دولياترئيسي

سلام في تركيا على انقاض عقود من الحقد؟

تاريخي، هو القرار الذي وجهه عبدالله اوجلان، من سجنه، الى مقاتلي حزبه العمال الاكراد، وقرأه نائبان من «حزب السلام والديموقراطية»، الكردي المعتدل امام مئات الالاف من الناس، تجمعوا في اكبر ساحة في ديار بكر، عاصمة كردستان التركية.

في يوم عيد رأس السنة الكردية، عيد النوروز، عيد النار، امر عبدالله اوجلان، مقاتليه بالتوقف عن اطلاق النار، والانسحاب من الاراضي التركية، والافساح في المجال امام الافكار.
واكد القائد العسكري لحزب العمال الاكراد، مرات كارايلان، الرجل الثاني في الحركة، ان المقاتلين التزموا بالقرار. وكانت الصحف التركية، اشارت الى انه كتب منذ ايام الى رئيسه السجين، ان المقاتلين سيلتزمون بالقرار.
والذين يعرفون بلاد الاكراد، ليس في استطاعتهم، ان ينسوا ذلك السور، الذي يحوط بديار بكر، المبني بالحجارة البركانية السوداء، ويشكل اطول تحصين في العالم، بعد جدار الصين الكبير، انه مثال مهيب للهندسة العسكرية التي تروي تواريخ الجيوش والامبراطوريات التي وقفت على ابواب المنطقة.

بلاد الاكراد
هنا تبدأ بلاد الاكراد، الذين يشكلون نحو 20 في المئة من 75 مليون تركي، بلاد تبعد 1300 كلم عن مضيق البوسفور، غارقة في اعصارات الشرق الاوسط، على الحدود، بين سوريا والعراق وايران، وتركيا التي تحشد اكثر من 100 الف جندي، في جنوب – شرق الاناضول، الذي هو الاسم الرسمي للمنطقة، في مواجهة ملاذات مقاتلي حزب العمال الاكراد.
وكانت الايام الماضية، شهدت توافد اكثر من مليون شخص الى ديار بكر، ينتظرون الاعلان التاريخي الذي جعل تركيا، تبدأ تعتقد بأن السلام في المنطقة الكردية، على الابواب.
وفي عيد النوروز، التزم عبدالله اوجلان، المعروف بآبو (65 سنة) بوعده، واعلن من السجن الذي يقضي فيه حكماً بالسجن المؤبد في جزيرة ايمرالي، الخطوة الجدية والمهمة الاولى، على طريق مفاوضات بدأت في كانون الاول (ديسمبر) الماضي، مع رئيس الحكومة التركية، رجب طيب اردوغان، وترافق نداء الزعيم التاريخي للعمال الاكراد، بداية انسحاب حوالي 3000 مقاتل كردي، نحو جبال قنديل، في كردستان العراقي، الذي يشكل منذ سنوات معقلاً لمقاتلي العمال.
ولا يشكل ما سبق، الا خطوة اولى، لمفاوضات مدعوة انقرة لان تضع على طاولتها تنازلات حسية، لان الاكراد يطالبون بمزيد من الحقوق السياسية، وبمزيد من الحكم الذاتي، وبامكانية ان يتكلموا اللغة الكردية، وباطلاق سراح عبدالله اوجلان، او، على الاقل نقله الى حالة الاقامة الجبرية، مع آلاف الناشطين الاكراد، الذين اعتقلوا خلال السنوات الماضية.

استبعاد العفو العام
وكان رجب طيب اردوغان، استبعد حتى الآن، امكانية اصدار عفو عام واطلاق سراح اوجلان، ليتجنب المواجهة المباشرة مع القوميين الاتراك. فعبدالله اوجلان، يبقى في نظر الجمهور التركي العادي، العدو العام رقم واحد، الرجل الاكثر كرهاً لدى الرأي العام، الذي يعتبره مسؤولاً عن مئات العمليات الارهابية، ومن اجل ان نفهم كيف تعمقت اجواء الحقد والكره هذه، والتناقضات غير القابلة للحل، نتوقف عند ما حصل في سنة 1998، وضبطاً بين ايطاليا وتركيا، ففي تلك السنة تدهورت العلاقات بين تركيا وسوريا، التي كانت تدعم حركة اوجلان، وتسمح له باقامة معسكرات تدريب في البقاع اللبناني، وبلغ التوتر بين البلدين، حد الوصول الى حافة المواجهة العسكرية، تقريباً، كما هو حاصل اليوم، ولو لاسباب مختلفة. ولهذا السبب، ولاسباب التخلي عن حزب العمال الاكراد، ولكنها لا تصل الى حد تسليم زعيمهم الى تركيا. واكتفت باغلاق معسكرات التدريب في لبنان، وبدعوة عبدالله اوجلان، الى الخروج بسرعة من سوريا، فكانت بداية رحلة مغامرات طويلة ومعقدة.
فسافر الى موسكو، حيث لم يستطع البقاء فيها ومنها انتقل الى روما عبر لندن، في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998، على امل الحصول على حق اللجوء السياسي، ولكن تهديد تركيا بمقاطعة ايطاليا، اقتصادياً، جعل حكومة الوسط اليساري، التي كان يترأسها جيوزيه داماتو، تعيد التفكير، بعد ان وصلت المواجهة بين البلدين، الى حد القطيعة الديبلوماسية.
ولكن لم يكن في استطاعة الحكومة الايطالية، تسليم عبدالله اوجلان، الى تركيا، التي كانت تطبق عقوبة الاعدام، بينما وصلت موافقة القضاء الى السلطات الرسمية، على منحه حق اللجوء السياسي متأخرة… جداً، فأقنعت السلطات الايطالية عبدالله اوجلان، بالانتقال الى نيروبي، حيث القت المخابرات التركية القبض عليه، بعد حوالي الشهر.

جرح دام ينزف
ومنذ عهدئذ، كان اسوأ ما يمكن ان يصيب عائلة تركية، هو ارسال احد ابنائها الذي يؤدي الخدمة العسكرية، للخدمة في كردستان تركيا. وبقيت صور النعوش الملفوفة بالعلم التركي، العائدة من ساحات القتال، كابوس جيل كامل من الشباب التركي.
بينما كانت تشكل هذه الحرب، في الجانب الكردي جرحاً دامياً، ينزف في شكل متواصل، وكان يغيب، شاب من ديار بكر، من وقت الى آخر، وانضم شباب الـ «شريدان» (الانتفاضة باللغة الكردية) الى مقاتلي العمال. وكان الذين لا يعتقلهم الجيش التركي، يختفون  ويعودون الى الـظهور، في الجبال. ام ينصرفون الى عمليات التهريب، مع كردستان العراق، الذي حوّله البترول الى الصفحة المشرقة في حياة الاكراد.
وفي دراسة لجنة الارهاب في البرلمان التركي، ان عدد ضحايا 30 سنة من الحرب الاهلية، بلغ 35386 قتيلاً، و3000 قرية محروقة، وتتحدث الدراسة عن سقوط 8 آلاف من رجال الدولة اكثريتهم من العسكر. و5500 مدني تركي. واما البقية فمن مقاتلي العمال. وتقول الدراسة التي نشرتها جريدة زمان، القريبة من السلطة، ان الحرب اجبرت 386 الف شخص على ترك بيوتهم، في جنوب شرق البلاد، بينما تتحدث ارقام اخرى عن مليون ونصف مليون لاجىء، فتحولت الاناضول الجنوب الشرقية الى شوكة في خاصرة تركيا، الطامحة الى ان تصبح دولة ذات شأن في الشرق الاوسط وينصح تقرير اللجنة، باستغلال اية فرصة لحل المشكلة الكردية، كالمفاوضات التي ادت الى وقف اطلاق النار، في حرب كلفت البلاد 400 مليار دولار، في حساب النمو.
ولكن التقرير استبعد اي حل عسكري وحده: «لأنه لو كان بالامكان التوصل الى حل هذه المشكلة بالطرق الحربية، لكان جرى ذلك، في التسعينيات.
وتتميز منطقة الاناضول الكردي، باهمية موقعها الجغرافي، الغني بالثروات المائية، وبالسدود الكبيرة، على طريق انابيب النفط والغاز، على حدود العراق. وايران وسوريا، التي تعيش الاضطرابات التي نعرف، والتي تضم اقليات كردية، مما يرفع المجموع الى ما بين 30 و40 مليوناً. شعب، آخر بلا وطن، في هذه المنطقة من العالم، لم ير كردستان، إلا مرة واحدة، مرسومة على خرائط معاهدة سيغر، التي محتها معاهدة لوزان في سنة 1923، وسجلت قيام تركيا الحديثة.
ومن اجل حل مشكلة بلاده، قال رجب طيب اردوغان، انه على استعداد لـ «ابتلاع السم»، من اجل سلام قد يضمن له الوصول الى رئاسة الجمهورية. من دون منافس في السنة المقبلة، ربما بعد ادخال تعديلات على الدستور، تحول تركيا الى جمهورية رئاسية يكون فيها اوجلان، احد ناخبيه الكبار.

جائزة نوبل
وفي الافق، حديث عن ترشح، رجب طيب اردوغان لجائزة نوبل للسلام 2013، اذا تمكن من ايجاد المخرج السياسي النهائي، للصراع الكردي، مثلما منحت الجائزة الى باراك اوباما، في العام 2009، بمجرد انه اعطى دفعة لمسار السلام الفلسطيني، لم تتجسد بعد حتى بعد المحاولة الاخيرة.
وسبق لمؤسسة ستوكهولم، ان كافأت تركياً آخر، بجائزة نوبل للآداب، في تلك المرة، هو الكاتب اورها باموك.
ولكن مسار السلام الكردي، دونه عقبات حتى كردية، كما دلت الاغتيالات التي قضت على حياة ثلاث من الناشطات الكرديات في باريس، كانت بينهن سكينة كانشيس، احدى مؤسسات حزب العمال.
ويبقى انه من الصعب تضخيم اهمية ما حصل، مع صراع حد كثيراً من طموحات انقرة في مختلف المجالات على مدى 30 عاماً.
وما زال من السابق لاوانه اطلاق الاحكام في الهواء امام السيناريو الجديد، لان التاريخ المأساوي بين الدولة التركية واقليتها الكردية، يفرض بعض الحذر، على ضوء الفشل الذي ضرب مبادرات سابقة مماثلة، ولكن الاصداء والاطر المحيطة تبدو مبشرة في هذه المرة. فعبدالله اوجلان، يشدد في النداء الذي وجهه من سجنه، ان ساعة وقف صوت السلاح والافساح في المجال امام الافكار، دقت وامر اوجلان قواته بالانسحاب من الاراضي التركية، الى كردستان العراقي، بعد اشهر من المفاوضات بالواسطة، من سجنه في جزيرة ايمرالي، مع رئيس الحكومة التركية، اردوغان.
واما الضاغط الاكبر على هذه المفاوضات، التي دارت بالسر، فكان الاقتناع بان الفريقين ليسا في موضع يسمح لهما بالانتصار، فلا الجيش التركي الهائل، تمكن من تركيع التصميم الكردي، على النضال من اجل تقرير المصير والاعتراف الكامل بحقوق قومه، ولا توصل الاكراد الى الحاق الهزيمة، باحد اقوى جيوش الحلف الاطلسي.

الانتخابات الرئاسية
التقى عنصران بارزان ملحان على التفاوض، اولهما الانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا، التي يحتاج فيها اردوغان الى دعم الحزب الكردي الممثل في البرلمان، «من اجل السلام والديموقراطية». للوصول الى رئاسة الجمهورية.
والعنصر الثاني، المتجدد الضاغط، هو الحالة السورية، وامكانية ان ينشىء اكرادها منطقة خاصة بهم في الشمال.
فهل سينتقل مقاتلون من جماعة اوجلان المنسحبون من تركيا الى سوريا؟
الفرصة تاريخية، اذاً، بامتياز وان كان ليس هناك ما يبشر بان المسار الذي بدأ مع عيد النوروز سيكون سهلاً.
لكن الأمل بوضع حد نهائي لعذابات سببها حرب استمرت عقوداً قد يكون اقوى من الحقد الذي تكدس في النفوس.

ج. ص

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق