آدب

محمد قبيسي… يساهم في صيانة ذاكرتنا الوطنية من الضياع

منذ اقدم العصور، حقق الانسان الكثير من الانجازات والانتصارات المختلفة، وخصوصاً في ميدان الفكر الذي هو وراء كل عمل كبير وعظيم. وعلى مدى التاريخ، استوعبت المخطوطات والوثائق، ومن ثم، الكتب المطبوعة، ما تمخضت عنه ادمغة البشرية من افكار وعلوم وفنون… وكما نعرف، فان هذه الاوعية – اذا جاز التعبير – التي تحفظ في بطونها التراث الانساني في كل زمان ومكان، من الضياع، هي بأشد الحاجة الى الاهتمام والعناية والصيانة، لذلك، نشأ علم ترميم الآثار على اختلاف انواعها، وخصوصاً ترميم المخطوطات والوثائق… ويعتبر الدكتور محمد قبيسي من ابرز الخبراء وامهرهم في مجال تنظيم الارشيف والتوثيق والترميم، سواء في لبنان او في العالم العربي. ومنذ انشاء مركز الارشفة والتوثيق والترميم في قوى الامن الداخلي، في عهد اللواء مروان زين، وصولاً الى اللواء ابرهيم بصبوص، مروراً باللواء اشرف ريفي، حيث تم تكليف محمد قبيسي بترميم الوثائق والمستندات والطوابع لحقبات الاتراك والانتداب والاستقلال، وتدريب العاملين من العسكريين في عمليات الترميم. ومنذ ذلك الحين، وهو ما زال يواظب على القيام بهذه المهمة التي من شأنها صيانة ذاكرتنا الوطنية من الضياع والاندثار. وتقديراً لجهوده المضنية على اعادة تأهيل وارشفة عدد ضخم من السجلات المتآكلة بسبب القِدَم لرجال قوى الامن الداخلي، بمعرفة واتقان، تم منحه مدالية الامن الداخلي بموجب القرار الصادر عن وزير الداخلية والبلديات، وجوائز داخلية وخارجية. وفي الحوار التالي يتحدث الدكتور محمد قبيسي عن تجربته الرائدة في علم التوثيق والترميم.

ما هي العوامل المؤثرة في المخطوطات؟
كما لا يخفى عليك،  تتكون جميع الماديات في الحياة من عناصر ثلاثة اساسية، هي: الكربون والهيدروجين والاوكسيجين مع اختلاف طبيعة وجودها بين مواد صلبة او سائلة او غازية.
ومن هذه العناصر الثلاثة تتكون المواد الكربوهيدراتية التي تتحول الى مواد بروتينية ودهينة عن طريق تفاعلات كيميائية خاصة….
ولو اخذنا المخطوطات، لوجدناها تتكون من مواد كربوهيدراتية (سيللوز) ممثلة في الورق، ومواد بروتينية ممثلة في الجلود والرقوق، التي تتعرض بدورها الى الكثير من العوامل البيئية كالتلوث الجوي الغازي، وتغيرات الحرارة والرطوبة، والاضاءة والاشعاعات، اضافة الى تعرضها لما يحمله الهواء من جراثيم الفطريات وبويضات الحشرات.
هذه العوامل مجتمعة تتفاعل في ما بينها مع مكونات المخطوط تاركة عليه بصمات واصابات واضحة يمكن تسميتها ببصمات الزمن.

عوامل تؤدي الى اتلاف المخطوط
مثالاً على ذلك؟

اذكر من اعراضها ما يأتي
اولاً: جفاف الاوراق وتقصف حروفها.
ثانياً: انتشار الثقوب والقطوع على اطراف المخطوط ونصوصه.
ثالثاً: انتشار البقع اللونية الكيميائية والبيولوجية على الصفحات المكتوبة وجلود الاغلفة.
رابعاً: التصاق الصفحات وتحجر المخطوطات.
خامساً: تآكل الاوراق تحت حروف الكتابة.
سادساً: بهتان لون الاحبار.
سابعاً: انكماش الجلود والرقوق المكتوبة.
ثامناً: تصلب الاغلفة الخارجية وتمزق مفاصلها.
ومن هذه الاعراض نرى ان التقادم الزمني لا يعني الزمن بمعناه المعجمي، بل يعني محصلة تأثير عوامل بيولوجية وطبيعية وكيميائية تتفاعل مع مادة المخطوط، وتؤدي في النهاية الى مثل هذه الاصابات.

حرفة بدأت قبل قرون
متى بدأت حرفة ترميم المخطوطات والوثائق؟

من الطبيعي جداً ان تنشأ حرفة ترميم المخطوطات في وقت لم تكن الطباعة فيه معروفة، ولم يكن استبدال نسخة جديدة بنسخة بالية امراً هيناً، كما هي الحال في عصر الطباعة، وعلى الرغم من انه لم يبق لنا من آثار القرون الاولى للهجرة دليل مادي على وجود تلك الحرفة، الا ان التاريخ يحدثنا ان ميزانية «دار الحكمة» التي انشأها الحاكم بأمر اللّه في القاهرة سنة 395 هـ. كان فيها بند لترميم المخطوطات التي تتعرض للتلف والاصابة. وهذا ان دلّ على شيء، فانما يدل على وعي مكتبي ممتاز ومظهر عظيم من مظاهر الاهتمام بالمخطوطات والحفاظ عليها، في ذلك الزمن البعيد.

اساليب الترميم بين القديم والجديد
كيف تحدد الاساليب التي كانت متبعة قديماً؟

كانت الاساليب المتبعة قديماً بدائية جداً، تعتمد على لصق ما تمزق من الاوراق والجلود دون النظر الى ما تحدثه هذه الاصلاحات من تشوهات واصابات جديدة للمخطوط.
والاساليب المتبعة حديثاً؟
اما اليوم، فالترميم عملية فنية دقيقة، ذات معايير ذوقية وجمالية، تحتاج الى حس عال، وحساسية فائقة، وصبر كبير، اضافة الى المهارة اليدوية والخبرة.

علاج الاثر المصاب
ما هو تعريفك لعملية ترميم المخطوطات والوثائق؟

يمكن تعريف عملية الترميم بأنها عملية تجميل المواد الاثرية واعادة حالتها الى شكل اقرب الى اصلها بغير اضافات متلفة او مزورة. وبمعنى آخر، يمكن ان نقول، ان عملية الترميم هي عملية علاج للأثر المصاب من التشققات، والكسور، والتفتتات، والثقوب، والاصابات الاخرى التي يمكن ان تسببها مجمل العوامل المحيطة بهذا الاثر.
هل ان عمليات الترميم تقوم على اسس واحدة؟
عمليات الترميم جميعها، في جميع انحاء العالم، تقوم على اسس واحدة، من اهمها:
اولاً: المحافظة على اثرية المخطوط.
ثانياً: استخدام الخامات الطبيعية والبُعد عن الخامات الصناعية بقدر المستطاع.
ثالثاً: ان تكون عملية الترميم عكسية، اي يمكن فكها عند اللزوم.
وقبل البدء بعملية الترميم يجب اجراء ما يأتي:
اولاً: تصوير المخطوط تصويراً تسجيلياً قبل الترميم وبعده، حيث يبيّن هذا التصوير مدى الجهد المبذول في ترميم اوراقه. ويظهر مدى دقة القائم بالعمل ومهارته، وفي الوقت نفسه يكشف الغش والتزوير اللذين قد يحدثان في اثناء عملية الترميم.
ثانياً: معرفة جميع الاصابات وتحديدها تحديداً دقيقاً، وذلك لتحديد طريقة علاجها وترميمها.
ثالثاً: تجميع الاجزاء المنفصلة عن الاوراق، من قِبَل المرمم، في ظرف او علبة لاعادتها الى اماكنها عند ترميم المخطوط.

انواع الاصابات والتلفيات
ما هي العوامل التي من شأنها ان تصيب المخطوط وتؤدي الى اتلافه؟

العوامل كثيرة – كما سبق وذكرنا – وخصوصاً عندما تلتصق اوراق المخطوط بعضها بالبعض الآخر، وذلك يعود الى تعرضها للرطوبة الشديدة حيناً من الزمن مع وجود بعض الاوساخ والاتربة داخل الاوراق، مما يهيىء جواً ملائماً لنمو الفطريات عليها فيؤدي الى التصاقها وضعفها.
بالاضافة الى نشاط الحشرات داخل المخطوطات، وما تفرزه من مواد مختلفة في اثناء دورة حياتها، فينتج عن ذلك ايضاً التصاق تلك الصفحات بعضها ببعض.
وهذه العوامل تؤدي الى ضعف الاوراق فيجعلها عرضة للتمزق عند محاولة فك بعضها عن بعض.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق