آدب

لبنانيون توغلوا في عمق التاريخ الاسباني وحضارته

العلاقات بين العرب واسبانيا  قديمة جداً، يعود تاريخها الى قرون خلت… وخصوصاً عندما نعرف ان على تلك الأرض الاسبانية الخيّرة، نشأت بلاد الأندلس وامتزجت الحضارات والثقافات والأديان في بوتقة واحدة، حيث  امتد التاريخ الأندلسي على مدى ثمانية قرون تقريباً، من سنة 710 الى سنة 1492. وهذه العلاقات ما زالت في تجدد دائم، وان بطرق اخرى، واشكال واساليب مختلفة… ولا سيما في ميدان الثقافة، وبالتحديد في مجال الدراسات الاسبانية – العربية التي بلغت اوجها في النصف الثاني من القرن العشرين. وما دفعني الى اثارة هذا التاريخ، اللفتة التكريمية التي قامت بها السفارة الاسبانية في لبنان. نحو ثلاثة كتّاب من لبنان، قاموا بالتوغل في التاريخ الاسباني وحضارته، وفي تطور البحث في هذا الميدان، وهم الدكاترة: ناديا ظافر شعبان – عفيف الترك – انطوان خاطر. وهنا، أضواء على مسيرة كل واحد منهم، مع رأي المستعرب الاسباني المعروف  بدرو مارتينيث مونتابيث حول تجاربهم المتنوعة…

حول هذا الموضوع، يقول المستعرب الدكتور بدرو مارتينيث مونتابيث (استاذ متقاعد، ورئيس جامعة مدريد المستقلة سابقاً)، انه في اواخر شهر شباط (فبراير) سنة 1976، نظّم المعهد الاسباني – العربي للثقافة، الندوة الاولى للدراسات الاسبانية – العربية، ونشرت اعمالها في السنة التالية. هذا الحدث – كما يرى مونتابيث – جاء دليلاً على معرفة الجانب الاسباني واعترافه بأهمية «الاستبسان» العربي (أي البحث العربي في الدراسات الاسبانية). مشيراً الى انه بعد ما يزيد على عشر سنوات، بدأت اصوات تتحدث عن بلوغ الدراسات الاسبانية – العربية اوجها. صحيح ان تطورها لاحقاً، صادف بعض العقبات والتقلبات، غير ان اياً منها لم تحل دون استمرار تلك الدراسات ناشطة، ولا دون تقدّمها واتساع مجالاتها، بل انها ازدادت انتشاراً ونضجاً. ولقد تكثف نضجها والمأمول منها، حتى بدأت تظهر دلائل واضحة على طاقتها الابداعية.

نوافذ نادرة
في تلك المناسبة، كتب مونتابيث، ان من الصعب ان يبلور باحث عربي في الدراسات الاسبانية عملاً مهماً ما لم يعايش معايشة عميقة ما هو اسباني.
في هذا الاطار العام، يرى مونتابيث، ان «الاستبسان» اللبناني (اي البحث اللبناني في الدراسات الاسبانية) لم ينعم بميزة خاصة وبمركز بارز فحسب، بل كان رائداً، وشق طرقاً في هذا المجال. وهو يستعين بذاكرته الشخصية لاثبات مقولته، بالعودة الى عهد دراسته في جامعة مدريد في الخمسينيات من القرن الماضي، اذ يقول: كان من اوائل القادمين من الشرق من حملة الاجازات القاصدين اعداد أطروحة الدكتوراه في كلية الفلسفة والآداب، بعضهم من لبنان، وآخرون من مصر وسوريا… لقد كانوا، هم، بعض النوافذ النادرة جداً التي كنّا. نحن، الجامعيين الاسبان الشباب، نطل منها الى الخارج. وكان يشدّني شخصياً اليهم اكثر ما يشدّني لطفهم وثقافتهم. لقد كانوا يتكلمون حتى لغات عدة! وأنا ما كنت أعرف – اذ ذاك – عن لبنان شيئاً. غير ان ذلك الاسم ذا النبرة الناعمة والنسيج الصوتي العذب، السلس، لبنان، كان له في نفسي وقع من النوع الساحر. ما كان ابعد وقعه الموحي: لبنان!

ابحار عكس التيار
على هامش تقديم اوسمة اسبانية رفيعة لثلاث شخصيات رفيعة، تمثّل أحسن تمثيل البحث في الثقافة الاسبانية، كتب الدكتور بدرو مارتينيث مونتابيث، عن الشخصية الغنية لكل منهم، وعن نتاجه الخصب.
المكرّم الاول الدكتور عفيف الترك، هو من اوائل الحاصلين على منحة دراسية من مديرية العلاقات الثقافية العامة في وزارة الخارجية الاسبانية سنة 1950. شارك في مؤتمرات عدة، وقدّم دراسات كثيرة، حول تاريخ الاندلس في مراحله المختلفة.
يقول عنه مونتابيث، انه مؤرخ، وانه رفيع المستوى، كباحث ومدرّس، يمتلك معرفة ممتازة وعميقة بتاريخ الاندلس، يغرس وينمّي نسقاً خاصاً به وطريقة اصيلة وطبيعية في البحث في الحضارة الاسبانية، تفرض علينا ان نسميه البحث في الحضارة الاسبانية – الاندلسية.
الى ان يقول، فملاحته هي الى حد كبير، ابحار بعكس التيار، نحو شيء محدد في الزمن، لكنه لا زال حاضراً في الذاكرة والمخيلات الجماعية. ان البدء بمعرفة وتقويم عمله في هذا المجال، كما يستحق، يكفي قراءة كتابه «مملكة سرقسطة – احدى ممالك الطوائف في الشمال الاسباني التي نشأت بعد سقوط الخلافة الاموية في الاندلس سنة 1531 – في القرن الحادي عشر، الذي لا يزال كلاسيكياً في مادته، ومرجعاً ببليوغرافياً، واستشارة لا غنى عنها.

عقل ديناميكي
المكرّم الآخر الدكتور انطوان خاطر الذي نال بعض شهاداته العلمية في اسبانيا، درّس اللغة الاسبانية في عدد من المدارس اللبنانية، الى جانب تدريس الأدب العربي، والترجمة، وتاريخ الفكر وتاريخ الفن. وكتب العديد من المقالات، منذ سنة 1956 في الصحافة اللبنانية، عن الثقافة والتقاليد والفكر والأدب في اسبانيا، وخصوصاً الشعر. وألقى محاضرات بالعربية والفرنسية والاسبانية، في العديد من المؤتمرات والندوات حول الأدب والتصوف العربي – الاسباني، والترجمة والنقد الادبي…
عن انطوان خاطر، يقول مونتابيث ، ان لديه دائماً عزم مفكر متأهب للفعل، لكن ليس مفكراً وضعياً جامداً، بل انه زاخر بالحيوية ويفيض نشاطاً. انه عقل ديناميكي في حركة وتنقل دائمين، تحثه في كل لحظة رغبة التعلّم والبلوغ الى شرح المسائل والاشياء بصورة افضل فأفضل.

محاور ممتاز
يعتبر مونتابيث، انه من الصعب ان نجد باحثاً في الثقافة الاسبانية يمارس التنقيب فيها شمولاً وعمقاً كما يفعل الدكتور انطوان خاطر. لقد أثار دهشتي منذ ان عرفته، وساءلت نفسي في مناسبات كثيرة عمّا يكون اصله، ومن اي منبت هو. اظنني الآن قادراً على تفسير الأمر: انه يكمن في معرفته اللغة الاسبانية معرفة كاملة وعميقة جداً… مشيراً، الى ان احاطته باللغة الاسبانية. احاطة متينة اتاحت له ان يكون شارحاً ممتازاً لثقافتنا وناقلاً لها…
الى ان يقول: وممّا لا شك فيه ان انطوان خاطر هو ايضاً، وربما فوق كل شيء، مترجم غير عادي، بل هو معلّم اصيل ومثال في هذا المجال.
ولفت مونتابيث، الى ان انظوان خاطر هو احد الاشخاص الذين يجب ان نتحدث اليهم دائماً. ويناسب  ان نعرف  رأيهم ووجهة نظرهم، لان منه يمكنك ان تتعلم دائماً شيئاً ما. وهو ايضاً، متنبّه دائماً الى ما يقال. انه محاور ممتاز!

ناديا ظافر شعبان
بدورها، حصلت ناديا ظافر شعبان على منحة دراسية من وزارة الخارجية الاسبانية، ونالت الدكتوراه في الآداب، وبدرجة امتياز، عن اطروحة بعنوان «صورة لبنان في كتابات الرحّالة الاسبان في النصف  الثاني من القرن التاسع عشر» باشراف الدكتور بدرو مارتينيث  مونتابيث .
للدكتورة ناديا ظافر شعبان مؤلفات عدة، منها: «رسائل قادش» الذي اهدته الى والدها ظافر شعبان الذي كان فرحاً بطموحها الكبير. ورواية بعنوان «ورحلت الطفلة». وترجمات عديدة، ولا سيما كتاب «مختارات لشعر لوركا»، و«انطولوجيا الشعر الفنزويلي الحديث». وكتبت الشعر باللغة الاسبانية، كما كتبت اكثر من 250 مقالة عن ادباء وشعراء اسبان، ومن اميركا اللاتينية، وعن الحضارة الاسبانية. وقدّمت الكثير من المحاضرات في اسبانيا والعالم العربي. من هنا، باستطاعتي القول، ان مسيرتها الادبية زاخرة بالعطاء والابداع.

ارادة مدهشة وعزم كبير
يقول الدكتور مونتابيث، انه لم يعد يرى الدكتورة ناديا ظافر شعبان منذ سنوات طويلة، هي التي كان له معها اكبر قدر من التعاطي، وهو يحتفظ من تلك اللقاءات بصور وانطباعات محفوظة بشفافية في الذاكرة برغم السنوات الطويلة التي مرّت… مشيراً الى ان ناديا ظافر شعبان امرأة تتميز بارادة مدهشة وعزم كبير… فهي تقرأ وتوحّد بطريقة ملائمة بين المثالية المتخيلة الاكثر تمجيداً والواقعية الاكثر عملية وتجذراً. قائلاً: تحققت في مناسبات كثيرة من صفاتها هذه. الا ان المناسبة التي ظهرت فيها هذه الصفات، كانت على الارجح في اثناء اعدادها لاطروحة الدكتوراه التي ناقشتها في الجامعة المستقلة في مدريد، وانا اشرفت عليها، وضمنتها كل دقة التفسير وجهد البحث وبراعة الصياغة التي كان يتطلبها العمل، وهي قادرة على ذلك كله. منحتها اللجنة الفاحصة درجة امتياز على بحثها.

  موهبة ادبية
يعتبر مونتابيث ، ان ناديا ظافر شعبان هي قبل كل شيء موهبة ادبية، والبحث عن الجمال، والعاطفة والانفعال، النبض الانساني والحساسية المرهفة المتشاركة، هي بالنسبة اليها تطلعات واهداف رئيسية. هذا ما تثبته في نتاجها الادبي الخاص وفي كتاباتها النقدية الادبية، في ترجماتها وفي مقالاتها. تنفعل بالقوة ذاتها ازاء قصيدة، ازاء لحن، ازاء منظر او مدينة. تتجاوز ما تراه امامها، الاقرب اليها. هذا ما حملها مثلاً لتقوم برحلة مدهشة اخرى: الرحلة الى عالم آداب اميركا التي تتحدث وتكتب الاسبانية. العبور الى الضفة الاخرى، ضفة المستقبل، كان واحداً من نجاحاتها الكبرى، من موهبتها الادبية المحلّقة دائماً: انها معايشة اخرى لما هو اسباني.

اكبر التحديات
ويخلص الدكتور مونتابيث الى القول، ان هذه الدروس والتعاليم جميعها تأتينا من لبنان من «هذا البلد الصغير، الكبير الأهمية»، كما عرّفه تعريفاً موفقاً رجل دولة مشهور من اوروبا الوسطى في القرن التاسع عشر. ومشهورة آية الكتاب التي تؤكد «الصديق كالنخل يسمو، ومثل أرز لبنان ينمو». أصدقاؤنا اللبنانيون الثلاثة الكبار عرفوا – كما رأينا – ان ينشطوا في «استبسان» (دراسات اسبانية) متعدّد ومتنوع، لذلك فهو غني وخصب. ولم يفعلوا ذلك لأن الموضوع، اي «الاستبسان» هو هكذا، متعدد ومتنوع فقط، بل لأن بلدهم هو كذلك ايضاً. ان التزام التعدّد والتنوع التزام كامل وادارتهما بتوازن وانصاف  يجعلاننا اوفر غنى وخصوبة. ان هذه الاربعة – التعدد والتنوع والتوازن والانصاف – تمثل احد اكبر التحديات التي تواجهها البشرية اليوم.
وختم قائلاً: «ان لبنان واسبانيا يشكلان مجالين مميزين لقبول هذا التحدي ورفعه. وفي اعتقادي ان استبساناً واستعراباً من هذه السلالة، غنيّين، متعددين، خصبين، متنوّعين، يمكن ان يسهما بشكل حاسم لنحقق، بتعاوننا جميعاً، في نهاية الأمر، هذه الاهداف.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق