوبال فاند من اجل افريقيا والشرق الاوسط»، مع الامم المتحدة، ومنظمات غير حكومية، مثل «براك» السنغالية، الى تربية العائلات، وجعلها تنام تحت ناموسيات، والتعرف الى علامات الامراض، وانقاذ مئة في المئة من الناس.
شكوى الاطباء
مؤسسة يونيسيف، التابعة للامم المتحدة، تعتبر ان «اسوأ مكان تصبح فيه المرأة اماً، هو جنوب السودان»، ولكن مؤسسات مثل مستشفى الراهبات في مابورديت، توفر للنساء فرصة اضافية، ويتولى توزيع الواقيات التي تحمي من السيدا، ونقله من الام الى الطفل.
الطبيب، فليكس تولينغو غورا، مدير مستشفى الصباح، في جوبا، يشتكي خصوصاً، من قطع التيار الكهربائي في الليل، الذي يجبر الاطباء على العمل في ظل المصابيح. واذا كان المستشفى، تمكّن بفضل مساعدات غلوبال فاند، من شراء اجهزة متطورة، فانه لا يستطيع تشغيلها، دائماً، بسبب النقص في الوقود، وليس في المستشفى، اي طبيب اطفال، سواه فنضطر الى معاينة 200 مريض في اليوم، وليس في جنوب السودان كله، سوى 5 اطباء اطفال.
ج. ص