تحقيق

بلد “كل مين إيدو إلو”…

بلد مخطوف، بلد الفلتان الأمني، وطن اللامؤسسات… سموه ما شئتم، ما نعرفه إننا نعيش في مزرعة او كما يسمونه في الأمثال الشعبية “بلد كل مين إيدو إلو”. جرائم، سرقات على عينك يا تاجر، وموت متنقل في انتظارنا عند كل مفترق طريق، وصولا إلى آفة الخطف!
 آخر تقرير اعدته مؤسسة “كونترول ريسك” عن خريطة المخاطر لسنة 2014، يظهر أن لبنان يحتل المرتبة السادسة عالميا بين اكثر الدول التي حصلت فيها حالات خطف مقابل فدية.
قد نكون متفوقين حتى في عالم الجريمة، لكن ماذا عن هذا اللبناني الذي يعيش في وطن كل شيء فيه مخطوف حتى عمره واحلامه؟ صحيح أنه يكمل حياته اليومية على وقع اخبار الخطف ونبضات الموت المتنقل من شارع  إلى آخر والنقاشات السياسية المفخخة بعبارات اقل ما فيها يخدش حياءه الإنساني….مع ذلك نسمعه يقول”عايشين”، لكن هل يكفي ذلك؟

نفهم أن اللبناني يسعى كما العادة إلى تحطيم الأرقام القياسية لكن ليس في مسألة الخطف. لكنه فعلها. فبعد احتلاله مراتب عالمية في مجالات الفساد وعدم الإستقرار، إذ به يحتل المرتبة السادسة عالميا بين اكثر الدول التي حصلت فيها حالات خطف مقابل دفع فدية خلال العام 2013 وفق مؤشر “كونترول ريسك” ونشرته مجلة “بيزنس إنسايدر”. والنتيجة؟
أغلبية رجال الأعمال والمستثمرين من لبنانيين وعرب وأجانب أقسموا على عدم المجيء إلى لبنان. أما من توافر منهم في لبنان فهو حتما يستعد لتوضيب حقيبته خصوصا ان آخر عملية خطف حصلت وكان ضحيتها الشاب جوليان جورج انطون ابن السابعة والعشرين عاما لم تسفر عن إطلاق سراحه على رغم كل المحاولات التي تقوم بها العناصر الأمنية. المسالة معقدة؟
قد تكون كذلك بحسب مقربين من عائلة المخطوف، لأن العملية التي سبقتها بأيام وكان ضحيتها المواطن غسان حداد الذي يشغل منصب مدير في مجمع “السمايا” السياحي في منطقة كسروان أطلق سراحه بعد دفع فدية لا تزيد عن ربع القيمة التي طالب بها الخاطفون. يومها حيكت اخبار كثيرة عن ديون وفدية وإفلاس .المهم ان غسان حداد عاد إلى عائلته وكل ما قيل وتردد سقط في حفرة الشائعات التي تتردد بعد كل عملية خطف تحصل. يبقى الأمل أن يعود جوليان انطون إلى أهله سالما.

انتشار الظاهرة
مصدر أمني اعترف بارتفاع معدل جريمة الخطف في لبنان واكد انها بدأت تتكاثرعلى خلفية تداعيات النزوح السوري ونجاح أول عمليتي خطف لرجلي اعمال سوريين وإطلاق سراحهما بعد دفع الفدية المطلوبة. ومع نجاح عملية خطف الأستونيين وإطلاق سراحهم ايضا بعد دفع الفدية راجت موجة الخطف مقابل فدية من قبل جماعات وعصابات منظمة. لكن هناك أيضا استثناءات، فمن قال إن اللبناني لا يستفيد حتى من الجريمة؟
التقارير الأمنية تشير ألى ان هناك عمليات خطف وهمية تحصل من قبل الأفراد انفسهم بهدف التغطية على خسارة مالية او لدفع الديون المترتبة على المخطوف. يعني”أهليي بمحليي”. ولفت المصدر الأمني إلى أن القوى الأمنية تمكنت من توقيف عدد من الأشخاص المتهمين بعمليات خطف على اثر المداهمات ومنهم من لا يزالون يسرحون ويمرحون. والظاهر أنهم كثر بدليل انتشار الظاهرة.

ومن الخطف إلى النشل والسرقة والقتل، حيث يؤكد المصدر الأمني ان معدل جرائم النشل والسرقة انحسر في العام 2013. تراهم حولوا انظارهم إلى عمليات الخطف مقابل الفدية؟ “ليس بالضرورة أن تكون كذلك بحسب المصدر الأمني والسبب أننا كثفنا من دورياتنا الأمنية على الطرقات وهناك ايضا الوعي الذاتي .أما بالنسبة إلى الجريمة فهي ايضا منخفضة أو على الأقل لم تتجاوز الخط الأحمر. وحدها جريمة سرقة السيارات عادت لترتفع نسبتها بحسب التقارير الصادرة للعام 2013 بعدما كانت انخفضت في العام 2012”.
تسألون بعد من اين تأتي كل هذه السيارات المفخخة؟ وعلى سيرة الإرهاب يؤكد المصدر الأمني ان الأمن الإستباقي والإستعلامي ساهم إلى حد ما في توقيف عدد كبير من الإرهابيين. لكن أمام ظاهرة الإرهاب لا يمكن ان نقول نحن هنا في المعنى المتكامل. نحن نتحرك وفق منظومتي الأمن الإستعلامي والإستباقي والباقي يتوقف على توعية المواطنين ووعيهم الشخصي تماما كما حصل مع سائق سيارة الفان في انفجار الشويفات الأخير. فلولا وعيه لسقط عشرات الضحايا”.

تكيف من دون حدود
عندما يتحول الوطن إلى مربع للجرائم والموت المستباح والخطف مقابل فدية يصبح للحياة مفهوم آخرا. نسلمها لله؟ واضح أن لا خيارات أخرى لدى اللبناني الذي يضع كل قدراته للتكيف من دون حدود وضوابط مع كل شيء. وحتى مع القضايا التي لا يفترض أن يتكيف معها. طاقة إيجابية؟!
الإختصاصي في علم الإجتماع الدكتور أنطوان مسرة اكد أن قدرة اللبناني على التكيف من دون حدود تشكل خطرا على مستقبل الوطن لأن اللبناني مجبول على المساومات من دون ضوابط .هذا لا يعني أن مفهوم التكيف سلبي في المطلق لكن ما بعد الحرب يختلف عما كان عليه خلالها. ويعود مسرة إلى زمن الإحتلالات يوم كان اللبناني يتكيف مع هذا الواقع “يومها كان يتكيف مع كل الظروف وينجح في التموضع في انتظار تغيير ما. هذا التغيير حصل ومشهد المليون في ساحة الشهداء في ال2005 وقبله في العام 2000 عند خروج جيش الإحتلال الإسرائيلي كان معبرا عن هذه الإنتظارات. اليوم ماذا ينتظر اللبناني؟ ربما الكثير لكن المطلوب يقظة وطنية ليقول “لا” وينتفض على هذا الواقع تماما كما حصل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري”.

لوسائل الإعلام الدور البارز في تدجين عقل اللبناني وتخديره. “نسمعهم اليوم يعقدون ندوات وحلقات حوارية عن امكانية تأجيل الإنتخابات الرئاسية. وهذا هو الخطر بعينه. فحتى الكلام عن هذا الإحتمال لا يجوز تعميمه في وسائل الإعلام .على العكس يجب توعية الناس على اهمية المؤسسات وضرورة العودة إليها.أما في مسألة انتخاب رئيس للجمهورية فيجب التذكير أنه طيلة فترة الحرب لم تتأجل الإنتخابات الرئاسية يوما، فلماذا الكلام أو تخدير عقول الناس اليوم بهذه الصيغة اللادستورية؟”.
عبارة جديدة أضافها اللبناني إلى قاموس حياته اليومية وتعكس مدى اليأس والقرف وتؤشر للإنحطاط الذي وصل إليه فكر اللبناني. العبارة تعرفونها حتما.إنها كلمة “البلد” التي استبدلها اللبنانيون وتحديدا الجيل الجديد بدلا من عبارة”وطن”. ويقول مسرة:«في الماضي كانت تستعمل كلمة وطن ونقولها بكل فخر وقناعة. اليوم نسمعهم يرددون عبارة البلد وهذا مؤشر انحطاط لأنه يؤكد أن هناك جهات وطنية فتحت فروعا للوطن في الخارج .

الإيجابية الوحيدة التي يسجلها علماء الإجتماع على خلفية ظاهرة الخطف والإرهاب تتمثل في عودة روح الألفة والإنسانية بين أفراد المجتمع. أما داخل العائلة فالواضح أن ثمة علاقة عاطفية جديدة عادت تتفجر بين أفرادها بسبب الخوف من أن يسقط أحدهم شهيدا بعد خروجه من المنزل. فنلاحظ مثلا أن الأم تودع أولادها بحرارة وتصر على الإتصال بهم أثناء تواجدهم خارج البيت لمعرفة مكان وجودهم. وعند العودة يكون اللقاء أكثر حرارة لأنهم ببساطة عادوا سالمين إلى البيت وسينامون في سريرهم الدافئ.
مشهد لم يتعود عليه اللبنانيون؟ تفاعلات إنسانية مستجدة على الساحة اللبنانية؟ ربما هي كذلك لكنها ليست بغريبة على اللبناني الذي عاش فترات الحرب. مع ذلك يتحسرون على تلك المرحلة لأن الخوف جدي هذه المرة على المؤسسات بحسب د.مسرة. ويضيف:« صحيح أن كل المشاكل والأزمات وحتى الخوف من الموت المتنقل على الطرقات مهم ويكبل اللبناني ويساهم في تهشيل رؤوس الأموال وكبار المستثمرين . لكن إذا انهارت المؤسسات يضيع الوطن”. وماذا عن الشعب؟ ينتفض مسرة ويجيب بحدية:«لا أدري إذا كان هناك شعب. هناك فئات وجماعات. اما صفة المواطن فهي غير موجودة في المرحلة الحاضرة وهذا ما نلاحظه في تردد اللبناني من الإنتساب إلى الحركات النقابية علما انها تدعم المسار الديمقراطي للأحزاب. لكن المؤسف أن الحركة النقابية ضربت منذ الثمانينات وتم “تحزيبها” بشكل سطحي”.  
نخرج من المنزل. نكمل حياتنا على وقع فلاشات تفيد عن وقوع انفجار إرهابي. المشهد نفسه. أشلاء ودمار وصرخات ام تسأل عن وحيدها.
مرحلة وتمر؟ نشك. لأن تداعياتها قد نحملها من جيل إلى آخر.

جومانا نصر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق