صحة

الأفكار السوداء تحوم حولكم؟ تنفسوا الصعداء: شهيق زفير شهيق زفير…

نغوص في الذاكرة، نغوص في التاريخ، نغوص في حالات الإنتحار فتعوم أسماء وأسماء: داليدا. أرنست همنغواي. أدولف هتلر. داني بسترس. فان غوغ… واخيراً روبن ويليامز واللائحة بعد طويلة طويلة…
فلماذا ينتحر الإنسان؟ لماذا قد ينتحر من نظنه يضحك من قلبه؟ لماذا كل هذا الحزن والغضب والقلق في عيون البشر؟ لماذا تزيد حالات القلب والسكري والسرطان والجلد والهضم والإكتئاب؟ وما تأثير كل هذا على أجهزتنا العصبية؟ أمراض أكثر؟ مناعة أقل؟
أجسامنا تعمل مثل «تكات الساعة» والساعة قد تتعطل، قد تتباطأ، قد تتقدم قليلا أو تتأخر قليلاً، فيتأثر الجهاز كله… فماذا لو تعطل، تحت تأثير كل الظروف المحيطة، جهازنا العصبي؟

أن يعبّر الإنسان عن غضبِهِ ويصرخ ويضرب ويشتم لهو أمرٌ، مبدئياً، عادي لكن ما هو استثنائي أن يبتسم ويجعل الآخرين يبتسمون وفي قلبِهِ مرارة! مشاعرُ الحزن والقلق والغضب والمرارة تتراكم فينا، تخضنا، تُثقل خطواتنا وتسحب كل الطاقة الحيوية من أجهزتنا العصبية وترمينا في دوامة الأمراض الخفية التي إن سألنا طبيبا على عجلة عنها قال لنا: سترس! نسأله عن القلب وحين يعجز عن إيجاد السبب يقول «سترس». نسأله عن الجلد وحين يعجز عن تحديد المشكلة يتهم «السترس». نسأله عن الجهاز الهضمي والعصبي والمناعي وحين ينزرك يقول: «سترس»!
تُرى هل هو القلق الكبير ما جعل نجم الكوميديا الأميركي روبن ويليامز ينتحر؟ هل نحن، كلنا، الذين نعيش القلق والغضب والحزن، معرضون للأسوأ؟ للمرض مثلاً؟ للإنتحار ربما؟ للإكتئاب حتى؟

في الزمن الصعب!
نحن نعيش في العصر الصعب. قتلٌ ودمارٌ وثورات على الثورات وفصائل غريبة عجيبة تولد وبطالة وعلاقات إجتماعية مهترئة وغيرة وزحمة سير وأخلاق معطلة ونفسيات سيئة واندثار القيّم… فهل هذا أمر عادي؟ هل نحن قادرون على أن نستوعب كل هذا بالصبرِ؟ هل أجهزتنا العصبية قادرة على أن تتحمل كل هذا القهر وتظل تعمل مثل الساعة؟
اختصاصي علم الدماغ السلوكي والمشاعر الدكتور أنطوان سعد يغوص يومياً في عالم الدماغ والإنسان ويتلمس علمياً وواقعياً تأثير الضغوطات الكثيرة على الصحة العامة التي نادراً ما نرى المرجعيات الصحية تبالي بها. لا أحد إذاً يبالي بنا إذا قلقنا أم لا وإذا غضبنا أم لا وإذا اصبنا بالكآبة أم لا ما دمنا نعيش في ما يُشبه الأدغال المسماة دوّل… والحل؟ أن نراقب جهازنا العصبي بأنفسنا. أن نشعر بما يجول في خاطرنا. أن نحس بأنفسنا. أن نلتقط الإشارات الأولى التي تشي أن أجهزتنا العصبية تتأثر، تتعطل، تعاني. وأن نسارع الى إغاثتها قبل فوات الأوان.
ماذا يعني فوات الأوان؟ ماذا يُقصد بفوات الأوان في مسائل الغضب والقلق والحزن والإكتئاب؟
يُقصد بهذا، بحسب الدكتور سعد، تراكم كل هذه الأمراض القاتلة الخفية  فينا ومحاصرتنا وشل عمل الجهاز العصبي الذي لا يعود قادرا على الدفاع عن نفسه.
جميلٌ طبعاً أن نقول، ونظل نقول ونردد، أن علينا واجب المواجهة والضحك والفرح والاسترخاء لكن هذا، كما كلنا يعرف، مستحيل… فما العمل إذاً؟ ماذا يمكننا أن نفعل قبل أن يفوت الأوان ونقع ضحية أمراض العصر؟
تدريب النفس بداية تتبعه ممارسة تمارين، تشبه التمارين الرياضية، في كل مرة نشعر فيها أننا نكاد نخرج من حالنا، من أجسامنا، من أعصابنا، فالجهاز العصبي قادر على أن يحمي نفسه بنفسِهِ بالتمرين… كيف؟ ثمة من قد يقول أن الجهاز العصبي هو نفسه جهاز المناعة وهذا طبعاً غير صحيح، فالجهاز الثاني، أي جهاز المناعة، دوره أن يدافع عن الجسم في وجه الميكروبات أما الجهاز العصبي فهو أول ما يتأثر بغزو المشاعر والأفكار السوداء التي تتخزن فيه وتخرج في شكل عوارض مرضية قبل أن تتحول الى أمراض فعلية حقيقية. ويمكننا، في هذه المرحلة، أن نُغيّر إرادياً في المسار عبر السيطرة عليها…

تهدئة الذات…
من جديد نسأل: كيف؟ يجيب سعد: عبر تهدئة الذات، عبر التنفس العميق، شهيق زفير شهيق زفير، عشر دقائق صباحاً ومثلها مساء، فثمة علاقة مباشرة بين التنفس وضربات القلب. ثمة تناغم وثيق بين العضوين. وللقلب طبعاً علاقة مباشرة بالدماغ.
تمرين النفس إذاً يساعدنا على الراحة الداخلية وعلى نفث الإنفعالات السلبية من حزن وغضب وخوف، وهو يسمح لنا بالتالي بأن نتحصن بالسلام الداخلي ونلفظ الصراع الداخلي. ويُعطي سعد مثلاً: الجسم مثل المركبة التي إذا دسنا فيها الفرامل بقوة، وظلت تشتغل، قد يحترق بعض أعضائها وإذا رفعنا قدمنا عن الفرامل تتباطأ، لهذا يفترض أن يكون هناك تناغم بين كل الأعضاء التي لها ارتباط بالجهاز العصبي ليمشي الجسم في شكل صحيح. وكلنا يعلم أن 99 في المئة من عمل أعضاء الجسم يتم في شكل لا إرادي وواحد في المئة يمكننا أن نتحكم به ولعلّ التنفس هو الذي يجعلنا نُمسك بزمام الأمور والعقل هو الذي يجعلنا نعي أهمية التنفس.

اشارات… نحن في خطر
التنفسُ قد يساعد وترويض الذات أكيد يساعد والعقلُ هو الذي يجب أن يرسل الإشارات التحذيرية للدماغ بأننا في خطر، بأننا نبكي حين نكون وحدنا مثلاً، وبأننا ما عدنا نطيق الكثيرين، وبأننا ما عدنا قادرين على أن نتحمل كلمة من هنا أو من هناك، وبأننا، أكثر من كل هذا، في خطر… روبن ويليامز، نجم الكوميديا الأميركي، طالما كان يُردد: «لا يهم ما يقوله السلبيون، فالكلمات والأفكار فعلاً قادرة على تغيير العالم» لكنه، لشيء ما، اهتم كثيراً بتفصيل ما لدرجة ما عاد قادراً على أن يتحمل المزيد فانتحر… لماذا فعل ما فعل؟ لو كان تنفس الصعداء في تلك اللحظات ومارس فعل الشهيق والزفير مرات هل كان ليُفكر مرتين بما يفعل ويتراجع؟ لو كان فكر باكراً أن أعراضاً خطيرة يواجهها وعليه مواجهتها بشجاعة هل كان اليوم حيا يُرزق؟
الثابت أن علينا أن نستيقظ باكراً جدا لنواجه أي هجوم على جهازنا العصبي الذي إن تعطل… تعطلت كل لغات العقل!
مرضى سرطان؟ قلب؟ جهاز هضمي؟ لا ضير إذاً أن تسألوا أنفسكم: كيف هو حال جهازكم العصبي؟ كيف حال تنفسكم؟ تبتسمون في سركم مرددين وما علاقة هذا بذاك وذاك بهذا؟ تمهلوا، ثمة علاقة وطيدة ولنأخذ مثلاً آثار القلق على الجهاز التنفسي الذي كلما زاد يزيد تدفق الدم الى العضلات ويُصبح هناك حاجة ماسة لتدفق كمية أكبر من الدم في الجهاز الهضمي من أجل امتصاص العناصر الغذائية من الطعام، وفي حال لم تصل المعدلات المطلوبة من الدم الى الجهاز العصبي ينخفض معدل الهضم مسبباً الإسهال أو الإمساك والحرقة وعسر الهضم.

15 الى 20 في المئة من المصابين بالاكتئاب الذين لا يتابعون علاجاً مناسباً ينتحرون


ماذا بعد؟ مكتئبون؟
لا يتوقف مرض الاكتئاب عند حدود المزاج السيء والأرق والقلق والحزن، بل قد يتطور الى ما هو أخطر وأبعد وأعمق، إنه يؤدي الى الانتحار. وروبن ويليامز لا بد كان مكتئباً لا مجرد غاضب حزين. يؤدي بكلام آخر التطور الطبيعي للاكتئاب، حين لا يعالج، الى تلبد في المشاعر قد تودي بالمصاب الى الانتحار، مروراً بتراجع قدراته الفكرية والجسدية والاجتماعية وانتاجيته ككائن حيّ عليه واجبات والى ادمانه على المهدئات أو الكحول أو المخدرات.  
ليس الاكتئاب إذاً مجرد شعور عابر عابق بالحزن، قد ينتهي كما بدأ، بل هو اضطراب يؤثر على الانسان ومحيطه نفسياً وجسدياً.
 والسؤال هنا: كيف يتم تشخيص حال الاكتئاب؟
 ثمة عناصر سريرية دالة بينها اضطراب المزاج هبوطا بمعنى أن المصاب يبدو حزيناً متشائماً، لا شيء يُفرحه، وتراوده أفكار المرض والفشل والكوارث والموت والانتحار… كما يسيطر الجمود عليه، فيبقى جالساً فترات طويلة لا يتحرك، منحني الرأس، ثابت العينين، لا يتكلم ولا يرغب في أن يتكلم وعلى قسمات وجهه حزن كبير، ولا يعود المكتئب قادراً على الحراك بسهولة، ويشعر بالاعياء مراراً وتكراراً، ويخف تركيزه وتضعف ذاكرته وتتلاشى ارادته.
عناصر الألم المعنوي تشكل هي أيضاً دليلاً في عملية التشخيص، فيكون المزاج مثلاً حزيناً ويرفض المصاب كل الاغراءات الخارجية الساعية الى جعله يبتسم، فلا يعود يبالي بالمستقبل ويشعر أنه في نفق طويل طويل لا آخر له ويُحمّل نفسه ذنوباً لم يقترفها. وتظهر على المصاب أيضاً اضطرابات جسدية أخرى غير عضوية مثل صداع شديد وآلام في المعدة وفي الظهر لا تقوى عليها المسكنات، وإذا فعلت لا تلبث أن يعود… في كل حال، تشير النسب الى أن ما بين 15 الى 20 في المئة من المصابين بالاكتئاب الذين لا يتابعون علاجاً مناسباً ينتحرون.
يبقى أن تعدوا الى المئة قبل أن تتلبد الغيوم حول جهازكم العصبي فلا شيء يستحق حزنكم وغضبكم واكتئابكم: شهيق زفير شهيق زفير… 

نوال نصر

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق