الصورة والمعنى في شعر نعيم تلحوق
اللغة الشعريّة رشح اللحظات الأكثر عصفًا ورعدًا، وهي بعضٌ من ديم بوحٍ تمرّد على سلطة الوعي واستسلم لفعل مخيال مخصّب بعصف ورعد يمنحانه القدرة على قدح كمونيّة اللغة وتشكيلها صورًا جديدة مشحونة بالرموز والمعاني والدلالات.
تقوم اللغة الشعريّة بدور وسيط منحاز يختار صوره من زاوية معينة، وترتبط وضعية اتساعها بطبيعة اللحظات الاجتماعيّة والنفسيّة والسياسيّة والثقافيّة والفكريّة والإيدولوجيّة، لكونها صورًا ينتجها الفكر المستجيب لإغراءات الخيال/ البرزخ ، غير أنّ هذه الصور لاتشكّل نسقًا طبق الأصل عن وجودها الواقعي، فهي من حيث الوجود ثابتة؛ ولكنّ الدوال عليها تتباين بتباين القدرات على تلقي الإشارات وإدراك المرئيات المرتبطة حكما بالواقع الاجتماعي والحضاري.
تظهر عملية رصد لحركيّة الشعر العربيّ دور التنوّع الثقافيّ والسياسيّ والحضاريّ في انتاج الصورة الشعريّة، ولذلك ترتبط عملية التأويل بالقدرة على التقاط الإشارات الإغرائيّة التي يبثها النص الإبداعيّ، والتي تشير إلى اتساع الفضاء الدلاليّ للصور اللغويّة الشعريّة وتحرّض على قراءات وتأويلات تتباين بتباين المستوى الفكريّ، أولاً، و بتباين القدرة على فهم العلاقة بين ظاهر الصورة ودلالاتها، ثانيًا؛ لأنّ الوقائع التي تتقمصها الصورة تحتمل تجليين، أحدهما ظاهر يتبدّى في الوجه المرئي للواقعة، وثانيهما باطنيّ لا يتكشف إلا من خلال وعي يقيني بالظاهر المرئي، وبهذا الوعيّ يكون الرهان على امكانيّة عملية اختراق حجب النص، ومن ثمّ يكون القبض على بعض العلامات اللغويّة وغير اللغوية المرشدة إلى أحد تجليات المعاني.
ترتبط دلالة الصور على المعاني بالتجربة الإنسانية التي تحدّد قيمة العلامة الدلالية سواء أكانت أيقونية أم رمزية، فالصور اللفظيّة تشكّل نسقًا معينًا من تجليات المعنى وليست كليته، فهي تدلّ عليه ولكنّها لا تحيط به، أي يمكن القول إنّها المعنى «هي /هو» دلالة وإثباتًا على وجوده، ولكنّها ليست كلاً وإحاطة به، فالصورة اللفظية المرئية له ظاهر يوحي بباطن محتجب وراءه، ويحمل مبصريها والمدركين ماهيتها على السعي في طلب المعاني وإدراكها، غير أن المعاني تتبدّى بقدر ماتحتجب نتيجة فيض من دلالات لا يمكن القبض على كليتها، بوصفها نتاج حركة توليد فيضيّ لا نهائيّ، تظهر وتختفي، تتبدّى وتحتجب وفق طاقات الناظرين في الصورة وعلاماتها.
تأسيسًا على ما تقدّم هل يمكن القول إنّ التجربة الإنسانيّة التي رسمها نعيم تلحوق في دواوينه الشعريّة كانت بعضًا من فيض المعاني العاصفة في ذاكرته وفي حضوره اليقيني والواعي أم كانت محض خطوط لغويّة تبحث عن مستقر لها في خضم فعل ثقافيّ أنكر ماهيته؟
تظهر عملية رصد أنّ دواوين الشعر يُؤرّخ لها بأزمنة يريدها الناشر علامة ولادة، ولكنّها علامة لاترتبط بالزمان، لأنّ الزمان لايحدّه مكان، فهو الواحد المتقدّم على الكلّ، والمتحرك المتمرّد على النظر والوقوف والتأمل، إنّه الفعل الحقيقيّ الوحيد في وجودنا، ولذلك لن يكون تأريخ الدواوين الشعريّة التي كتبت عواصف نعيم تلحوق ورعده وثورته وحزنه وألمه وهدوء عواصفه علامة ولادة بل هي محطات إبداع تؤسّس لولادات لانهاية لها بدءًا من إصدار الديوان الأوّل ( قيامة العدم=1986) الذي صار له أخٌ منحه نعيم اسمًا ملتبسًا هو(هي القصيدة الأخيرة 1990 ) فكيف تكون نهاية في بداية ما زالت تفيض بولادات شعريّة أنجبت:(لكن….ليس الآن 1992-وطن الرماد1994-هو الأخير 1999-أظنه وحدي 2001-يغني بوحًا 2005-يرقص كفرًا 2007-لأنّ جسدها 2012- شهوة القيامة 2013 )؟
تشير العناوين إلى انتصار الذات المذكّرة على عدم كانه الشاعر قبل أن ينطقه الشعر بـ «قيامة العدم»، ولأنّ القيامة مؤنثّ، ولأنّها ترمز إلى حركيّة، فلقد جاء العنوان الثاني «القصيدة الأخيرة» اعترافًا لاواعيًا بسلطة التوليد النسويّ، هذا الاعتراف اليقينيّ النفسيّ أراد إلغاءه وعي ذكوريّ يقمع الرغبة، ويضخّم الذات، ويفصح عن إرادة تطمح إلى تكريس ذكوريتها في فضاء ثقافيّ/ فكريّ فرض عناوين ترشح بذكوريّة تُسند فاعليتها إلى غائب أخير يظنه الشاعر مجسّدًا وحدةً تغني بوحًا وترقص كفرًا، ولكي يطهّر ذاته الظاهرة من أدران الرقص والكفر وسم ديوانه بعنوان «لأنّ جسدها» ليكون عودة إلى قيامة تشهاها في عدم كانه. فهل أحال كلّ ماتقدّم على جسد امرأة وعلى شهوة القيامة/ العدم؟ وإذا كان العنوان باب عبور إلى عتبات البوح اللغويّ فهل استطاعت لغة الديوان الشعريّة أن تقوم بدور وسيط منحاز؟
تؤكّد لغة دواوين نعيم تلحوق أنّ الصور اللغويّة استمدّت أنساقها وألوانها من طبيعة اللحظات الاجتماعيّة والنفسيّة والسياسيّة والثقافيّة والفكريّة والإيدولوجيّة الثاوية في لاوعي متفاعل ومنفعل مع وعي يجيد قراءة الحاضر ويسعى إلى استشراف المستقبل، والاستشراف لايكون من دون طاقات إبداعيّة قادرة على الإفادة من التجارب والمعارف والمعطيات التي تنتج فروضًا شعريّة تتمايز بأنساق لغويّة جديدة ومغايرة وقابلة للتأويل والتفسير وقراءة الآتي، فكيف كانت العلاقة بين التشكيل اللفظيّ أيّ الصورة اللغويّة الشعريّة والمعاني وقيمها الدلاليّة والإيحائيّة؟
شحن نعيم تلحوق دواوينه الشعريّة بعناوين داخليّة غنيّة بدلالات تغري بالتفسير والتأويل، وتوحي، في الوقت عينه، بإجراء دراسات معمّقّة تتناول العناوين الداخليّة وقيمها الدلاليّة، وسيكون التركيز على عناوين الديوان الأخير «شهوة القيامة»، وعلى قراءة بعض الصور الشعريّة التي ارتبطت بالعناوين، لكونها مفاتيح عبور تكشف عن ثقافة نعيم تلحوق ومعتقداته ورؤاه وتطلعاته.
تكشف مقدمة الديوان عن قلق الشاعر، وعن خوفه على علاقة الصورة بالمعنى، فيتساءل متعجبًا «هل صادرت الحروف همّ تعبها، فسقطت في اللامعنى؟!»، ثمّ يحاول أن يقدّم جوابًا عن أسئلة لاتجد مستقرّها إلاّ في أنساق نصيّة خطوطها عناصر اللغة القادرة وحدها على احتضان أسئلة الوجود، فيقول: «فنذهب إلى اللغة لنحمي إيقاعنا من السقوط… ونبدأ بالمعنى مكرّسين فكرة الخلاص من الجسد، قبل أن نبدأ بمحاورته، وقبل أن نضيف عليه أسئلة الوجود…» فكيف تجلّت معاني الصور اللغة الشعريّة في ديوان «شهوة القيامة»؟
يضع الشاعر عناوين الديوان ضمن ثلاث لوحات، ويسم الإطار العام لكلّ لوحة بصورة لغويّة، فأطلق على اللوحة الأولى اسم «سقوط الشهوة قبل التداعيات»، ثمّ منح كلّ جزء من هذه اللوحة اسمًا، فاحتوت اللوحة الأولى صورًا لفظيّة هي: «سؤال- سقوط- قيامة الشهوة- بداية الشهوة- بداية النهاية-صدفة- ياأنت- تساؤلات- رؤيا- مصير- ماء- صديق- أكثر …أقل- وصية» ووسم اللوحة الثانية بـ «احتمال الخروج من الأمكنة» وتضمّنت عناوين هي: « شجر النهايات- بيني وبينك- هنا هناك- نجوم- لحظات الصدفة- طريق- بلد- غضب» أمّا اللوحة الثالثة الموسومة بـ «رقص على عرش الكلام» فلقد احتوت الصور اللفظية الاتية: « إليها- رقص- مغفرة- لاشيء يتركني هناك- استدراكات- جنة2».
توحي عناوين اللوحات بأن الشاعر انتصر على الشهوة بالسؤال والتجربة والتساؤل والرؤيا التي قادته إلى مصير نتج عنه ماء حياة تجسّد في صديق وليس أصدقاء ليكتب وصيّة قوامها أظلة ونجوم وحركية زمن إلى حيث هي، أي المحبوب المُحتجب، فتتجلّى أنا الشاعر في رقص من دون كفر لكونه رقصًا مشفوعًا بالمغفرة والاستدراك، فيصل إلى جنّة ليست أصلاً بل هي انبثاقٌ عن أوّل سابق، لأنّ هذه الجنة الثانية جنة مبتكرة لها خصائص ابتكرها الشاعر ورسم فضاءاتها بالكلمات فكانت امتدادًا روحيًّا لقصيدة «إليها» وإجابة عن كلّ الأسئلة المُضمرة في تراكيب الصور اللغويّة.
تكشف قصيدة «إليها» عن استسلام كليّ يستعصي معه أن يعرف الشاعر نفسه، فيطلب من المعشوق أن يعيره بعضه ليعرف حاله «أعيريني بعضي، لأسألك كيف حالي»، لأنّ كليته تذوب وتتلاشى في ذات محبٍّ مستتر يأخذ صورة أنثى تختزل معاني وجدانيّة ووطنيّة ودينيّة واجتماعيّة وإنسانيّة، فهل هي هاجر بكلّ رمزيتها العاطفيّة والدينيّة والتاريخيّة والإنسانيّة؟ وهل يرى في روحه بعضًا من صوفيّة الحلاّج؟ وهل الوصول إلى معاني المحبّ الباطنيّة عبور آني أم ارتحال يؤرخ له بسير الزمان؟ وماذا يقول الموروث الدينيّ في حقيقة الجثث وانتقال الأرواح؟
يطرح نعيم تلحوق في هذه القصيدة كمًا من الأسئلة والإشكاليات التي أجاب عن بعضها من خلال رسمه خطوط القصيدة الأخيرة، وهذه المعرفة يريدها لمستقبل يجهله فيكثر من استخدام حرف السين الذي تكرّر في القصيدة اثنتي عشرة مرة «لأسألك- مساء-مسك-استحمي-لاتسمحي-عابسة-باسمًا- تستبدلين-شمسك- استدركي- جسدي- تسير»، لكأنّه ربط معرفة الآتي برمزية هذا العدد المتمايز بقيم لاحصر لها.
تشير القصيدة الأخيرة «جنة2» إلى أن ذات الشاعر العرفانيّة تحاول العبور منها إليها، ولكنّ الوصول ارتبط بأصل يرفض كيمائية التحوّل والتغيير، ليحيل هذا الرفضُ الشاعر على قراءة تفاصيل الموروث حرفًا حرفًا، لكونه الجسد الأساس في عملية الانتماء إلى وطن رسمه في قصيدة «إليها» غفارة أحلام، ثمّ تحوّل من «نائم على باب الشمس» إلى «وطنٍ سهران» متمايز باتساع الرؤيا وبجمال التلوّن الحضاريّ والثقافي والديني، وطن يرتاح في حضنه الزمن، لأنّ الشاعر ربط وجود جنته المبتكرة بقراءة واعية للموروث، ومن ثمّ توظيفه من أجل خلق فضاء إنسانيّ قوامه ثلاثة مرتكزات أسّس لها في ثلاث لوحات هي: «سقوط الشهوة قبل التداعيات» و«احتمال الخروج من الأمكنة» و«رقص على عرش الكلام»، لأنّ أيّ خروج من أزمة التداعيات مشروط بطرح الأسئلة وبقراءة الموروث بكلّ أشكاله، وبابتكار آليات جديدة تغري بالتحريض على شهوة قيامة ترفض التقليد وتدعو إلى قراءة جديدة تشرح معنى التقوى الحقيقية، وتُفسّر دلالات «كن» وتفهم حقيقة دخول العالم «ثقب الإبرة» فالعالم اليوم يدّعي المعرفة وهو بعيد منها بعد الكافر من الجنة، لأنّ الكافر لايدخل الجنة حتى يدخل الجمل ثقب الإبرة.
تظهر لغة نعيم تلحوق الشعريّة أنّها تقوم بدور وسيط منحاز، لأنّه استطاع أن يختار صوره من زاوية معينة، وأن يربطها بطبيعة اللحظات الاجتماعيّة والنفسيّة والسياسيّة والثقافيّة والفكريّة والإيدولوجيّة التي يعيشها، فعكست بعضًا من باطنيّة فكريّة وعقائدية وصوفيّة تعيشها ذات الشاعر المستترة وراء لغة الكلام المحكي، والمتجليّة في الصور ومعانيها ودلالاتها، فيتكشّف الجانب الروحيّ والإنسانيّ، وتظهر قدرته اللغويّة على التقاط صور المخيال وتوظيفها في طرح الرؤى والأفكار، وفي رسم العلاقة بين ظاهر الصورة ودلالاتها، أي بين ظاهر متجلٍ وباطن مستتر يضجّ بالرموز والدلالات والحقائق.
تأسيسًا على ما تقدّم يمكن القول إنّ التجربة الإنسانيّة التي رسمها نعيم تلحوق في دواوينه الشعريّة كانت بعضًا من فيض المعاني العاصفة في ذاكرته وفي حضوره اليقيني والواعي ولم تكن محض خطوط لغويّة تبحث عن مستقر لها في خضم فعل ثقافيّ أنكر ماهيته، لأنّها نتاج فعل ثقافيّ يحرّض على التأسيس والتأصيل والتحديث والانتماء إلى موروث حقيقي بعيدًا من المؤثرات غير اليقينيّة.
أ.د. مها خيربك ناصر