تحقيق

شحاذين يا بلدنا!!!

 لبنان بيئة حاضنة للتسول والنازحون السوريون في الطليعة

يفترشون الطرقات والأرصفة… يقفزون من سيارة إلى أخرى ويستجدونك «بدك وردة؟ بدك علكة؟ الله يخليك اشتر مني»!. احلامهم صارت كوابيس وطموحهاتهم تحجرت في زوايا مهن الشارع. ماسح احذية او… تاجر مخدرات أو متسول بدرجة امتياز!
قبل ثلاثة اعوام كان التسول مجرد ظاهرة على طرقات لبنان. وزارة الشؤون الإجتماعية وتحديداً المجلس الأعلى للطفولة درس الظاهرة، فكك الشيفرة واستطاع ان يحل جزءاً منها. لكن مع مليون و500 الف نازح سوري وما يقارب الـ 1000عائلة عراقية نزحت على خلفية تهديدات داعش إلى لبنان باتت عملية محاصرة التسول على الطرقات اكثر من مستحيلة.
هي الحاجة؟ العوز؟ التهجير؟ النزوح؟ لنقل إنها عند الغالبية تحولت إلى مهنة موسمية ومنهم من طورها لتشمل إلى جانب الأطفال، الأم والأب وكل معوق.
بدأ موسم المدارس؟ إلى الوظيفة في الشارع!

بنظراتهم التي تختزن الكثير من الخيبات والحزن واحياناً الحقد والشر المبطن، يقفزون امامك ويضعونك امام خيارين: إما شراء ما يحملونه من منتوجات وبضائع إما مسروقة أو مهربة، أو إقفال نافذة السيارة وتحمًل نقرات اناملهم على الزجاج ودعاءاتهم وابتساماتهم الرقيقة المغمسة احياناً بالوقاحة والنظرة الجريئة إلى درجة الشر، إلى أن يأتي الفرج مع الإشارة الخضراء على احد التقاطعات. ظمطنا. لكن ليس نهائياً. فالتقاطع التالي سيضعك في الموقف عينه.

وظيفة!
هذا المشهد ما عاد يتيماً إنما معمماً على كل التقاطعات والأرصفة والطرقات وحتى تحت الجسور. وما كان يسمى بظاهرة التسول بات وظيفة شبه رسمية في غياب اي تحرك من قبل الدولة والأجهزة الأمنية. ندخل في صلب المشهد، او بكلام اصح في تفكيك اللوحة السوريالية التي يرسمها الشحاذون على طرقاتنا.
اعمارهم تراوح بين الـ 4 سنوات و15 سنة. هذا قبل النزوح السوري الى لبنان. بعده بات اجتياح التسول يشمل من هم فوق هذه السن وصولاً إلى 30 عاماً. بالكاد تميز بين لون بشرتهم المغطاة بلفحات شمس آب (اغسطس) وغبار الطرقات. اما التحدث معهم فرهن بالموقع الجغرافي للمتسول وهويته وانتمائه الإجتماعي، والأهم أن يكون متأكداً من عدم وجود «الريس» أو قائد حملة التسول على مسافة قريبة منه. لكن في كل الأحوال لن تأخذ منه كلمة حق ولا باطل. وقد يأخذك إلى حيث تريد في معرض الأسئلة والأجوبة شرط ان تشتري منه في نهاية جلسة الإستجواب التي تكون غالبا على احد التقاطعات وفي فرصة الإشارة الحمراء.

لعدم اعطاء الاموال للمتسولين بل التبرع بها للجمعيات التي ترعى هؤلاء المشردين

التسول… مواسم وفئات
مواسم التسول تتفاوت بحسب المكان والزمان. ففي مواسم السياحة يتضاعف عدد المتسولين حيث يتوزعون امام المطاعم والمقاهي والملاهي الليلية والفنادق وكذلك امام الكنائس والمساجد ايام الأعياد. اما الفئات فتتوزع بين من يعمل لحسابه الخاص او ضمن عصابة منظمة ومنهم من يلجأ إلى الشارع بضغط من الأهل او بسبب اليتم والتشرد. وهذه الفئة هي الأكثر انتشاراً اليوم بين النازحين السوريين والعراقيين. ومع تراخي القوى الأمنية في التعاطي مع هذه الظاهرة، وسعت العصابات التي كانت توظف اولاد البدو الرحل ومكتومي القيد نشاطها لتضم مجموعة من الفتيات والأطفال من السوريين النازحين. وغالباً ما يعمد الرأس المدبر إلى سلب المتسولين «غلة اليوم» مقابل تقديم العشاء ومكان للنوم وهو امر يسعى إليه الكثير من النازحين السوريين المشردين الذين فقدوا عائلاتهم أو هربوا بمفردهم إلى لبنان.
الحديث عن قصص التسول يطول وقد لا ينتهي. فهل نصدق ان التسول هو مجرد ظاهرة وهل كتب على هؤلاء الاطفال المتروكين في الشوارع أن يتلقوا «آداب» الشتائم والبذاءة والقهر، وربما بعض العادات الخطيرة التي تؤدي الى الانحراف كالبغاء والشذوذ وادمان المخدرات والمتاجرة بها، ويحلموا بوظيفة ماسح احذية او تاجر مخدرات؟ وهل هم من مسؤولية الدولة ام المؤسسات الاجتماعية، ام الاهل الذين يرعون تشرد ابنائهم؟
نذهب إلى ابعد من ذلك ونسأل، هل التدابير «العسكرية» التي تمارسها القوى الامنية بالتقاط المتسولين عند اشارات السير الضوئية، ومن مفارق الطرق، حيث يكتظ السير، وتنمو الحركة، هو بمثابة الحل ولو آنياً؟
الثابت أن المعالجة لا تكون موسمية ولا آنية انما يجب ان تبدأ بملاحقة واعتقال العصابات الكبيرة التي تتاجر بهم وتدبر عمليات التسول. نطرق باب المراجع الأمنية ونسمع الجواب.

تجارة التجول والتسول
بحسب إحصاءات قوى الأمن الداخلي، تم توقيف أكثر من 1500 متسول عند بداية تفشي ظاهرة النزوح السوري الى لبنان في العام 2012 وكانوا يتوزعون بين متسول عادي ومتسول مقنّع، وهو التعبير الذي يستخدم للتعريف عن البائعين المتسولين. لكن ظاهرة التسول بحسب المرجع الأمني ارتفعت بشكل كبير مع تدفق النازحين السوريين والعراقيين في الأشهر الأخيرة، وتردي اوضاعهم الإقتصادية.
نفهم من كلام المرجع الأمني أن لبنان تحول إلى بيئة حاضنة للتسول والشحاذين على الطرقات؟
«إطلاقاً، لكن هناك واقع لا يمكن التفلت منه. وفي المقابل لا يمكن تجاهل دور القوى الأمنية في قمع هذه الظاهرة ومنعها، إلا أن ذلك ليس كافيا، بسبب قلة عدد المؤسسات الاجتماعية التي ترعى المتسولين والذي لا يتخطى الثلاث مؤسسات».
ويشير المرجع الامني إلى أن المتسولين الذين تم توقيفهم، هم من جنسيات مختلفة، ومتهمون بـ «تجارة التجول والتسول». واعتبر ان الحل لا يكون عبر توقيف هؤلاء وإنما عبر «معالجة أسباب لجوئهم إلى الشارع وذلك من خلال تأمين فرص عمل لهم وتسجيل الأطفال في مدارس لأن وجودهم على الطرقات يعتبر انتهاكا واضحا لحقوقهم. وفي حال نفذت هذه الخطة يصبح عددهم على الطرقات قليلاً ومن هنا نصبح قادرين على استيعاب اعدادهم ومعالجة هذه الظاهرة».

يعمد الرأس المدبر إلى سلب المتسولين «غلة اليوم» مقابل تقديم العشاء ومكان للنوم

في القانون
«كل متسول هو خارج عن القانون، ويجب توقيفه»، هكذا ينص القانون. واذا كان الشخص قاصراً، يتم توقيف ولي أمره، أما إذا كان المتسول راشداً عندها يعود القرار النهائي إلى النائب العام سواء بسجنه أو جعله يتعهد خطيا بعدم التسول من جديد.
«لكن الواضح اننا نعيش في دائرة مفرغة» هنا نعود إلى المرجع الأمني الذي اوضح أنه بعد توقيف الشخص المسؤول عن توظيف المتسولين، يسلم القاصر الذي يستخدمه للتسول، إلى أحد دور الرعاية، لكن غالباً ما تكون الدار مكتظة، لا بل فيها فائض من المتسولين، مما يعيد القاصر الى الشارع مجدداً. من هنا كانت الدعوة، وهي بمثابة الحل، إلى عدم اعطاء الاموال للمتسولين بل التبرع بها للجمعيات التي ترعى هؤلاء المشردين. فأطفال الشارع سيتحولون في المستقبل إلى مجرمين وغاضبين من المجتمع بسبب الانتهاكات التي تعرضوا لها في صغرهم. عندها تصبح الأمور أكثر تعقيداً.
ربما صار الحديث عن «عصابات» وعن «نقابة سريّة» تنظّم مهنة التسول  في شوارعنا، شعاراً متداولاً لكن الثابت ان كلًا منهم يكسب أكثر من المليون ليرة شهريّاً، كحدّ أدنى، بحسب تجار التسول. واللافت انه بعد تنفيذ القوى الأمنية «كبسات» موسمية على الاطفال يتمكن الأهل أو القيمون عليهم من استعادتهم بعد ساعات أو أيام بأبعد تقدير.
وينص قانون العقوبات بحبس كل من يدفع طفلاً للتسول من شهر إلى ستة أشهر، وقد تصل العقوبة إلى السنتين. وتقضي بوضع الطفل في مؤسسة خيرية تعنى به. كما ينصّ على معاقبة والدي القاصر اللذين تركاه مشرداً بالحبس ستة أشهر، ويعاقب بالسجن من ستة أشهر لسنتين، من «دفع قاصراً للتسول لمنفعة شخصيّة».
مصدر رسمي استبعد الحل القريب لمهنة التسول مشيراً إلى أن تدفق عدد النازحين السوريين إلى لبنان وتردي الأوضاع الإقتصادية، حوّل لبنان إلى بيئة حاضنة للتسول مما يشكل خطراً على الواقع الإجتماعي ويرسم خريطة إجتماعية متدهورة للمستقبل لأن كل شحاذ ومتسول هو مشروع مجرم في المستقبل، سواء كان من النازحين او المقيمين في لبنان. فكيف إذا صحت الإحصاءات التي تشير إلى أنه أصبح لكل مواطن ثلاثة متسولين؟
انتهى اليوم وجاء وقت الحساب. نام الشحاذون؟ غدا يوم آخر من التسول.

جومانا نصر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق