مهرجان كان: السياسات الاجتماعية تحت مجهر مخرجين بالمسابقة الرسمية بينهم لوتش
تحضر إشكالية البؤس الاجتماعي في مهرجان كان السينمائي من خلال مجموعة أفلام مشاركة في المسابقة الرسمية، بينها «البؤساء»، «باكوراو» و«آسف، اشتقنا إليك» للمخرج البريطاني كين لوتش الفائز بسعفتين ذهبيتين. وينتقد كل من هذه الأفلام السياسات الاجتماعية والاقتصادية المتبعة في فرنسا، البرازيل وبريطانيا، التي تضع فئة من المواطنين على هامش الحياة.
حضر البؤس الاجتماعي في مهرجان كان كموضوع مهم تناوله مخرجون في أعمالهم المشاركة في المسابقة الرسمية. يتعلق الأمر بكل من المخرج البريطاني كين لوتش صاحب فيلم «آسف، اشتقنا إليك»، المعروف بأعماله الرافضة للبيرالية المتوحشة، والفرنسي لادج لي بفيلم «البؤساء»، إضافة إلى المخرجين البرازيليين جوليانو دورنيل وكليبير ماندونسا، من خلال فيلم «باكوراو».
وإن كان لادج لي قد ركز على الأحياء الشعبية المكتظة بالمهاجرين وعلاقتها بالشرطة، وعرج في الوقت نفسه على الأوضاع التي يعيشها الشباب والأطفال في هذه الأحياء، فإن المخرج البريطاني كين لوتش فضل أن يتحدث عن عائلة بريطانية فقيرة تصارع مشقات الحياة عبر الزوجين بكل ما أوتيت من قوة. أما المخرجان البرازيليان جوليانو دورنيل وكليبير ماندونسا فقد طرحا المعاناة الاجتماعية في شكلها الجماعي وليس الفردي.
ويشارك لادج لي لأول مرة في مهرجان كان، لكنه ليس باسم جديد على الساحة الإعلامية، وإنما تعرف عليه الرأي العام الفرنسي منذ عام 2008، إثر نشره لفيديو يصور عنف الشرطة في أحد الأحياء الشعبية نشر على موقع صحفي فرنسي، وتم إدانة شرطيين على خلفيته من قبل القضاء. فيما سبق للمخرج البريطاني لوتش أن شارك في المهرجان في مناسبات عديدة. أما المخرج البرازيلي كليبير ماندونسا فقد شارك في كان 2016 عبر فيلمه «أكواريوس».
«آسف، اشتقنا إليك»
فيلم «آسف، اشتقنا إليك»، يحكي حياة أسرة بريطانية، تجد نفسها بين فكي كماشة العمل المضني اليومي ومتطلبات الحياة المادية، إلى أن يقرر يوما رب الأسرة «ريكي» الدخول في مشروع جديد، إذ سيعمل كسائق لنقل الطرود في إطار برنامج اجتماعي حكومي يسمح له ببناء شركته الخاصة.
سيضطر هذا الأب للعمل 14 ساعة بشكل يومي بعد أن اشترى شاحنة صغيرة، اضطرت معها زوجته «آبي» إلى بيع سيارتها لمساعدته على ذلك، وهذا لأجل مواجهة تكاليف العيش، وجمع القليل من المال لشراء بيت للأسرة.
كانت البداية صعبة في التأقلم مع ظروف العمل، إذ ظل «ريكي» يكد كل يوم على الرغم من الصعاب، ويحاول أن يتجاوز العراقيل التي تعترضه، بما فيها تلك التي ترتبط بأسرته، إذ إن ابنه المراهق، لم يعفه هو أيضاً من مشاكله لارتكابه حماقات أدت إلى اعتقاله يوما، ففقد بسبب ذلك، في أكثر من مرة، هدوءه في التعامل مع الوضع نتيجة ضغط العمل.
الاستعباد الجديد
أراد لوتش أن يعري الوجه المتوحش لتوجهات اقتصادية لحكومة بلاده، خصوصاً وأنه عرف كمدافع عن الفئات الفقيرة من خلال أعماله. وبالنسبة اليه، إيهام عمال بخلق مشاريع ذاتية، مجرد مناورات سياسية يراد منها استعباد طبقة معينة، مثل بطل الفيلم، تكون مجبرة على الكد صباح مساء دون أن يكون لذلك أي تأثير إيجابي على حياتها الاجتماعية.
كما ينظر لهذه السياسة من خلال كاميراه بأنها طريقة لتنصل أرباب العمل من مسؤولياتهم الاجتماعية تجاه العمال. فريكي مجبر على دفع الغرامات عن أي تأخير في توصيل الطرود، وشراء الشاحنة، أداة العمل، من ماله الخاص، وتعويض أي شيء من وسائل العمل تعرض للسرقة.
ووردت عبارة في السيناريو تحمل الكثير من الدلالات، وجاءت تحديداً على لسان صاحب الشركة الذي يشغل «ريكي». قال فيها: «سوف لن تعمل لأجلنا وإنما معنا»، لكنه تسويق للوهم لريكي ومن يوجد معه في الوضعية عينها، يفضحه لوتش بعين سينمائية بارعة. لأن «ريكي» سيجد نفسه يدور في حلقة مفرغة في مشهد مزيف، وضحية لاستغلال بشع لا ينتهي. المستفيد الأول منه هو صاحب الشركة الحقيقي.
المخرج متوج مرتين بالسعفة الذهبية في مهرجان كان، وفي حالة حصوله على السعفة الذهبية هذه المرة، وهو أمر غير مستبعد نظراً لقيمة الفيلم الفنية والاجتماعية ثم السياسية، سيكون أول مخرج يحظى بثلاث سعفات ذهبية منذ انطلاق المهرجان. علما أن سعفته الذهبية السابقة تعود لسنة 2016 عن «أنا دانيال بلاك»، أثار فيه مسألة اجتماعية سياسية أيضاً، تتعلق بالضغط الذي مارسته الحكومة البريطانية على العاطلين عن العمل.
«باكوراو»… قلق مخرجين حول مستقبل البرازيل
وقدم فيلم «باكورو» للمخرجين البرازيليين جوليانو دورنيل وكليبير ماندونسا قصة سكان قرية تم عزلها، ولم يعد يصلها حتى ماء الشرب، بل أن شاحنة نقل هذه المياه إليهم تستهدف بالرصاص الحي من قبل عصابات في منطقة، أصبحت فيها القوة والعنف هما من يفصل في كل شيء.
المخرجان كشفا عن القلق الذي يسكنهما حول مستقبل بلدهما جراء العنف والأنانية الرأسمالية، خصوصاً مع التغيرات السياسية المثيرة للقلق التي حصلت في بلادهما بوصول اليمين المتطرف للحكم في البلاد. الفيلم كان بمثابة تحذير يوجهه المخرجان حول غد بلديهما، على أن البرازيل في خطر.
«الانتفاضة المقبلة ستنطلق من الأحياء الشعبية الفرنسية»
ويسلط المخرج الفرنسي لادج لي الضوء على الأوضاع الصعبة في الأحياء الشعبية الفرنسية من خلال فيلم «البؤساء». فيلم قوي من بدايته حتى نهايته. انطلق بالأفراح الجماعية لفرنسا الموحدة احتفالاً بفوز الزرق بالمونديال، وانتقل إلى موجة من العنف اللفظي والجسدي.
ويحكي الفيلم قصة الشرطي «رويز» وهو الممثل الفرنسي داميان بونار، الذي انتقل للعمل في ضواحي باريس مع فريق للشرطة قادما إليها من منطقة هادئة، تحت قياده أليكسي مانونتي الذي لعب دور «كريس»، وهو شرطي يغلب عليه التهور والقسوة في التعامل مع شباب الأحياء الشعبية.
وبمجرد بداية «رويز» مهمته الجديدة مع الفريق، انهال عليه قائد الفرقة بالملاحظات المهينة. كما ظل يتابع من قريب الممارسات المسيئة الصادرة من رئيسه تجاه مواطني الأحياء الشعبية، إلى أن حصلت الكارثة عندما استخدم زميل لهما سلاح «الفلاش بول» بحق طفل وتسبب له في إصابات خطيرة.
وأمام هذا الوضع فقد قائد فرقة الشرطة الجنائية «ريكس» أعصابه، خصوصاً عندما لاحظ أن طائرة بدون طيار كانت بصدد تصوير الحادث. ليستشيط غضباً ويأمر عناصر فريقه بإحضار هذه الطائرة بأي شكل من الأشكال، حتى لا يتسرب الفيديو لوسائل الإعلام.
مشاهد العنف في الفيلم لم تنته بخاتمة سعيدة كما تعودنا في الكثير من الأفلام العربية والهندية، وإنما أسدل الستار على مواجهة بين شباب حي شعبي يوجد ضمنهم الطفل المصاب، وثلاثة رجال شرطة، أحدهم يهدد بإطلاق النار من مسدسه على الطفل، الذي كان يحمل قارورة مشتعلة وفي كامل الاستعداد لإلقائها في أي لحظة على الشرطيين. وهذا بعد أن وجدت قوات الأمن نفسها في فخ بداخل عمارة سكنية.
اختيار المخرج لعنوان «البؤساء» يحمل إحالة عمدية على رواية الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو، التي كتبها قبل أكثر من 150 عاماً وكان أحد الأحياء الشعبية مسرحاً لجزء منها، حتى يقول إن الأوضاع في الأحياء الهامشية في العاصمة الفرنسية دائماً هي نفسها، ولم تتغير على الرغم من توالي السنوات تلو الأخرى.
فيلم «البؤساء» لخص كل الأمراض التي تنخر جسد هذه الأحياء بداية من العنف مروراً بالبطالة ووصولاً إلى انتشار الأصولية الإسلامية وتوظيفها من قبل السياسيين في احتواء مشاكل هذه المناطق السكنية، ما دعا مخرج الفيلم لادج لي للتحذير من المستقبل. بالنسبة اليه: «الانتفاضة المقبلة ستأتي من هذه الأحياء البائسة في الضواحي الفرنسية».
ا ف ب