آدب

مالك شلهوب… يستذكر رفيق دربه نتاليو شدياق المخلص لوطنه الأم

على هامش انعقاد مؤتمر «الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم» خطر في بالي ان اعرف بشكل واضح، من هو صاحب هذا المشروع الوطني المتقدم، الذي ما زالت شخصيته غير معروفة تماماً لدى الكثير من الناس. واسارع الى القول، انني لم ابحث طويلاً في بطون الكتب التي تتناول تاريخ الاغتراب اللبناني، منذ ان اقفل انطونيوس البشعلاني باب بيته في بلدة صليما ورمى المفتاح بعيداً في الحقل المنبسط امامه، ورحل الى نيويورك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كأول مهاجر لبناني في العصر الحديث… بل انني لجأت الى الامين العام الاسبق لـ «الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم» الصديق مالك شلهوب الذي يعرف الكثير عن هذه المؤسسة الاغترابية الكبرى، وخصوصاً عن ذلك الرجل البعيد النظر الدكتور نتاليو شدياق، الذي راودته فكرة تأسيس اول مؤسسة اغترابية تعمل في خدمة لبنان المغترب والمقيم معاً. وقد ساهم مالك شلهوب في تطور هذه المؤسسة وامتدادها في كل اصقاع الارض، وما زال حتى اليوم، يساهم في انقاذها، بعدما تسربت اليها الخلافات والانقسامات المختلفة… في هذا الحديث، يضيء مالك شلهوب على شخصية نتاليو شدياق الذي عرفه في كوبا وآمن بأفكاره الوطنية، وتابع المسيرة من بعده.

بمناسبة انعقاد المؤتمر الجديد الذي تقيمه «الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم» بودي معرفةمن هو صاحب هذه الفكرة؟
إتسم لبنان منذ القدم بصفة الاغتراب، حيث ان عدد مغتربيه يضاهي عدد سكانه المقيمين. فقد برز عدد من هؤلاء اخذوا على عاتقهم جمع شملهم في مختلف بلدان الاغتراب وعملوا ما بوسعهم على خلق مؤسسات تسعى لخدمة لبنان ومصالح ابنائه اينما وجدوا.
كان في طليعة هؤلاء المخلصين لقضية وطنهم الأم محام شهير متخصص في القانون الدولي هو الدكتور نتاليو شدياق، الذي وُلد في كوبا سنة 1909 من أبوين لبنانيين هاجرا من بلدتهما غزير في كسروان، ليقيما في المغترب.

اول مؤسسة اغترابية
من هو نتاليو شدياق، وما هو هدفه من وراء تأسيس هذه المؤسسة الاغترابية الكبيرة؟
مارس الدكتور نتاليو شدياق مهنة المحاماة وخبرها لمدة نصف قرن. وهو الذي يعود اليه الفضل الاكبر في تأسيس اول مؤسسة اغترابية ذات امتداد دولي، جمعت الجاليات اللبنانية في المهجر تحت اسم اتحاد الجمعيات اللبنانية الاميركية «فيال»، ومن اهدافه الاساسية ترسيخ الروابط بين لبنان وابنائه المنتشرين في الاصقاع.
لم تكن هذه فقط المأثرة المهمة الوحيدة للدكتور شدياق. فبفضل اختصاصه في قانون المنظمات الدولية، ساهم ايضاً، في تأسيس وانماء المؤسسات الدولية، الآتية: الاتحاد الاميركي للمحامين الذي انتخب هو اميناً عاماً له – الاتحاد الاميركي للمؤلفين والملحنين – الاكاديمية الاميركية للحقوق الدولية – المجلس الاقليمي لليونسكو في القارة الاميركية – ممثل خاص لاميركا اللاتينية في معرض التجارة الدولية في اتلانتا سنة 1977 – وغيرها…
وقد حضر مؤتمر اليونسكو في بيروت سنة 1948 بصفته مستشاراً لوفد جمهورية كوبا. وبالاضافة الى ذلك، فقد كان منذ سنة 1948 القنصل الفخري للبنان في كوبا.
وتقديراً لخدماته، عيّن في مطلع سنة 1980. عميداً لكل من الاتحاد الاميركي للمؤلفين، وللأكاديمية الاميركية للحقوق الدولية.

مراحل صعبة
هل في وسعك استعراض نشاط ذلك الرجل المميز؟
اجل، باستطاعتي ان استعرض مراحل نشاط ذلك الرجل الديناميكي في سبيل جمع شمل المغتربين في البلاد الاميركية، اولاً، مستعيناً بالوثائق.
المرحلة الاولى كانت اصعب من كل المراحل، فقد برزت فكرة تأسيس اتحاد في اميركا الى حيّز الوجود سنة 1945 في اثناء رحلة قام بها الى اميركا الجنوبية للاشتراك في مؤتمر للمحامين انعقد في تشيلي. لقد تأثر الدكتور شدياق جداً بما لقيه من تكريم ومن حسن ضيافة من المواطنين اللبنانيين. وفي الوقت نفسه، استنتج انهم يجهلون كل الجهل اوضاع الجاليات اللبنانية الاخرى في اميركا.
وقد دفعه ذلك، الى السعي لتعريف الجاليات اللبنانية بعضها على بعض، فقام سنة 1946 بتوجيه نداء الى تلك الجاليات يتضمن اقتراحات لتأسيس اتحاد للبنانيين في القارة الاميركية. وفي سنة 1948 قدّم الى الحكومة اللبنانية، عندما جاء لحضور الاجتماع العام لليونسكو في بيروت، دراسة وافية حول موضوع تأسيس الاتحاد، ولقيت تلك الدراسة تجاوباً عند عدد كبير من الشخصيات اللبنانية، خصوصاً الوزير حميد فرنجية الذي كان  – آنذاك – وزيراً للخارجية.

حجر الزاوية
كيف صارت الامور بعد ذلك؟
لتهيئة الاجواء المؤاتية لقيام اتحاد الجاليات اللبنانية في القارة الاميركية قام بزيارة الجمعيات والنوادي اللبنانية في البلدان الآتية: الولايات المتحدة الاميركية – المكسيك- كوبا – البرازيل – تشيلي – كوستاريكا – بناما – كولومبيا – الارجنتين. وفي الثالث من شهر كانون الاول (ديسمبر) سنة 1957 زار بيونس ايرس بناء على دعوة وجهتها له الجمعية اللبنانية الوطنية في تلك المدينة وشرح اهمية ذلك المشروع في اثناء مؤتمر عقد في تلك المناسبة بحضور القائم بالاعمال اللبناني في الارجنتين الديبلوماسي جوزف نفاع الذي اوصى بعقد اجتماع للموافقة على فكرة الاتحاد.
في اثناء ذلك الاجتماع وافق الاعضاء على المشروع الذي تقدّم به لخلق اتحاد في القارة الاميركية يضم الجاليات اللبنانية المختلفة، متمنين عليه ان يقوم بتنسيق الاتحاد والعمل على ادخال الجمعيات اللبنانية فيه. وكان ذلك حجر الزاوية لقيام مؤسسة «فيال».

مؤتمر هافانا
وما هي الخطوة التالية؟
كانت الخطوة التالية ان حصل على موافقة «الجمعية اللبنانية في هافانا» لعقد مؤتمر الغاية منه تأسيس ذلك الاتحاد. فوجهت الدعوات الى جميع الجمعيات اللبنانية في القارة الاميركية والى الحكومة اللبنانية التي اعربت عن ارتياحها لهذه الاعمال التمهيدية. انتدبت الحكومة اللبنانية مدير المغتربين في وزارة الخارجية – آنذاك – فؤاد بريدي لحضور المؤتمر الذي عقد في هافانا في 31 كانون الثاني (يناير) سنة 1959، وحضر الاجتماع اكثر من اربعين مندوباً  يمثلون المؤسسات اللبنانية في  18 بلداً، منها: البرازيل – بوليفيا – كوستاريكا – كوبا – تشيلي – الاكوادور – الولايات المتحدة – جامايكا – هايتي – المكسيك – جمهورية الدومينيك – وغيرها… في ذلك الاجتماع التاريخي الذي عقد في هافانا، تبنى ممثلو الجمعيات اللبنانية في تلك البلدان مشروع «فيال» الذي كان قد وضعه الدكتور نتاليو شدياق، بعد ان ادخلوا عليه بعض التعديلات.

هيئة ادارية
ممن تألفت الهيئة الادارية للاتحاد؟
انتخبت الهيئة الادارية على الشكل الآتي: الشيخ بطرس الشيخا من المكسيك (رئيساً) – الدكتور نتاليو شدياق (أميناً عاماً) – السيد مالك شلهوب (معاوناً للأمين العام في كوبا) – نواب الرئيس كل من السادة: انطوان الخواجة (كوبا) – توفيق عطااللّه (المكسيك) – سيمون بستاني (الارجنتين) – هيكل رعيدي (تشيلي) – يوسف شيبان (الولايات المتحدة) – ميكال يموني (كوستاريكا) – جورج حسون المعلوف (البرازيل) . وبوصف الدكتور نتاليو شدياق اميناً عاماً لمنظمة «فيال» دعا الى مؤتمر عام عقد في المكسيك في 31 كانون الثاني (يناير) 1960، تحت رعاية الاتحاد اللبناني هناك، ومثّل لبنان السفير اللبناني في مكسيكو الشيخ نجيب الدحداح.
حقق هذا المؤتمر نجاحاً كبيراً، كان الهدف الرئيسي منه تركيز «فيال» والعمل على انشاء فروع له في البلدان الاخرى.

ابرز عهود الجامعة
كيف تحدد زمن «الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم» في عهد نتاليو شدياق؟
بعد نشوء «الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم»، التي كان للدكتور شدياق الدور البارز في تأسيسها، ووضع فلسفتها وانظمتها، وتركيز دعائمها ودمج «فيال» في صفوفها بفروعه المنتشرة في البلدان الاميركية كافة، كوفىء في اثناء انعقاد المؤتمر العالمي الثاني للجامعة في بيروت سنة 1964 بانتخابه اميناً عاماً لهذه المؤسسة اللبنانية العالمية. وكان لنشاطاته في الامانة العامة اثر بعيد في تعزيز مكانة الجامعة واستقلاليتها وانطلاقها، اذ ان الفروع الـ 175 التي تأسست في عهده، بالاضافة الى فروع «فيال» كانت من انشط اجهزة الجامعة في مختلف عهودها. كما وان المؤتمرات العالمية، القارية والاقليمية المتخصصة، واهمها مؤتمرات المحامين ورجال الاعمال والمهندسين المعماريين والاطباء المتحدرين من اصل لبناني، التي عقدت في لبنان سنة 1965 – 1968، كانت من اهم وانجح مؤتمرات الجامعة وابعدها اثراً في تاريخ الجامعة وترسيخ بنيانها واعلاء شأنها على المستويات كافة.

مآثر لا تنسى
ماذا تذكر ايضاً عن مآثر نتاليو شدياق؟
من مآثره الوطنية والاغترابية، انه اثر التحولات السياسية التي حدثت في كوبا، بداية انتصار الثورة فيها، في الاول من كانون الثاني (يناير) 1959، وجد انه كقنصل فخري للبنان، عاجز عن تأمين مصالح الجالية وحمايتها على الوجه المطلوب، فآثر الاستقالة من منصبه وطلب الى الحكومة اللبنانية اقامة تمثيل ديبلوماسي مع كوبا، وتسهيلاً لهذه الغاية قدّم دارته الفخمة في هافانا لتكون مقراً للسفير والسفارة. فاستجابت الحكومة لطلبه وكان اول سفير للبنان في كوبا سفير لبنان في فنزويلا ادمون خياط، ومالك شلهوب قائماً باعمال السفارة (مركز فخري)، وذلك في سنة 1961. ومن مآثره ايضاً، بعد انتخابه اميناً عاماً للجامعة، ان تنازل عن نصف تعويضاته الشهرية لتنمية صندوق الجامعة.

نموذج حيّ
واليوم، اذ نستذكر هذا الوجه البارز في دنيا الاغتراب، بمناسبة انعقاد مؤتمر الجامعة، ما هي كلمتك الاخيرة؟
يبقى الدكتور نتاليو شدياق (1909 – 1999) نموذجاً حياً في النبل والاستقامة والارتفاع عن الصغائر من الامور ونكران الذات، وفي توثيق الروابط بين لبنان المقيم ولبنان المغترب.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق