الأسبوع الثقافيكتب

جنان بَلوط… التطور التاريخي للشعر الملحميّ

بشغف قرأت كتاب «جورج شكّور – شاعراً ملحمياً» للباحثة الدكتورة جنان بَلوط، الصادر حديثاً عن «دار نلسن» في بيروت، ويقع في 144 صفحة من القطع الوسط.
أجل، بشغف قرأت هذا الكتاب، ليس لأنه يتناول تجربة الشاعر جورج شكّور في ميدان الفن الملحمي فحسب، بل لأن مؤلفته استطاعت ان تتطرق الى هذا الفن الشعري العريق الآتي إلينا من الأزمنة الغابرة، بكثير من الفهم والدقة، وبأسلوب جميل جدّاً، بعيداً عن التكلّف والغموض والحذلقة… إذ ان هذا الكتاب يقودنا الى «مقاربة تاريخية لمفهوم الملحمة منذ أقدم العصور وحتى عصرنا الحديث… ومن ثم، الى ملحمية جورج شكور الذي يطلع علينا بثلاثة نماذج ملحمية مستوحاة من السيرة النبوية، ومن سِيَر الأئمة…» وذلك على حدّ قول المؤلفة.

صناعة الملاحم على مدى التاريخ
ترى الدكتورة جنان بلوط، ان الشعر ينقسم الى أربعة أشكال، هي: الشعر القصصي الملحميّ، الشعر الغنائي، الشعر التمثيلي، الشعر التعليمي والحِكمَي. وبما ان كل نوع له وظيفته الخاصة، «فإن الشعر الملحمي يدخل في نوع الشعر القصصي، ذلك الشعر الذي يدور حول أحداث وبطولات وأبطال، في فترة محدّدة من تاريخ الأمة، ويمزج الحقائق التاريخية بروح الأسطورة والخيال».
إذاً، لم تتوان المؤلفة عن أن تعود الى الماضي البعيد الذي ازدهرت فيه صناعة الملاحم، حيث قدمت لنا صورة واضحة لهذا الفن الذي يتلاحم فيه الشعر بالحدث، والواقع بالخيال، والتاريخ بالأسطورة، والانسان بالبطولة… وذلك إنطلاقاً من ملحمة «جلجامش» أقدم ملحمة كتبها الانسان، في الألف الثالث قبل الميلاد… الى ملحمتَي هوميروس الشهيرتين: «الإلياذة» و«الأوديسة» وهما من أقدم ما كتب في الشعر اليوناني… الى ملحمة «الإنياذة» لفرجيل الذي جسّد فيها أمجاد الشعب الروماني، وحظيت بمكانة رفيعة في التراث الانساني، وضعت فرجيل في مستوى هوميروس… وملحمة الهند الكبرى «المهابهاراتا»، و«الكوميديا الإلهية» للشاعر الايطالي دانتي، و«الفردوس المفقود» لجون ملتون، وملحمة «الشاهنامة» باللغة الفارسية للفردوسي، وغيرها من ملاحم بلاد الشرق كملحمة «الرامايانا»، والمعلّقات الجاهلية «التي علّقتها العرب – كما تقول الباحثة – ذات مستوى فني راقٍ في صياغتها وجودتها وروعتها وقوة اسلوبها وتدفّق معانيها التي تجسّد إلاقدام والبطولة، والتي تعبّر عن همّ إنساني وجودي ينفذ الى أعماق المأساة البشرية…».
وتقول ايضاً: «إلا أننا نرى في اعتبار المعلّقات الجاهلية ملاحم تجاوزاً كبيراً وذلك لا يصحّ فيها، وليس في المعلّقات مظاهر ملحمية إلا بعض اللمحات في ملحمتَي عنترة وعمرو بن كلثوم».

دور لبنان في صناعة الملاحم
وهكذا، يصل بنا الكتاب الى لبنان، والى الشاعر بولس سلامة بالذات، الذي كتب في سنة 1947 ملحمة «عيد الغدير» التي يقدّم فيها أمير المؤمنين الإمام علي (ع) وحِكمَه وتقواه، كما يتناول استشهاد الإمام الحسين (ع)، وذلك كما تذكر المؤلفة، ولكنها لم تأتِ على ذكر ملحمة أخرى لبولس سلامة وهي بعنوان «عيد الرياض» وتدور حول بطولة الملك عبد العزيز آل سعود، وذلك عدا مطولاته الشعرية، وهي: علي والحسين – فلسطين واخواتها – الأمير بشير – الخ…
بالاضافة الى ملحمة «على بساط الريح» لفوزي المعلوف، و«عبقر» لشفيق المعلوف… وأخيراً، ملحمة الرسول (صلعم)، وملحمة الإمام عليّ (ع)، وملحمة الحسين (ع)، لجورج شكور، وهو الذي تناولت جنان بلوط ملاحمه الثلاث المذكورة بالبحث والتحليل والمقاربة «قصد تبيان مواطن الجودة والابداع والجمالية في هذه النصوص، والنظر اليها بصورة مختلفة، بالاستناد الى مصادر ومراجع متنوعة وملائمة لطبيعة موضوعها».

مصير الملحمة في الزمن المتغيّر؟
أمام هذا المشهد «البانورامي» لأهم تجربة شعرية انتقلت من عصر الى آخر، ومن بلاد الى أخرى، حاملة في تلافيفها تاريخ الشعوب المختلفة على هذه الأرض العتيقة، بكل ما فيها من صراعات وحروب، من بطولات وأوهانم، من آلام ودموع… ومن ثقافات متنوعة… وبعد التطور الهائل الذي طرأ على نمط الحياة الحديثة، وفي زمن يختصر فيه الانسان كل وسائل التعبير، حيث باتت القصيدة مجرد ومضة، والقصة أصبحت فكرة عابرة، والتكنولوجيا تواصل شراستها على كل ما هو جميل وأصيل… لا يسعني إلا أن أتساءل: ما هو مصير «الملحمة» في هذا الزمن المتغيّر، بعد اختزال الشعر، وصمت الحكاية؟!
لذلك، كنت أتمنى لو أن الدكتورة جنان بَلوط توسعت في معالجة هذا الموضوع في كتابها الجميل الذي قرأته بشغف.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق