آدب

مؤتمر: نشر تعاليم العرفان قبل ان يدّمر العالم نفسه

باندفاع لافت، وبجهود مضنية، يواصل رئيس «المجمع الثقافي العربي» المفكر البروفسور فكتور الكك تأدية الرسالة التي قام  من اجلها هذا «المجمع»، وهو الذي يوظف الثروة المعرفية التي يختزنها، بغية تحقيق الاهداف التي يؤمن بها، وصولاً الى التقريب بين الاضداد، والى احلال السلام بين الاديان والثقافات والحضارات، والتقارب بين الشعوب والاوطان… من هنا، كانت الخطوة الجديدة التي اقدم عليها البروفسور فكتور الكك من خلال تنظيمه للمؤتمر المشترك بين «المجمع الثقافي العربي» في بيروت، و«مؤسسة العرفان الاسلامي» في طهران، تحت عنوان: «العرفان الاسلامي والمسيحي بين النظرية والتطبيق». وكنت في عداد الوفد اللبناني الذي شارك في هذا المؤتمر الدولي الكبير، حيث ركبت بساط الريح الى ديار الف ليلة وليلة، للمرة الاولى في حياتي، مكتشفاً هذه البلاد الاسطورية التي شغلت العالم، قديماً وحديثاً، في حقول مختلفة.

رئيسة «مؤسسة العرفان الاسلامي» وامينة المؤتمر للشؤون العلمية، الدكتورة فاطمة طباطبائي، قالت في كلمتها: «ان الهدف من اقامة هذا المؤتمر هو تبادل الافكار والآراء مع المتخصصين في مجال العرفان الاسلامي في دول العالم».
وذكرت، ان هذا المؤتمر يعقد بتعاون عدد من اساتذة الجامعات والمؤسسات اللبنانية، وان احد اهداف «مؤسسة العرفان الاسلامي» يرتكز على تقديم العرفان الاسلامي الاصيل للشباب في ظل هذه المراحل الحساسة التي يتعطش الشباب لاكتساب المعنويات. مضيفة، ان الحقائق والوصايا العرفانية لا تعرف مكاناً وزماناً، وان البشر يمكنهم الاستفادة من هذه التعاليم والوصول الى السمو.

سعياً الى احلال السلام بين الشعوب والامم
في بحثه العميق والموسع، تناول البروفسور فكتور الكك، النزعة الانسانية التي يقوم عليها العرفان الاسلامي والتي لا تفرّق بين الاديان والطوائف والمذاهب، من جهة، والاعراق والاجناس، من جهة اخرى، فهو يؤمن بأن اصل الاديان واحد، وان بعض الاختلاف بينها يعود الى ظروف نزولها، وان الحقيقة واحدة لا يتفرّد بها دين من دون دين آخر، «فالطرق الى الله في عدد انفاس الخلائق»، على حد قول الحديث النبوي الذي يأخذ به اهل العرفان.
من هذه المنطلقات، يستخلص البروفسور الكك ان العرفان الاسلامي، هو دعوة الى تحقيق الذات سعياً الى بلوغ مرتبة «الانسان الكامل» المتحرر من العلائق الدنيوية، ومن وسواس النفس الامارة بالسوء، ومن التعصّب الديني والعرقي وسواها، والساعي الى معرفة سرّ وجوده المؤدية الى معرفة اللّه. آنئذٍ، يتساوى الناس جميعاً في نظره، ويحلّ السلام بين الشعوب والامم.

اصلاح حال البشر عبر العرفان
وهكذا يكون العرفان ضرورة لاصلاح حال البشر الغارقين في الانانية والجشع وعبادة المادة، فيوقظهم من غفلتهم، ولا يكون – كما يقول الادعياء – هرباً من مواجهة الحياة، وانزواء وحسب.
ويعمد البروفسور الكك الى دعم مقولاته بشواهد من العارفين الكبار في تراث الامتين: العربية والايرانية، وتراث شعوب اخرى عاشت في ظل الدول الاسلامية، منتهياً الى القول بضرورة نشر تعاليم العرفان، لصلاح امر العالم الساعي الى تدمير نفسه، بالحروب والتعصب الديني والعنصري المتطرف.
وختم البروفسور فكتور الكك بحثه بمثل حيّ عن اثر العرفان في انتشال انسان قرننا من غرقه في المادة وعبثية حياته بما لاقته ترجمة منتخبات من اشعار جلال الدين الرومي بالانكليزية على يدي الشاعر الاميركي كولمن باركس اذ باعت منها منشورات هاربر سان فرانسيسكو 600،000 نسخة في ستة اشهر تقريباً بسبب سموّها الروحاني وعرفانها العريق المميز وتقديسها لكل ما في الكون، فاذا الاميركيون في حال جديدة قد وجدوا معنى لحياتهم حتى ان مادونا اخرجت بعض رباعيات جلال الدين الرومي في C.D. مثل مبادرات سواها من اهل الفن واهل الفكر وجماهير
المقبلين على تعلّم الفارسية…

صورة المسيح في صوفية جلال الدين الرومي
البحث الذي قدّمه الدكتور يوحنا عقيقي (نائب رئيس جامعة الروح القدس للابحاث) دار حول صورة المسيح في صوفيّة الشاعر جلال الدين الرومي، مستهلاً كلامه بالقول: «ان عالم المتصوّفين واسع ورحب بقدر ما يضيق فيه طريق الوصول الى الغاية. فاذا كانت هذه الاخيرة تتطلب زهداً وتجرّداً وخروجاً فموتاً عن الذات فلأنها تفتح عين القلب على كل خير بين المعشوق و«شفتي الياقوت». عندئذٍ تهون التضحيات وتتمايل الروح السكرى على ايقاع كل دفّ ضربته يد سالك او رافقته أنّات ناي جرّحتها حنجرة منتفض على الموت الرخيص. في هذا الاطار، يسعى المتصوفون، ومولانا في ركابهم، على تحميل الرموز اسمى واصفى ما اصطفى في عين الخالق، علّهم يعرفون، ويساعدون في نقل ما رأوه بأسلوب يماثل ترقرق الدموع على الجفون».
مشيراً، الى «ان صورة المسيح تشكّل خلفية اساسية في شطحات مولانا جلال الدين الرومي، يعود اليها كلّما ضاق عليه عنوان الى الحياة، او تبدّدت لديه رؤيا الخلق من جديد، او انسحب الشك الى القيامة في المجد».

اختيار الحلاّج أنموذجاً
الدكتور سليمان حسيكي (رئيس قسم الغة العربية وآدابها في الجامعة الاسلامية في لبنان) تناول في بحثه «المسيحية – المشرقية في العرفان الاسلامي» واختار الحلاج أنموذجاً في هذا البحث «لان المحبة الإلهية، التي اختمرت في قلبه، هي التي قادته الى الارتقاء بايمانه الى مصاف الايمان الروحي الصرف، المنزه عن اية عصبية او تميز، وانه قال بوحدة الاديان من غير ان يفرّق بين دين وآخر، وبين مذهب وآخر، واعتباره الاديان «أصلاً له شُعب جمة». وتماثله بالسيد المسيح، ولو كان ظاهرياً في بعض نواحيه، جعله يجمع بين العرفان الاسلامي والعرفان المسيحي وما بداخلهما من ملامح مشرقية عميقة الجذور، فاذا هو واحد من متعدد ومسلم تلاقت في اعماقه خلاصات الاديان، فغدا هذا الرمز المستنير والمنير في دوحة الحب والتسامح».
اهم الموضوعات التي تناولها البحث، هي: نشأة العرفان ومصادره، والاصول الفكرية للعرفان المسيحي – العرفان الاسلامي (النظرية والتطبيق) – أثر المسيحية في عرفانية الحلاّج، وآراؤه، في الثواب والعقاب – الحلول والاتحاد – الحب الإلهي – وحدة الاديان والتجسيد.

بحوث وآراء اخرى متنوعة
الدكتورة سوسن عبد الودود صلّوح (جامعة المقاصد – بيروت) تناولت «العمق الروحي والعرفاني لأداء عبادة الصلاة في الاسلام، وبحسب ما قدّر لنا اللّه، على تناوله من اسرار هذه العبادة الروحية الصوفية. والصوفي يرى في العبادات واجبات شرعية ملزم هو باتباعها، ولكن التزامه مفعم بعمق روحي، هو ليس بقادر على الانفكاك عنه». مشيرة «الى اننا اذا ما بسّطنا الامر، ونظرنا بعين قلبنا، نرى ان العبادات بأشكالها كافة، وتنوّعاتها، في مختلف الشرائع السماوية، هدفها محبة الخالق واتباعه وكسب رضاه، وفي معرفته منتهى السعادة والسلام الانساني، وهذا هو عين صوفيتنا ومحبتنا».
الدكتور شيخ الاسلامي تحدث عن «العرفان الاسلامي والاخلاق». الدكتور محمد رحمتي تحدث عن «العلاقة بين الانسان الكامل من منظار الاسلام والمسيحية». الدكتور جورج طربيه تحدث عن «الوجد الصوفي وجذوره الاسلامية وغير العربية». اما الشيخ محمد زراقط فتناول «العرفان والحياة في العصر الحاضر». الدكتورة نها ملاعب (جامعة القديس يوسف في بيروت) تناولت عرفاء غرب افريقيا والاندلس في القرون الوسطى في الشرق الاسلامي والعربي». والى ما هنالك من بحوث…

لا شرطة في شوارع طهران
بعيداً عن متابعتي لاعمال المؤتمر، تسنى لي مع الوفد اللبناني، ان اشاهد تحركات العاصمة الايرانية طهران، هذه المدينة الكبيرة التي يتجاوز عدد سكانها الـ 15 مليون نسمة، والمزدحمة بالناس وبوسائل النقل المختلفة… واكثر ما لفتني في هذا المجال، شبه غياب لعناصر الشرطة في شوارعها، وذلك عائد الى الانضباط الذي هو سيّد الموقف، ما يجعل المدينة الممتدة رقعتها على مساحات شاسعة، تتحرّك على وقع القانون وشعور الناس بمسؤولياتهم.

زيارة «المكتبة الوطنية الايرانية»
من ابرز ما شاهدناه في طهران «المكتبة الوطنية الايرانية» الضخمة التي تضم في داخلها اكثر من مليون وخمسمائة الف مجلد من الكتب المتنوعة الموضوعات، وبلغات مختلفة، مثل: الفارسية والعربية والانكليزية والفرنسية والالمانية والروسية، ولغات اخرى… كما تضم مجموعة النسخ المخطوطة والنادرة، التي تحتوي على 30 الف عنوان كتاب مخطوط باللغتين العربية والفارسية. كما تحتوي ايضاً، على 28500 مجلد من الكتب المطبوعة حجرياً… بالاضافة الى الدوريات القديمة التي يعود تاريخها الى عصور خلت، منذ عهد الحكومة القاجارية الى اليوم.
في هذا الصرح العلمي رأينا امهات المؤلفات الخالدة… رأينا رباعيات الخيام المحفورة بشكل كامل على الالواح النحاسية، كما رأينا ملحمة الشاهنامه للفردوسي، الذي – كما قال – أحيا في شعره أمة العجم… والى ما هنالك من كنوز معرفية يحرصون عليها كما يحرص البخيل على كنوزه!

قصر تحوّل الى متحف يروي حكايات ازمنة غابرة
من ابرز ما شاهدناه ايضاً، قصر «كلستان» التاريخي الذي يعود تاريخه الى ما قبل اكثر من 400 سنة، وكان المقر الرسمي للعائلة الملكية القاجارية، وخلال عهد الشاه رضا بهلوي استخدم القصر للاستقبالات الرسمية، وكذلك في عهد نجله الشاه محمد رضا بهلوي، وفيه تم تتويجهما على العرش الذي اطلق عليه اسم «عرش الطاووس» باعتباره يتميز بالالوان المتنوعة التي يتحلى بها الطاووس. وفي زمن الثورة، تحوّل قصر «كلستان» اي «حديقة الورود» الى متحف يوازي في مستواه، كبريات المتاحف العالمية، سواء في هندسته المعمارية والفنية المدهشة، او في ما يحتويه من آثار ومقتنيات مختلفة وتحف فنية، تروي تاريخ وحكايات من ازمنة غابرة.

طهران – اسكندر داغر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق