صحة

التهاب المفاصل الرثياني… انه الموت في ذاته!

ليس سرطاناً ولا مرض قلب أو كبد أو سكري ولا حتى سكتة دماغية! إنه أقسى! انه التهابٌ يُدمر المفاصل ويُفتت الجسد ويُعيق الحركة ويشلُ الانسان. انه داءٌ في المفهوم الطبي وهو «روماتيزم» في المفهوم الشعبي، وبين المفهومين، الطبي والشعبي، يستغيثُ مريض التهاب المفاصل الرثوي من الألم صارخاً: انه الموت في ذاته!

هي سيلفانا، الفتاة المحامية، التي كانت مثل «طربون الحبق» مصابة بالداء. واليوم، بعد عشرين عاماً من الصراع المرير، صارت كتلة مفككة، مشوهة، تتكل وهي ما زالت شابة في مفهوم الزمن على عصاها! ما زالت سيلفانا تبتسم لكن بمرارة وما زالت تصرّ على أن تصعد وتنزل الدرجات الخمس التي تفصل بين بيتها في الطبقة الأرضية والشارع العام. هي جبارة، أو كانت جبارة، فالداء هذا شرس يجعل أقوى إنسان يركع!

التدخل الطبي في الوقت المناسب
خبراء، من مختلف المجالات، أطباء وممرضون ومرضى التقوا بدعوة من «روش» للكلام مجدداً وبصوت عال عن داء المفاصل الرثياني، وجال بينهم، من يد الى يد، عقد مصنوع بإتقانٍ من حبات لا وزن لها، صنعته مريضة بيدين مفككتين! مرضى الداء، أو لنقل مريضات هذا الداء بما أنه أكثر شيوعاً بثلاثة أضعاف عند النساء، يردن أن يتزين أيضاً. انهن يردن أن يعشن ويلبسن ما لا يتسبب بثقل على رقابهن فكيف إذا نجحن هنّ، بأيديهن المفككة، بصنعِ ما يردن؟ نعم، بإمكانهن أن يفعلن ما يردن إذا أخذن العلاج المناسب في الوقت المناسب. انهن ينجحن بذلك إذا توجهن منذ البداية الى طبيب – اختصاصي – إنسان يفهم بالداء لا الى مجرد طبيب يقول لهن، في بدايات المرض: خذوا حبتين من المسكنات ولا تتدللوا!
هو، بحسب رئيس قسم طب الروماتيزم في كلية الطب والمركز الطبي التابعين للجامعة الأميركية في بيروت البروفسور عماد عثمان، أول حروف الأبجدية في مسيرة مواجهة هذا الداء الشرس: فالتدخل الطبي يمكنه أن يحد من تطور الالتهاب وأحياناً الى سكون كامل للمرض، غير أن التحدي يبقى في أن المدة بين ظهور أول إشارات المرض وإجراء تشخيص رسمي والمباشرة بالعلاج تستغرق زمناً! والتأخر في التدخل الطبي له عواقب هائلة وخطيرة قد تتسبب بضرر في أعضاء الجسم ثم الإعاقة والموت.

 سيلفانا، الصبية التي دمر الداء جسدها، لم تتأخر يوماً عن استشارة طبيب لكن الطبيب الذي استشارته هو من تأخر، عن جهل أو إهمال، بعلاجها في شكل صحيح. وثقت هي فيه ولم يكن هو على قدر الثقة. قدرها؟ لا، هي قلة التوعية أولاً وندرة المعرفة ثانياً والإهمال ثالثاً!

ليس مرض المسنين
نتجاوز قصة الصبية المتألمة وندخل أكثر في «المعرفة»، في السؤال والجواب، علّ مئات ومئات ممن أصابهم المرض الا يتحولوا الى سيلفانا جديدة! فماذا في طبيعة هذا الداء؟ وهل نفهم من قصة الصبية أن التهاب المفاصل الرثوي ليس مرض المسنين؟
رئيس الجمعية اللبنانية لأمراض المفاصل والروماتيزم ورئيس قسم أمراض المفاصل والروماتيزم في جامعة الروح القدس في الكسليك وفي مستشفى سيدة المعونات الجامعي في جبيل الدكتور جورج مرعب يتحدث عن مفهوم خاطىء يسري بين الناس: فكثيرون يعتبرون أن الداء مرض لا يصيب إلا المسنين لكنه، في الحقيقة، يصيب كل الفئات العمرية. في كل حال داء المفاصل هو مصطلح عام يشير الى أكثر من مئة مرض مفصلي يمكن أن يصيب كل مفاصل الجسم، بما فيها الأعضاء الرئيسية. والتهاب المفاصل الأكثر شيوعاً هو التهاب المفصل العظمي وهو النوع الناجم عن تلف المفاصل وتآكلها. وهناك التهاب المفاصل الرثياني الناتج عن خلل في عمل نظام المناعة الذاتية وهو قادر على أن يطرأ في أي سن، وإذا استمر بلا علاج يصبح مرضاً موهناً جداً. وهو يصيب، للأسف، الملايين حول العالم.
الداء قد يصيب إذاً أياً كان، في أي وقت، حتى الأطفال! نعم، هناك طفل لم يتجاوز عمره عدد أصابع اليد الواحدة بين عداد مرضى طبيبة الروماتيزم في مستشفى أوتيل ديو دو فرانس الدكتورة نيللي زيادة. وفي الإحصاءات يعاني نحو ثلاثمئة ألف طفل، دون سن السادسة عشرة، من هذا الداء الشرس حول العالم.
يتكرر أمامنا اسم التهاب المفاصل الرثياني فما هو هذا الداء؟ ما سببه؟ وراثي؟ جرثومي…؟

 هذا الداء هو مرض مناعة ذاتي جهازي تصاعدي يتميز بالتهاب الغشاء الموجود في مفاصل الجسم ويؤدي الى فقدان المفاصل شكلها ووظيفتها، ما يتسبب بآلام وتورمات، ويؤدي تدريجياً الى تلف المفصل في شكل لا عودة عنه. التهاب المفاصل الرثياني يُقيد عادة الحركة حول مفاصل اليدين والقدمين والمرفقين والركبتين والعنق، وهو قد يؤثر، في الحالات الأكثر حدة، على العينين والرئتين والأوعية الدموية.
سبب الإصابة مجهول وإن كان يُشتبه أن بعض الالتهابات أو العوامل الوراثية أو البيئية قد تجعل نظام المناعة يحارب أنسجة الجسم، ما يدفع الى تصنيف الالتهاب كمرض مناعي ذات
ي المنشأ.

اصابة الاطفال
نتوقف قليلاً عند عمر الأطفال لنسأل: هل يفترض أن يتعايش هؤلاء مع الداء كل العمر؟
ثمة أجوبة قد تأتي غير حاسمة وهذا ما نراه يتكرر مع داء التهاب المفاصل الرثوي، فلا أحد قادراً على أن يتوقع مدى حدة ونتائج الالتهاب عند الأطفال، وبالتالي قد ينتهي بعضهم من المرض بعد سنتين او ثلاث سنوات، بينما قد يختبر آخرون انتكاسة متجددة، وفي هذا الإطار أظهرت الدراسات أن بين 23 الى 30 في المئة من الأطفال قد يظهرون أعراضاً شاملة حتى بعد 15 عاماً من الظهور الأول! نذكر هنا أن التعقيدات التي قد تواجه الصغار أكثر مما هي بين المرضى الكبار، ويُقدر معدل الوفيات الإجمالي عند الأطفال المصابين بين اثنين الى أربعة في المئة.
 لعلّ تشخيص الداء عند الأطفال هو الأسوأ على المدى البعيد، فالكبير حين يتألم يُعلن، يتذمر، يشكو، أما الصغير فيبكي، لهذا تكون مسؤولية الأهالي الانتباه الى الأعراض، الى وجود ورم أو انتفاخ مثلاً عند الكوع أو الركبة وحرارة مزمنة تتكرر، بلا سبب، تصل حتى أربعين درجة وتترافق أحياناً مع طفرة جلدية وفقر دم وتورم في الكبد أو الطحال.

 تقدم العلاجات
نصل الى اللب: ماذا عن العلاج؟
الدكتور عماد عثمان يدخل في عمق الموضوع: «كنت أصف قبل أعوام مديدة الكورتيزون وأنا مدرك تماماً أنني أخبىء المرض والألم والورم والحرارة لكنني، مع تقدم العلاجات وتوافرها، بتّ قادراً على أن أقول الى مرضى التهاب المفاصل الرثوي: أصبح بإمكانكم أن تعيشوا بصحة وسلام».
الطب إذاً يتقدم والعلاجات تُستحدث والأمل يكبر، بدليل أن إمكانيات أن يعيش مريض هذا الداء الشرس بسلام كبرت جداً. وأصبح بإمكان من يصرخ ليل نهار من الألم أن يخرج من شرنقة هذا الداء الذي لا يرحم، شرط أن يعرف الى أي طبيب يتجه، متى يتوجه، وكيف يتكيف مع قدره بأقل الأضرار. وهذا لا يتم، نكرر، إلا بالمعرفة والثقافة والعلاج المناسب الذي بات بامكانه أن يُعدل من مسار المرض ويُديره في شكل ايجابي ويوقف ضرر المفاصل ويحول دون الإعاقة العملية. فليس كل علاج مناسباً وليس كل طبيب مخولاً أن يعالج مريض التهاب المفاصل الرثياني والداء ليس مجرد التهاب تكفيه حبتا مسكن!
في كل حال، ثبت حتى هذه اللحظة، من خلال الدراسات الجينية، بأن تحولات في جينة بروتيين أنتركولين – 6 قد تكون السبب في زيادة انتاج هذا البروتيين المشجع أساسا لحصول الالتهاب. وعند تحديد السبب يفترض أن يبطل العجب، من هذا المنطلق يعمل الأطباء على تقويض انتاج بروتيين أنتركولين – 6 في علاج التهاب المفاصل الرثوي بدل استخدام علاج الكورتيزون الذي يخفي المرض ويُقلل الأوجاع من دون أن يحدّ من فتك الالتهاب في مفاصل الجسم.

يُصيب التهاب المفاصل الرثياني إذاً واحداً في المئة من الشعب اللبناني ونصيب سيلفانا، التي لا تزال في مفهوم العمر صبية، في الأربعين، أن تكون في عداد المصابين وأن تصرخ ليل نهار: نجني يا رب من براثن هذا الداء! هي أصبحت في مقلب متقدم من الإصابة، ليس بسبب إهمال منها، بل بسبب عدم معرفتها عن الداء أولاً وبسبب توجهها الى طبيب لم يكن على قدر المسؤولية ثانياً! سيلفانا تتكىء على عصاها والالتهاب ضرب رئتيها والإعوجاج طاول كل مفاصلها، واليباس يسيطر على مختلف أنحاء جسدها لكنها حين تسمع من يعمل اليوم على نشر الوعي عن هذا الداء تبتسم، تتفاءل، وتردد: ساهموا في نجاتهم كي لا يصلوا الى ما بلغت!.

نوال نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق