أبرز الأخبارملف

«شفت تحرش» وماذا فعلت؟

هو ليس تحرشاً من نوع آخر، انه التحرش في معناه الحقيقي. غمزة ايحائية بطرف العين من هنا، لمسة باليد من هناك، الزام الموظفة ارتداء ملابس مثيرة أو ايحائية تحت طائلة الصرف من العمل أو تخفيض الراتب وصولاً الى التهديد بالصرف من العمل، مغازلة عاملة المنزل أو التحرش بها جنسياً في غياب الزوجة… حركات قد لا توحي لبعضهن في الظاهر انها نوع من التحرش الجنسي، لكنها في الحقيقة تحرش جنسي، لكن حتى لو ادركن ذلك لزمن الصمت تفادياً للفضيحة الاجتماعية أو العائلية. وفي الوقائع  نسبة المعتدى عليهن ارتفعت أو لنقل انها بدأت تتظهر اكثر مع تزايد عدد النازحين السوريين والعمال الأجانب في لبنان، اضافة الى المتحرشين من الجنسية اللبنانية. انطلاقاً من هذا الواقع أطلقت جمعية «قل لا للعنف» حملة بعنوان: «شفت تحرش» وهي موجهة للفتيات اللبنانيات أولاً والعاملات الأجنبيات ثانياً لتعريفهن على أنواع التحرش في اماكن العمل وسواها، وجاءت النتائج أكثر من مدوية.

69 في المئة من إجابات الفتيات اللواتي خضعن للإختبار عبر استمارات جالت بها جمعية «قل لا للعنف» على جميع المناطق في العاصمة بيروت اكدت تعرضهن للتحرش. غالبية هؤلاء لم يكن يعلمن أن هذه الحركة أو تلك المداعبة التي يفترض أن تكون بريئة هي نوع من التحرش. وهذا ما أثبتته فعالية الخطوة التي قامت بها الجمعية في حملتها «شفت تحرش». فهي عرّفت الفتيات على مفهوم التحرش الجنسي والأساليب التي يستعملها الرجل للإيقاع بالفتاة في مصيدة تحرشاته.

 


حملة ومرصد
رئيس الجمعية طارق أبو زينب يعود إلى بدايات عمل الجمعية في العام 2010 حيث كان يتركز على العنف ضد المرأة. وبعد تبلور الصورة ارتأى القيمون تأطير العمل بغطاء قانوني، فنالت الجمعية علماً وخبراً في 19 أيلول (سبتمبر) من العام 2012، وبدأت رحلة الألف ميل.
توقيت الحملة أثار العديد من علامات الإستفهام. واستغرب البعض فتح ملف مماثل في مرحلة يفترض أن يكون اللبنانيون مشغولين بهموم العودة إلى المدارس والضربة الأميركية على سوريا، والسيارات المفخخة هنا وهناك.. فما بال جمعية «قل لا للعنف» تطلق حملة «شفت تحرش» وأين؟ في اماكن العمل؟
نبدأ من التوقيت. فـ «النزوح السوري إلى لبنان الذي قارب عدده المليونين إضافة إلى العمال الأجانب المقيمين في لبنان والضغط الإجتماعي والمعيشي أدت كلها إلى تفشي آفات إجتماعية كثيرة منها التحرش الجنسي والتمييز العنصري والعنف الأسري. إنطلاقاً من ذلك أسست الجمعية مرصداً في لبنان لرصد ظاهرة التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة على غرار تونس ومصر يضم فريقاً من المتخصصين في مجالات المحاماة والطب النفسي وعلم الإجتماع للتواصل مع الفتيات اللواتي يتعرضن للتحرش وكسر جدار الصمت ونيل كامل حقوقهن».

تحرش متعدد الوجوه
من خلال المسح الميداني الذي أجراه فريق عمل الإستقصاء في الجمعية تبين أن التحرش الجنسي في لبنان بدأ يزداد في أماكن العمل. وتتعرض بعض النساء إلى التهديد من المتحرش بطردها من عملها لمجرد تفكيرها في كسر جدار الصمت، وهذا مناف لقانون حقوق الإنسان. أما وسائل التحرش فيقول عنها طارق أبو زينب: إنها متعددة الوجوه والهويات لكنها تصب في هدف واحد. «هناك مثلاً التحرش اللفظي الذي تتعرض له الفتيات والنساء في اماكن العمل وكذلك في وسائل النقل العام والتحرش النظري الإيحائي الذي يمهد للمس باليد والإعتداء الجنسي لاحقاً. أما الوسائل التي يستعملها صاحب العمل للضغط على الموظفات فتتنوع بين اللفظي والنظري واللمس. وقد يمارس عليها أساليب ضغط معينة كمثل إرغامها على ارتداء ملابس غير محتشمة أو إظهار مفاتنها». ولفت أبو زينب إلى أن غالبية أنواع التحرش تحصل في الشركات والمؤسسات وكذلك في محال الألبسة الرجالية. صدقوا. فقد أظهرت نتائج المسح الميداني أن أصحاب محال الألبسة الرجالية، يفرضون على الفتيات العاملات  ارتداء ملابس إيحائية والقيام بحركات جنسية أمام الرجل اثناء مساعدته على اختيار الملابس أو ارتدائها بهدف دفعه لشرائها واجتذابه زبوناً دائماً على حساب حقوق العاملة وكرامتها. وفي حال رفضت الفتاة الإمتثال لأوامر المدير،  يصار إلى تخفيض راتبها أو فصلها من العمل لاحقاً. وإذا قررت كسر جدار الصمت تتهم بالفسق وقلة الإنضباط الأخلاقي فينقلب السحر على الساحر. وهذا ما يدفعها إلى الصمت والهرب إلى… الأمام.

يفضلن الصمت!
المواقف كثيرة ولا مجال لسردها كلها. والأسماء التي ترد على الخط الساخن لدى الجمعية تبقى طي الكتمان، لكن الآثار التي تتركها علامات التحرش تحفر. إختصاصيو علم النفس يعرّفون التحرش الجنسي بانه  انحراف سلوكي يخترق خصوصية الآخرين. وهو سلوك مفروض من شخص على آخر وتستخدم فيه أشياء ذات ملامح جنسية قد تكون بسيطة مثل الغزل الحسي أو أكثر تفاعلاً مثل الاعتداء الجنسي والاغتصاب. وينتشر التحرش الجنسي في اي مكان وأي زمان. أما المتحرش فهو مطلق أي شخص يقوم بالتهديد أوالترغيب أو استخدام سلطته وقوته أو استغلال حاجة الآخرين لإشباع رغبته الجنسية.
وتتمثل الآثار النفسية للتحرش بالصدمة النفسية والشعور بالحزن والقلق  والخوف والتوتر والاكتئاب وعقدة الذنب وفقدان الثقة بالآخرين والتردد وعدم الشعور بالأمان النفسي والاجتماعي وغيرها من مشاعر عدم الراحة والأمان. واللافت أن غالبية الفتيات اللواتي يتعرضن للتحرش الجنسي يفضلن الصمت بحسب علماء النفس خوفاً من عقوبة اجتماعية أو من رد فعل أسرة المجني عليها. فتعيش حالة صراع نفسي ما بين الموقف والتربية الاجتماعية، وكلما استمر الصمت زادت نسبة التحرش وتمادي المختلين جنسياً.
نصل إلى الحلول التي تبدأ بالقوانين والتشريعات للحد من تلك الظاهرة ونشر الوعي بمختلف أشكال التحرش. ويلفت الإختصاصيون إلى أهمية المساندة النفسية والقانونية  للمعتدى عليها بهدف خلق جو من الحوار مع الآخرين، خصوصاً أسرتها حتى تتمكن من التحدث بصراحة عن الأمور التي حصلت معها.
لكن، هناك نوع آخر من التحرش قد يبدأ من الفتاة نفسها بحيث تعمد إلى إظهار مفاتنها بصورة مستفزة. لكنها لا تقارن بنسبة الرجال الذين يتعرضون للفتاة في مراكز العمل كما يقول أبو زينب. في النهاية المسألة نسبية وتتوقف على التربية والأسرة. وحتى التحرش نسبي ولا يشمل كل اصحاب العمل.

شروط وايحاءات
وسائل التحرش الجنسي تحمل أكثر من وجه: «مطلوب موظفة حسنة المظهر براتب محترم ولا يشترط عليها الخبرة أو المؤهلات «إعلان تتهافت عليه الكثيرات، لأنه يفتح أمامهن باب الأمل في عمل ينتشلهن من وحش البطالة، وفي المقابل يؤمن لمدير المكتب أو صاحب المؤسسة رغباته التي سيفرضها على الموظفة لمجرد قبولها الوظيفة وبالشروط المطروحة هرباً من الضائقة الإقتصادية والفقر» فهل يبرر ذلك فعل التحرش الجنسي؟
يقول أحد أعضاء الجمعية ممن شاركوا في المسح الميداني: «يحصل احياناً أن يتضمن طلب العمل بعض الشروط التي تخفي إيحاءات جنسية كمثل التركيز على الشكل الخارجي بدلاً من الكفاءة، من هنا كان تحرك الجمعية لخلق شبكة أمان لحفظ حقوق المرأة والإنسان كما ورد في شرعة حقوق الإنسان. واستغرب أبو زينب مقاربة البعض لحملة «شفت تحرش» للحملات التي تشبهها في كل من مصر وتونس. ويوضح: «هناك تقارب في وجهات النظر، لكن الدوافع تختلف. ففي مصر وتونس ظهرت هذه الجمعيات على خلفية التحرش الذي كان يحصل ولا يزال في ساحات الميدان التي شهدت اعتصامات لإسقاط الأنظمة. لكننا لم نسرق الفكرة ولا توجد لدينا أجندة سياسية ولا تمويل لا من الداخل ولا من الخارج. فنحن نعمل كمجموعة ناشطين ومتطوعين حتى نساعد الفتاة التي تعرضت للتحرش الجنسي، على كسر جدار الصمت وتفادي الوصول إلى الإغتصاب كما حصل في الجية مع إحدى الفتيات التي كانت تتعرض مراراً للتحرش حتى وصل الأمر بالمعتدي إلى اغتصابها. أما في المقلب الآخر فهدفنا أن نقول للجميع بأن لبنان لا يزال بألف خير وهناك مبادرات شبابية لوضع الإصبع على الجرح».

 

على الخط الساخن
عند ورود اتصال على الخط الساخن يبادر المتلقي إلى اخذ الإسم الذي يبقى طي السرية والكتمان ويسأل عن نوع التحرش وإذا ما حصل اعتداء أو بقي الأمر في حدود التحرش. ثم يطلب منها تحضير تقرير طبي «لأن الغالبية لا تعرف أنه يفترض أن يكون هناك تقرير طبي يثبت مدى صحة التحرش الجنسي». لكن الجواب يأتي بالرفض قطعاً خوفاً من التقاليد وفضح السر أمام العائلة والمجتمع. حتى الدعوى القضائية، يضيف أبو زينب، تخشاها غالبية المعتدى عليهن بسبب العادات والتقاليد. بعدها نبدأ العمل كفريق متخصص على موضوع التنكيل المعنوي حيث يتم جمع المعتدى عليها بإختصاصية في علم النفس وأخرى في علم الإجتماع لتمكينها من التكلم وكسر جدار الصمت، لأن صمتها اليوم قد يؤدي إلى تعرضها للإغتصاب لاحقاً وربما القتل كما حصل مع عدد من النساء المتزوجات في المدة الأخيرة.

تحرش في وسائل النقل العام
ولفت أبو زينب إلى ورود عدد من الإتصالات من فتيات جامعيات يشكين من تعرضهن للتحرش الجنسي في وسائل النقل العام ويسألن عن وسائل الدفاع وكيفية التصرف عند تعرضهن للتحرش؟ بدورنا نسأل لأن الموضوع حساس جداً، وغالبية الضحايا يخشين الفضيحة أو تلويث السمعة وقد تنقلب عليهن، وإسطوانة تلويث سمعة الفتاة أسهل من اتهام رجل بالإعتداء أو التحرش الجنسي.
ما هي طرق الدفاع عن النفس في حال تعرض الفتاة للتحرش الجنسي؟
عليها ان تبادر الى الصراخ في وجه المعتدي وطلب المساعدة من أحد الجالسين بقربها في الباص أو سيارة النقل العمومي. فلا شيء معيباً أكثر من الفعل الذي يرتكبه المتحرش الجنسي. بعدها يصار إلى سوقه إلى أقرب مخفر لقوى الأمن الداخلي.


التحرش بالارقام
في آخر مسح  أجرته جمعية «قل لا للعنف» في إطار حملتها «شفت تحرش» تبين أن أكبر نسبة من التحرش والإعتداء الجنسي تحصل في المنازل التي تضم عاملات أجنبيات أو لبنانيات لا فرق. واظهرت الدراسة أن أعمار غالبية الرجال الذين يقومون بفعل التحرش أو الإعتداء الجنسي يتجاوز الـ 55 عاماً.
النقطة الثانية التي استوقفت فريق الإستقصاء والقيمين على الجمعية هي الظروف والمناخ التي يختارها الرجل للقيام بفعل التحرش الجنسي، بحيث يختار الوقت الذي تكون فيه زوجته العاملة خارج المنزل. وتبين أن اكثر البيوت التي تحصل فيها أعمال تحرش جنسي تكون فيها ربة المنزل غائبة طوال النهار بسبب ظروف العمل فيستغل الزوج الفرصة ويخلو له الجو للقيام بأفعاله المنافية للأخلاق وحقوق الإنسان.
أما الأخطر في نتائج المسح الميداني فهو ما أظهرته الأرقام عن قيام مراهقين بعمر يراوح بين 15و17 عاماً بالتحرش الجنسي في حق العاملات داخل بيوتهم. واللافت أن غالبية أفعال التحرش تصل إلى الإعتداء الجنسي وهي غالباً ما تحصل بعد مشاهدة المراهق أفلاماً جنسية أو نتيجة متابعة مواقع إباحية على الإنترنت.

69% تعرضن للتحرش
واضح أن ظاهرة التحرش الجنسي «مسكوت عنها» في المجتمعات العربية، ولبنان واحد منها. وهذا ما كسرته جمعية «قل لا للعنف» من خلال الحملة التي اطلقتها منذ نحو 3 أشهر حيث ساهمت في تشجيع الفتيات على الإتصال والإقرار بأفعال التحرش الجنسي التي تعرضن لها. والأهم أنه للمرة الأولى يبرز رقم عن نسبة التحرش الجنسي في لبنان، التي وصلت إلى 69 في المئة. أما غالبية المعتدى عليهن فهن من الخدم الأجانب إضافة إلى الموظفات اللبنانيات. وأكد أبو زينب أن الحملة ساهمت في نشر الوعي وتعريف الفتاة على أساليب التحرش الجنسي التي كانت تفكر أنها مجرد حركات عادية. والأهم أن هذه الفكرة بدأت تعمم وهي حلقت وطارت بعيداً وبات المعتدي يحسب ألف حساب قبل أن يمد يده على مطلق أية موظفة تعمل عنده أو يرمقها بنظرة معبأة بالإيحاءات.

عيون تراقب وقضاء ينتظر
«الهدف من الحملة هو أن نقول للمتحرش الجنسي أن هناك عيوناً تراقبك وقضاء ينتظرك. هناك ثواب وعقاب، وإن كان دورنا كجمعية ينتهي عند وصول الملف إلى المحامي وبعده إلى القضاء»، يقول ابو زينب مضيفاً: «المهم أن الدعوى فتحت. وهناك ايضاً إعلام حر وأقلام غير مأجورة مستعدة للكتابة وكشف الحقائق. كفانا خوفاً وتردداً. فالمرأة لها دور فاعل في المجتمع وهي تتمتع بكامل الحقوق تماماً كما الرجل. ويكفيها خوفاً وتردداً. نريد مجتمعاً خالياً من التحرش الجنسي وروح المواطنية تبدأ عندما ترصد الإنتهاكات التي ترتكب في حق الإنسان».
«شفت تحرش» كانت الباكورة في حملة «قل لا للعنف» لكن الخطوات اللاحقة لن توفر أحداً. فالأطفال سيكونون على جدول الحملة التالية بعدما تبين أن نسبة الإعتداءات الجنسية على الأطفال في الشارع وأماكن العمل وحتى في المدارس في ارتفاع. والأهم من ذلك يضيف طارق أبو زينب، أن الجمعية أدخلت مفهوم الشراكة مع الرجل من خلال حملة «متلي متلك» فالرجل شريك المرأة وليس ضدها، سواء في المجتمعات الغربية أو العربية، وقد حان الوقت للتحرر من عقدة الصمت خوفاً من الفضيحة.
فالفضيحة الكبرى هي عندما تعض المرأة على جرحها وتسمح بتمادي الجريمة الجنسية. وقد تكون ابنتها يوماً هي الضحية فهل تستحق العادات والتقاليد السكوت على فعل التحرش الجنسي بعد اليوم؟.

جومانا نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق