تحقيق

رمضان بأي حال عدت يا رمضان؟!

رغم الدم والاضطرابات والثورات والاحتجاجات التي تعم عدداً كبيراً من الدول العربية والاسلامية، المفارقة الكبرى ان اصوات المدافع والصواريخ ودوي القنابل والانفجارات لم تتمكن من اخماد صوت ذاك المدفع، معلناً بداية الصوم وبداية الافطار، انه شهر رمضان، يحل هذا العام ليس ككل الأعوام، حزيناً متوتراً وسط اجواء سياسية وامنية واقتصادية عاصفة ومتدهورة، لكن مع كل هذه الاهوال، يبقى لحلول هذا الشهر الفضيل مكانته الخاصة. فوسط كل الحروب والانقسامات يطل رمزاً كبيراً دافئاً موحداً لكل المسلمين في بقاع الأرض، بطقوسه المقدسة والحميمية والتقليدية المحببة، وافطاراته الجماعية واطباقه الشهية التي تشتهر بها كل دولة والتي تملأ الأجواء بعبق الإيمان والألفة والفرح، ومن علاماته الفارقة هذا العام انحسار فوانيسه، تقشف موائده وافطارات جماعية في ساحات الثورات.

رمضان بأي حال عدت… بأي حال وجدتنا؟!
يحل شهر رمضان الكريم المبارك ضيفاً عزيزاً على المسلمين مرة في كل عام، ينتظرونه بشوق وفرح كبيرين، ومع الإنتشار الواسع للإسلام تختلف مظاهر الشهر الفضيل وطقوسه من بلد الى آخر باختلاف العادات والتقاليد وأساليب الحياة التي ينتهجها الناس. لكن اجواء رمضان بدت مختلفة هذا العام في الكثير من الدول العربية والاسلامية، لياليه كئيبة قلقة، موائده متقشفة، افطاراته مجروحة، زينته واضواؤه خافتة، جمعاته «منغصة» منقوصة ومشتتة بدءاً من لبنان فالى سوريا ومصر، وصولاً الى تركيا.

لبنان… غلاء فاحش
في عز الحروب الاهلية والطائفية التي عصفت بلبنان، لطالما كان شهر رمضان من ابرز المناسبات التي ينتظرها مسلموه وكذلك مسيحيوه، مساحة حلوة للتلاقي والتعايش والتسامح تجمعهم معاً بفرح على موائد وافطارات الشهر الفضيل. ها هي اجواء التوترات الأمنية تنغص مجدداً أجواء رمضان في لبنان هذا العام، فوسط أجواء أمنية مضطربة تعانيها الساحة اللبنانية والعربية عموماً، ونزوح سوري  يجتاح لبنان، استقبل اللبنانيون شهر رمضان بقلق وحذر، مترقبين ما ستؤول إليه الأوضاع في المقبل من الأيام، خصوصاً بعد احداث عبرا، جنوب لبنان، وتفجيري الضاحية الجنوبية لبيروت وطريق المصنع.
والى الاجواء الامنية، يحل رمضان وسط ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، اجبرت اللبنانيين على استقبال الشهر الفضيل بتدابير تقشفية. فالمائدة الرمضانية باتت تشكل عبئاً ثقيلاً على مصاريفهم اليومية. وبدا واضحاً ان انوار وزينة شهر رمضان المبارك لم تتمكن من حجب الكارثة الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة في لبنان، جراء ارتفاع أسعار الخضار والفاكهة واللحوم المترافقة مع المزيد من التقنين في الكهرباء وحتى في الماء.
فكما العادة، يشكو اللبنانيون من الغلاء في شهر رمضان، الذي يطاول مختلف أنواع السلع والخضراوات. وفي مناطق بيروت الشعبية، بدا الإقبال  خلال الاسبوع الاول من الشهر الكريم خجولاً، بحسب تجار المنطقة  بسبب «الظروف الأمنية غير المستقرة»، والتي جعلت أجواء رمضان هذا العام مختلفة عن كل ما سبقه. وفي الاسواق الشعبية توزعت البسطات يميناً وشمالاً، عارضة الخضار والفاكهة الطازجة والمكسرات والتمور والمشروبات الباردة، الخاصة بالشهر الفضيل، والى جانبها تمركزت بسطات تمددت عليها أشهى أنواع الحلويات كالقطائف والكرابيج. وفي بعض محال الخضار، لوحظ أن كيلو البندورة يباع حالياً بحوالي دولارين ونصف الدولار، وكيلو الخيار بالقيمة عينها تقريباً، أما الخسّة وأوراقها المعدودة، فسعرها يقدر بدولارين ايضاً، والبصل حوالي دولارين، وشمائل البقدونس والروكا والزعتر والفجل باتت من الإضافات غير المرغوب فيها لأسعارها الغالية وأحجامها الصغيرة. ووفق هذا المعدل يكلف صحن الفتوش الذي يعد من الاطباق الرئيسية على المائدة اللبنانية المواطن اللبناني ما بين 8 إلى 10 دولارات. ويعتبر التجّار أن السبب الأساسي في ارتفاع اسعار الخضار واللحوم يعود إلى «كثرة الطلب وقلة العرض التي تأثرت بالأوضاع السورية، ومشاكل الطريق الدولية السورية، الأمر الذي حد من دخول الأصناف والسلع الزراعية واللحوم من سوريا».

 


عودة الدمشقيين
والى سوريا، لاحظ تقرير اعدته وكالة «رويترز» ان الأجواء في دمشق بدت أكثر بهجة مما كانت عليه الحال قبل عام، الأمر الذي قد يعكس إحساساً أكبر بالأمن مع المكاسب التي حققتها القوات الحكومية ضد مقاتلي المعارضة المسلحة. واشار الى ان كثيراً من الدمشقيين عادوا من الخارج لقضاء شهر رمضان مع أحبائهم. وتعج محلات الأغذية بالمشترين ويشكو القصابون وأصحاب المخابز من قلة المعروض. لكن كثيراً من المتسوقين عبروا عن إحباطهم من نقص الطعام وتضخم الأسعار.
وهبطت قيمة الليرة السورية إلى سدس قيمتها قبل عامين. ورغم أن سوريا لديها اكتفاء ذاتي من الأغذية إلا أن نقص الوقود أدى إلى نقص المواد الغذائية في المدن. ولم يتمكن الدمشقيون في أول أيام رمضان من العثور على سلع أساسية مثل اليوغورت (الزبادي) وتضاعف سعر اللحم – إذا وجد أصلاً – عما كان عليه قبل شهور قليلة، وارتفع سعر الخبز البلدي وهو سلعة غذائية يومية، إلى ثلاثة أمثال سعره قبل عام.
وفي الوقت نفسه لم ترتفع مرتبات موظفي الحكومة. ويشهد التجار وموظفو القطاع الخاص أعمالهم وهي تعاني ركوداً تاماً ويشكو كثيرون من نقص في الأموال. لكن الدمشقيين حريصون في ما يبدو على إضفاء أجواء احتفالية في رمضان بالرغم من المشكلات المالية.
وذكرت «رويترز» انه في أولى ليالي رمضان عجت الشوارع والمقاهي بالناس. واشتروا المستلزمات في اللحظة الأخيرة وسارعوا إلى البيت لإعداد وجبة السحور. الضجيج كان عالياً على نحو غير مألوف وهو شيء لم تشهده شوارع دمشق منذ فترة.  فالعاصمة السورية منذ شهور تصبح هادئة مع غروب الشمس إذ يلوذ الناس بالبيوت خوفاً من الخطف وإطلاق الرصاص او التعرض لتحرش ممن يحرسون حواجز التفتيش.
لكن رمضان يكون عادة شهراً للنشاط الليلي، خصوصاً إذا جاء في فصل الصيف. حيث يخرج الناس ليلاً وبعد الإفطار والصلاة للتنزه وتناول السحور أو لزيارة الأهل مع أطفالهم. وبلغت هذه الأجواء الاحتفالية المصاحبة لرمضان ذروتها في دمشق عام 2010 . وكانت حفلات السحور في المنازل والمطاعم تمتد طوال الليل، وكان يصعب العثور على مائدة خالية في مطعم في الثانية صباحاً بدون حجز. وكانت هذه الأجواء على النقيض من أجواء رمضان العام الماضي الذي جاء بعد اغتيال آصف شوكت صهر الرئيس. ويتذكر كثيرون ذلك القتل كإعلان عن وصول الحرب الأهلية إلى العاصمة.
ففي رمضان الماضي كان الكل يلوذون بالمنازل بعد الغروب ولا يسمع في الليل سوى صوت المدفعية الثقيلة والطائرات الحربية. لكن الحياة عادت على ما يبدو إلى شوارع دمشق خلال الأيام القليلة السابقة على رمضان هذا العام مع انطلاق الموسيقى من السيارات وتصفيق الشبان على نغماتها. ربما يضيف إلى هذا الضجيج حقيقة أن كثيراً من السوريين عادوا لقضاء رمضان، حيث كانت الحدود مع لبنان مزدحمة على غير العادة بالسوريين العائدين إلى دمشق.

رمضان مصر حزين
تعد مصر من الدول التي يتميز فيها الشهر الفضيل بطقوس مميزة، خصوصاً في منطقة الحسين وخان الخليلي، غير أن رمضان يأتي هذه السنة في أجواء سياسية عاصفة ومرتبكة جداً.
ووفق تقرير اعدته «سي. ان. ان» بالعربية، اختفت مظاهر الاحتفال بشهر رمضان من الشارع المصري على غير العادة، خصوصاً مع التطورات التي تشهدها الساحة السياسية، وفي ظل التظاهرات التي شهدتها المدن المصرية على مدار الأسابيع الماضية. ولحظ التقرير أن فانوس رمضان، الذي يعتبر تقليداً متبعاً طوال شهر في مصر، اختفى من أمام المحال في الشارع المصري خلال الأيام القليلة الماضية، ولم يظهر إلا قبل أسبوع واحد فقط على غير العادة. ونقلت وكالة «فرانس برس» عن بائع مصابيح  قوله: ان اجواء رمضان التي تكون عادة مبتهجة، وتعلق خلالها المصابيح في شوارع القاهرة احتفاءً بشهر الصيام، حزينة هذه السنة بسبب الازمة السياسية التي تعاني منها مصر. وقالت فوزية وهي من القلائل الذين يتبضعون في سوق القاهرة: «هذه السنة غابت اجواء الفرح العادية، اننا قلقون».
واوضحت فوزية (41 سنة) وهي ام لاربعة ابناء: «تعودنا على سهرات رمضان لكننا هذه السنة بسبب التظاهرات والعنف والاخوان المسلمين لا نشعر بالامان في الوقت الراهن، فهناك شعور بالاحباط».
وقال رجل اربعيني في حي السيدة زينب: «هذه اول مرة اعيش رمضاناً كهذا، لا اشعر بشيء». وفيما بدا الباعة المتجولون محبطين، قال حسين الرشيد بائع التمر الاربعيني: «في رمضان السنوات الماضية كان دائماً لدينا عمل كثير لكن الان كما ترى، لا احد».
من جانبه يقول محمد انه لم يتمكن من بيع حتى نصف عدد المصابيح التي تعود على بيعها. وقال متحسراً: «ان تأمين الطعام يظل الاولوية ولا يستطيع الناس شراء المصابيح».
وذكر تقرير الـ «سي. ان. ان» بالعربية انه في المحال التي تبيع ياميش رمضان، أو الفاكهة المجففة التي تشتهر في رمضان، فقد اشتكى الباعة من ضعف الإقبال على الشراء، بينما رد بعض المتسوقين الأمر الى ارتفاع الأسعار، وضيق الحال، مما دفعهم للتراجع عن الشراء بكميات كبيرة  إذ قال الحاج علي، صاحب أحد المحال التجارية بمنطقة مصر الجديدة: «إن الإقبال على شراء مستلزمات شهر رمضان، ليس على ما يرام، في ظل ارتفاع الأسعار، بما يقارب 25 في المائة مقارنة مع العام الماضي، والذي أدى إلى انخفاض حركة البيع، والناس معذورة».
ومع استمرار حركة الاحتجاج في مصر، بين مؤيدين ومعارضين للرئيس المصري المخلوع مرسي، بدت لافتة الافطارات الرمضانية التي تنظم بين صفوف المحتجين في الساحات.

رمضان اسطنبول
ومن ميدان الحرية في مصر الى  ساحة تقسيم في اسطنبول، المشهد يتكرر، رمضان في قلب الثورات، المتظاهرون الأتراك ضد الحكومة وسياسة اردوغان يتابعون تظاهراتهم ولا ينسون رمضان، وعلى مسافة قريبة من ساحات احتجاجاتهم، في شارع الاستقلال ينظمون وجبات الإفطار جماعياً ومعاً ينطلقون مجدداً الى الثورة.

الآذان من أعلى برج في العالم
في دبي، اجواء رمضان تختلف وسط اجواء اكثر امناً وسلاماً ورخاء، وحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ارادها اكثر سطوعاً هذا العام فأمر برفع الأذان من أعلى نقطة في العالم من برج دبي طيلة أيام الشهر الكريم. وهكذا اثار صوت آذان المغرب من أعلى برج دبي إعجاب الملايين من الناس بعد ان تم تداول فيديو عبر مواقع التواصل الإجتماعي يظهر فيه برج دبي وأصوات الآذان تنطلق منه وسط دهشة الوافدين الأجانب الذين كانوا هناك.

التمور التونسية
وفي العاصمة التونسية، تجلت الصورة التقليدية في شهر رمضان في اقبال الناس على شراء التمور، علماً بأن التونسيين  ليسوا وحدهم من يقبلون على التمر التونسي في رمضان، وإنما العديد من دول الجوار. ويبقى التمر الفاكهة المميزة لشهر رمضان لارتباطها بالسنة النبوية.

صلاة التراويح
وفي المغرب، يعتبر مسجد الحسن الثاني في مدينة الدار البيضاء أحد العلامات الإسلامية المتميزة في العالم، إذ بني المسجد فوق مياه البحر. ويعرف هذا المسجد في رمضان إقبالاً منقطع النظير. وكما في كل عام، يأتي المصلون من جميع أنحاء المغرب لحضور صلاة التراويح فيه.

من ليبيا الى الجزائر
منذ نجاح الثورة أصبحت ليبيا تتبنى أول يوم رمضان أسوة بالعديد من الدول الإسلامية، بعد أن كانت تسبق كل الدول نظراً لاعتمادها على حسابات فلكية في عهد معمر القذافي. وكباقي الدول تعد الحلويات علامة مميزة لشهر رمضان في ليبيا.
فالى  باكستان حيث يستقبل الباكستانيون رمضان بطبق خاص يتكون من الخضار والحمص، وهي الوجبة التي تقدم في الإفطار. وكباقي المسلمين يحرص الكثير من الباكستانيين على تقديم الوجبات أمام المساجد للفقراء من الناس. فالى الجزائر التي تتميز بمطبخ شعبي من الإرث الأندلسي ويقوم أهلها في شهر رمضان بإعداد ابرز مأكولاتهم الشعبية مثل اللحوم وأصناف المشروبات. فمنذ العهد العثماني اشتهرت، بلدة بوفاريك في سهل متيجة قرب الجزائر العاصمة، بصناعة الزلابية خصوصاً في شهر رمضان المبارك حيث يقبل الجزائريون على تناول هذه الحلوى بعيد إفطار كل يوم. ورغم أن بوفاريك شهيرة أيضاً بزراعة البرتقال، إلا أنه منذ اليوم الأول لشهر رمضان المبارك، تقاطرت السيارات من المدن الجزائرية المجاورة، ليتزود أصحابها بمؤونتهم من الزلابية الطازجة والساخنة والشديدة الحلاوة، ولا يختلف تصنيعها في الجزائر عن تصنيعها في بلاد المشرق العربي، الذي وصفه ابن الرومي بقصيدته الشهيرة بمطلعها «رأيته سحراً يقلي زلابية».
هكذا يحل شهر رمضان الفضيل هذا العام، هو شهر الخير والبركة، فهل يرخي برداً وسلاماً على صيف ملتهب بنيران ثورات واحتجاجات وانقسامات، عبثاً يبددها صوت مسحراتي خافت يصرخ وسط دوي الحروب: «يا نايم وحد الدايم، اصحوا على سحوركم، جاي رمضان يزوركم».

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق