التقيد بالدستور استثناء والتعطيل والفراغ شعار المجالس النيابية المتعاقبة
الترسيم لم يعط لبنان كامل حقوقه والمزايدات الشعبوية تفقده بريقه
ثلاثة ملفات تتصدر واجهة الاحداث وهي الترسيم وتشكيل حكومة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. الملف الاول المتعلق بترسيم الحدود البحرية في لبنان واسرائيل اصبح شبه منجز، بانتظار ان يتم الاجتماع غير المباشر في الناقورة فيوقع لبنان على ورقة بقبول نتائج الوساطة التي قام بها الوسيط الاميركي آموس هوكشتاين ويرسلها الى الامم المتحدة والى الولايات المتحدة وعندها يصبح الاتفاق ناجزاً، وكذلك تفعل اسرائيل، وكما في كل الملفات هناك مؤيدون ومعارضون. وقد نشطت الانتقادات وادعى اصحابها بان لبنان تنازل عن كثير من حقوقه لصالح العدو الاسرائيلي، فيما العالم كله من الامم المتحدة الى الولايات المتحدة الى الاتحاد الاوروبي رحب بهذا الانجاز ووصفه بـ «التاريخي». وكان اخر المهنئين، بعد الرئيس الاميركي جو بايدن، الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي هنأ الرئيس عون وشدد على ضرورة انجاز الاستحقاق الدستوري وانتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية.
ان القول ان لبنان حصل على جميع حقوقه ليس صحيحاً، الا ان الانتظار حتى يتمكن من استرجاع كامل الحق قد يستغرق عشرات السنين، هذا اذا استطاع ذلك، وتبقى الثروة النفطية ان وجدت مدفونة في قعر البحر، فيما لبنان بامس الحاجة اليها ليخرج من ازماته القاتلة. والمطلوب الاقلاع عن المزايدات الشعبوية سواء الذين يهللون للترسيم وهم يعلمون ان الظروف الدولية وحرب روسيا على اوكرانيا ونتائجها المدمرة هي التي دفعت الرئيس بايدن الى الضغط وبالحاح للتوقيع، ولولا ذلك لبقيت الامور معلقة سنوات طويلة. وكذلك يجب ان يكف المنتقدون عن انتقاداتهم لانها ليست في مكانها.
اعتاد اللبنانيون على بيع جلد الدب قبل اصطياده. فبدأوا يطرحون الاراء حول من يدير الاموال التي ستدخل من الثروة النفطية، خصوصاً وان المنظومة التي نهبت اموال المواطنين وحرمتهم من الكهرباء والمياه والدواء وغيرها لا يمكن الركون اليها في ادارة هذه الاموال. وبدأت المطالبات بانشاء صندوق سيادي تتولاه مؤسسة خاصة منزهة عن الفساد والسرقة. ولكن من قال لهؤلاء ان لبنان يملك ثروة نفطية؟ فحتى الساعة لم يبدأ التنقيب ولا نعلم ان كان في مياهنا غاز او نفط. ثم ان هذه الثروة في حال وجدت يلزمها سنوات لتخرج الى السوق، وعلى الجميع التمهل وعدم الاستعجال.
بالنسبة الى تشكيل الحكومة عادت المطالبات وبقوة بالعمل على ان تبصر النور وتكون كاملة المواصفات، بحيث تتولى صلاحيات رئيس الجمهورية في حال الوصول الى الفراغ. وتشدد اطراف السلطة على هذا المطلب وترفض ان تتسلم حكومة تصريف الاعمال هذه المسؤولية. ان الالحاح على تشكيل حكومة قبل اقل من اسبوعين على نهاية العهد يؤكد بما لا يقبل الشك، ان هذه الجهة تعمل على عدم انتخاب رئيس، وقد تكون تنتظر حدثاً يبدل من حال الى حال.
اما المجلس النيابي المفروض فيه بحكم الدستور ان يجتمع وينتخب رئيس، فيبدو انه يسير على خطى المجالس السابقة التي تعاقبت على ساحة النجمة، في الثلاثين سنة الماضية، بحيث ان التقيد بالدستور بالنسبة اليها استثناء، والتقاعس والفراغ وعدم المحاسبة هي الدور الطبيعي. في الانظمة الديمقراطية موالون ومعارضون والاكثرية هي التي تحكم والاقلية تعارض. الا ان الوضع عندنا مختلف. فالمنظومة هي المتمسكة بالحكم وتريد من الجميع ان يوافقوا على طروحاتها، والا عمدت الى التعطيل. انها تدعو اليوم الى الاتفاق على شخص يجمع اللبنانيين وانتخابه رئيساً. ولكن ماذا يعني ذلك بالنسبة اليها؟ فهي تريد ان يوافق الفريق الاخر على طروحاتها هي وينتخب الرئيس الذي ترشحه هي، ولذلك بات من المؤكد ان الفراغ سيحل وسيزيد الوضع تدهوراً. فمنذ سنوات طويلة وفي ظل هذه المنظومة تخلت المجالس النيابية عن دورها. فهي لم يسبق ان حاسبت حكومة او وزيراً مرتكباً. فكيف تحاسب الحكومات التي تعاقبت وكانت صورة مصغرة عن المجلس النيابي الذي تمثله.
انطلاقاً من هذا الواقع الاليم، وتجنباً للمزيد من الانهيار هذا اذا كان هناك المزيد، فان لبنان محكومة بالتغيير وهذا لا يتم الا اذا تحرك الشعب وثار لاسترجاع حقوقه المسلوبة، ومحاسبة هذه المنظومة التي اوصلته الى ما هو عليه من فقر وجوع وقهر. لقد تعالت الانتقادات من المنظمات الدولية والحكومات، منددة بحالة الانكار التي يمارسها المسؤولون تجاه شعبهم، ولم يلتفتوا يوماً الى مصلحته التي يفترض فيهم الحفاظ عليها. فهل يستيقظ الشعب ويقوم بدوره؟ نأمل ذلك وان كان هذا الامل ضعيفاً.