أبرز الأخبارملف

الهجرة غير الشرعية توقفت؟ لن تتوقف!

الهجرة غير الشرعية… تابع. نعم. القصة تفترض المتابعة لأن الفصل الذي بدأ مع عبارة الموت في أندونيسيا لم ينته فصولاً بعد. قد يكون ما حصل من مأساة مجرد درس لمن كانوا يستعدون لتوضيب الحقيبة والهجرة عبر وسطاء بطريقة غير شرعية. لكن حتى هذا «الدرس المأساوي» لم ينفع، ولن يوقف الظاهرة التي فكرنا كلبنانيين اننا في منأى عنها. اما اصحاب شبكات تهريب البشر فيسرحون ويمرحون حتى من داخل زنزاناتهم. ومن قال ان ادارة شبكة من وراء القضبان مستحيلة؟ «أبو صالح» العراقي أكبر مثال. لكن ماذا عن رب العائلة الذي صرف مبلغ 70 ألف دولار وعاد الى لبنان من دون أولاده السبعة وزوجته الذين قضوا غرقاً؟! نعيش حزنه؟ نلومه على فعله؟ نلوم الدولة؟ المعادلة صعبة. لأنها لا تتوقف على مفهوم الفقر. وكما يقولون، انها قصة «أفق». فإما ان يكون مسدوداً أو يفتح ولو عبر طاقة.


لم يكن مشهد الناجين العائدين من أندونيسيا على أرض مطار بيروت يشبه سواه في حدث مماثل. فالجروح التي يحملها من تبقى من العائلات التي غادرت الوطن لن تختم قريباً. وقد تذهب مع البعض إلى القبر. ومن باع أرضه وبيته ورزقه لن تسهل عليه فكرة التأسيس من جديد في وطن انعدمت فيه كل وسائل العيش الكريم وفرص العمل وافق المستقبل. ولو لم يكن كذلك لما هاجر هؤلاء كما يبررون.
لكن المادة شيء والأرواح شيء آخر. ومن فقد عزيزاً له على العبارة التي كانت تقلهم من أندونيسيا إلى احد الشواطىء الأسترالية لن يفكر إلا بحرقة وندم ولو متأخراً، تماماً كما حال حسن خضر الذي فقد أولاده السبعة وزوجته في عبارة الموت وعاد إلى منزل ذويه في بقعيت ينتظر جثامينهم أو ما تبقى منها. هو لن ينسى حتماً مشهد غرق أولاده وكل من كان على متن عبارة الموت. حتى الأحلام التي حاكها مع المهاجرين من أبناء قريته لن تندثر قريباً. وقد تتفتح من جديد خصوصاً أن الحدود مع اليأس وانعدام الأفق باتت أقرب مما كانت عليه قبل الكارثة. أما الناجون العائدون وعددهم 28 فيصرون على اتهام الدولة واعتبارها المسؤول الأول والمباشر عن رميهم في المجهول.

مكائد مافيات الهجرة
مشهد الغرق والموت ليس الأول في لبنان. و«ابو صالح» العراقي الذي يدير شبكة تهريب البشر من داخل زنزانته في جاكارتا حيث يقضي فترة عقوبة، معروف من قبل العصابات المتفرعة في لبنان. وإذا كانت «عبّارة الموت»، وهي الخامسة التي تبحر من أندونيسيا إلى جزيرة «كريسماس» الأسترالية عبر بحر «سيانجور»، لم يكتب لها الوصول إلى شاطىء الأمان، فإن التساؤلات تطرح عن دور المافيا في إغراقها بعد فشلها في تأمين وصول المهاجرين إلى أستراليا.
الروايات في شأن الأساليب التي تعتمدها مافيات الهجرة غير الشرعية الممتدة من لبنان إلى ماليزيا وأندونيسيا وأستراليا كثيرة، وهي تبدأ في استغلال المواطنين الراغبين في الخروج من لبنان، وإقناعهم عبر وسطاء بدفع مبالغ مالية تصل الى حدود العشرة آلاف دولار أميركي عن الشخص الواحد ثمناً لـ «حياة هانئة ومستقبل أفضل». والواضح أن ركاب العبارة المشؤومة من اللبنانيين كانوا ضحية جشع بعض أقربائهم وأبناء بلداتهم ومدنهم ممن سخرتهم مافيات التهريب للعمل لمصلحتها في مقابل عمولات مالية عن كل شخص يتم إقناعه بالهجرة غير الشرعية.
انكشاف الغطاء عن بعض الأشخاص المتورطين في شبكات تهريب البشر في لبنان لا يلغي الظاهرة. والدليل أنه لم يكد يمضي أسبوعان على كارثة عبارة أندونيسيا حتى تمكنت عناصر أمنية من توقيف شبكة مؤلفة من 7 أشخاص، إثنان منهم من التابعية السورية ولبنانيان و3 من التابعية الفلسطينية. وكانوا يعملون على تهريب أشخاص بطريقة غير شرعية عن طريق مرفأ الصرفند.

نحو «غد مشرق»!
إذاً الحكاية طويلة ومتجذرة في لبنان. وقد تكون عبارة الموت في اندونيسيا ألقت الضوء على ظاهرة الهجرة غير الشرعية في لبنان بحسب مصدر أمني «لكن عيوننا وأجهزتنا ترصد كل التحركات. وحتى اليوم تمكنا من ضبط شبكتين. لكن المسألة ليست بالسهولة التي يفكر بها البعض. فالأسباب التي تدفع مطلق أي إنسان إلى الهجرة موجودة بسبب سوء الأوضاع الإقتصادية وفقدان الأمل بغد مشرق. والإنسان المعدم لا يسأل عن قانونية الخطوات التي سيتخذها إذا كان موعوداً بغد مشرق له ولأفراد عائلته».
كلام يلامس حدود المنطق. لكن كيف يقتنع مطلق أي إنسان بأن من يملك مبلغ 70 أو 80 ألف دولار هو إنسان معدم مادياً؟ وكيف يبرر علم الإجتماع ما يقوم به مطلق أي رب عائلة عندما يبيع أرضه ورزقه وبيته وكل ما يملك، ويخاطر بحياة أطفاله من خلال تسفيرهم بعبارة أو إلى حياة مجهولة في انتظار الأفق المفتوح؟ يجيب المصدر الأمني: «المسألة بسيطة. فهذا المواطن الذي جازف بماله وأرضه وبيته كان يعيش على وعد بالحياة الهانئة والرواتب التي سيقبضها من الدولة الأسترالية كونه سيكون عاطلاً من العمل إلى ان «تفرج». لكن الموت كان أسرع من الأحلام التي ابحروا على متنها».
الباحث في علم الإجتماع الدكتور ميشال عواد اعتبر أن الأسباب التي تدفع مطلق أي شخص إلى الهجرة بطريقة غير شرعية تتوقف على «المشاكل الحياتية». واعتبر أن عنصر المغامرة يعود إلى ما شاهده من نماذج أمامه وما آلت إليه أوضاعهم بعد وصولهم إلى أستراليا أو مطلق أي دولة أوروبية بطريقة غير شرعية. لكن ليس كل مرة تسلم الجرة، وهم يعلمون ذلك، يضيف الدكتور عواد، «لكن الوعود التي يتلقونها من عناصر شبكات التهريب والأحلام التي يبنونها لهم، تدفعهم إلى المخاطرة بحياتهم وحياة أفراد عائلاتهم. وقد يدفعون مبالغ مالية طائلة تمكنهم لو أرادوا، أن يعيشوا من فائدتها في وطنهم وبين أهلهم. لكنهم يبحثون عن الغد الأكثر إشراقاً لأولادهم».
إذاً هي ليست مجرد مسألة فقر وعوز. «هي حالة يأس».  وما يعرف بالحلم المنشود بعدما شاهدوا نماذج نجحت في تحقيق غاياتها من خلال وسيلة الهجرة غير الشرعية. لكن هل يجازف مطلق أي إنسان بحياة أطفاله للوصول إلى أرض سمع الكثير عنها من عناصر شبكات تهريب البشر؟! يجيب الدكتور عواد: «هؤلاء لا يعرفون الخطر. همهم الوصول إلى بر الأمان. اما اليوم فالمسألة تختلف. فقد باتوا يعدون للعشرة وقد يتراجعون. وقد تخف حركة الهجرة غير الشرعية خصوصاً على صعيد العائلات، لكنها لن تتوقف حتماً. واعتبر أن هذه الظاهرة مرجحة للتزايد في ظل موجات الجوع وتدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في لبنان ودول العالم الثالث».

الهجرة غير الشرعية… تاريخ وقصة
بين الأحلام التي يرسمها منظمو رحلات تهريب البشر وانسداد الأفق الإنتاجي ان الخيارات واحدة، لكن للهجرة غير الشرعية تاريخ وقصة.
ففي ثلاثينيات القرن الماضي كانت أوروبا بحاجة الى الأيدي العاملة، ولم تكن قد أصدرت قوانين تجرم عملية الهجرة غير الشرعية الى أراضيها. لكن مع أوائل السبعينيات، شعرت الدول الأوروبية بالاكتفاء نسبياً، مما جعلها تتبنى إجراءات قانونية تهدف إلى الحد من الهجرة غير الشرعية. وازدادت هذه الإجراءات مع بداية تطبيق اتفاقية «شنغن» في العام 1985 وكذلك في العام 1990، الذي شهد توسيع الاتحاد الأوروبي. ومن حينه أخذت هذه المرحلة طابعاً أمنياً، فلجأت الدول الأوروبية إلى تنفيذ مقررات «القانون الجديد للهجرة»، الذي يستند الى تبني إجراءات صارمة في خصوص مسألة الهجرة، مما خلف آثاراً سلبية في أوساط الراغبين في الهجرة إليها، وساهم في تنشيط حركة الهجرة غير الشرعية الى القارة الأوروبية بشكل لافت. لكن السعي إلى إيجاد سياسة أوروبية موحدة بين جميع بلدان الاتحاد لم يتضح إلا في قمة سالونيكي التي عقدت في 19 تموز (يوليو) 2003 التي حددت معايير موحدة لدول الاتحاد، من أجل التصدي للهجرة السرية، وتضييق فرص الدخول الى أوروبا إلا وفق شروط محددة. لكن الفشل كان حليف القمة بسبب الاختلاف بين الأوروبيين في تقويم موضوع الهجرة، وأهميتها بالنسبة الى الاقتصادات الأوروبية.

تجارة من ذهب
نعود إلى لبنان الذي يبدو أن الأجهزة الأمنية باتت تحسب للهجرة غير الشرعية ألف حساب، وبحسب مصدر أمني فإن حادثة عبارة بقعيت فتحت العيون خصوصاً بعد الكشف عن تورط رؤساء بلديات حاليين وسابقين ومخاتير وأشقاء مخاتير وبعض الوجهاء في القرى والبلدات العكارية وفي طرابلس ومخيم البداوي في العمل لحساب شبكات تهريب البشر. وتبين أن نشاطها لا يقتصر في لبنان على تأمين التأشيرات الأندونيسية أو الماليزية وإرسال المهاجرين الذين يستقبلهم عملاء تلك المافيات هناك فحسب، إنما يتعداه إلى تزوير بطاقات هويات وجوازات سفر سورية لبيعها لمن يرغب بـ 500 دولار للهوية، وألفي دولار لجواز السفر، وخصوصاً للبنانيين والفلسطينيين، وذلك لاستخدامها عقب الوصول إلى أوستراليا مما يسهل عملية اللجوء السياسي أو الإنساني إليها، بسبب الحرب الدائرة في سوريا.
وتضيف المعلومات أن بعض السماسرة كانوا يقدمون عروضاً إضافية للراغبين في الهجرة غير الشرعية إلى أوستراليا، لجهة نقلهم بحرا في مقابل ثمانية آلاف دولار للشخص الواحد، أو بواسطة طائرات مروحية أو سياحية صغيرة يستخدمها السياح للإطلاع من الجو على معالم المدن الأوسترالية في مقابل 12 ألف دولار، أو نقلهم بشكل رسمي من مطاري إندونيسيا أو ماليزيا الى مطاري سيدني أو مالبورن في أوستراليا، حيث يقوم أشخاص هناك باستلامهم ومساعدتهم على طلب اللجوء وذلك في مقابل 15 ألف دولار.
24 جثة ستستقبلها ارض قبعيت التي ودعوها على أمل أن يعودوا إليها يوماً بأحلام زهرية وثروات طائلة. لكن الموعد لن يكون قبل نهاية الشهر الجاري. اما المفقودون فيقارب عددهم الـ 26 وقد يصيرون جزءاً من حكايات كوارث الهجرة غير الشرعية.

جومانا نصر

أستراليا قف حاجز هجرة غير شرعية!
عقب كارثة عبارة الموت في أندونيسيا أقرت أستراليا للمرة الأولى  قانوناً لمكافحة الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر وذلك بترحيلها إلى بابوا غينيا الجديدة دفعة أولى من طالبي اللجوء الذين سيبقون في هذا الأرخبيل حتى وإن تمت الموافقة لاحقاً على منحهم حق اللجوء.
منحت لجنة  في مجلس الشيوخ الأسترالي الضوء الأخضر لمشروع قانون يعاقب كل طالبي اللجوء الذين يدخلون المياه الأستراليةوذلك عن طريق احتجازهم في مراكز خارج أستراليا للحد من الهجرة غير الشرعية اليها.
وأوصت اللجنة بتطبيق العقوبات والإجراءات التي تطاول كل من يضبط خارج نطاق الهجرة غير الشرعية. وعليه فإن أي طالب لجوء يصل إلى المياه الأسترالية عبر مركب بشكل غير شرعي يتم نقله إلى مراكز احتجاز طالبي اللجوء خارج أستراليا، مما يساهم في الحد من الهجرة غير الشرعية، كونه ستتم إعادته إلى بلاده. وفي حال وصول مراكب إلى جزيرتي «كريسماس»  و«آشمور ريف» يصار إلى نقلهم مباشرة إلى معسكرات الإحتجاز.
القانون واضح لكنه  يحتاج إلى بعض التعديلات التي تتضمن إلزام الحكومة إعطاء تقرير كامل عن الإجراءات المتبعة من طالبي اللجوء إلى مجلس الشيوخ ومجلس النواب بشكل سنوي.
وتشدد لجنة التشريعات القانونية والدستورية في مجلس الشيوخ على ضرورة «تصرف الحكومة بشكل شفاف ومسؤول أثناء تطبيق الإجراءات مع طالبي اللجوء، ومراعاة عناصرالرعاية الصحية والتعليم وغيرها».
فهل سيساهم هذا المشروع في الحد من الهجرة غير الشرعية إلى أستراليا وإقفال ولو منفذ واحد في وجه شبكات تهريب البشر وحصد أرواح ما لا يقل عن 15 في المئة من المهاجرين سنوياً في العالم؟
الأرقام لا تؤثر ولا تؤخر من عملية تجارة تهريب البشر. فأصحاب الشبكات ينامون على حرير المافيات وتواطؤ الرؤوس الكبيرة معهم. والصغار الذين فقدوا الأمل بأفق حياة كريمة مستعدون للمغامرة ولو كانت الكلفة حياتهم في قعر البحر!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق