آدب

غنطوس الرامي… كتب قليلاً وذاع صيته كثيراً منافساً البنفسجة بتواضعه الجميل

غنطوس الرامي… هل تتذكرون صاحب هذا الاسم؟ هل تتذكرون ذلك الشاعر الذي كتب قليلاً، وذاع صيته كثيراً؟ كتب القصيدة العفوية الرقيقة والجميلة التي لا تعتمد التكلف ولا توغل في الابهام، القصيدة الحاملة في جوهرها الصدق والعافية… وكتب القصة القصيرة المستوحاة من واقع الحياة… من المؤكد، ان الذين يتذكرونه اليوم، هم قلة، اما الذين لا يتذكرونه، او بالاحرى الذين لم ينسب هذا الاسم الى آذانهم، فهم كُثر، بعد انصراف القارىء عن قراءة الشعر، متجاهلاً شعراء هذا الزمان، الذين تفترسهم آفة الذاتية والانانية وعقدة العظمة… اي عكس شعراء الأمس البعيد، وعلى رأسهم غنطوس الرامي، الذي كان ينافس البنفسجة بتواضعه الجميل.

أبصر غنطوس الرامي نور الحياة في بلدة تربل البقاعية، في منطقة زحلة، سنة 1910، ولست ادري متى رحل عن هذه الدنيا. كل ما اعرفه، ان آخر مرة رأيته فيها، كانت في سنة 1986، عندما اهداني كتابه «وسمر»، مع كلمة مضيئة استقرت في قلبي.
ومن الغرابة القول، انني بحثت عن اسمه في «موسوعة شعراء لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين» وبالتحديد في مجلد بيروت – البقاع، الصادرة قبل مدة قصيرة، لكي أقرأ ما كُتب عنه، لعلني اكتشف  ما أنا بحاجة اليه، ولكنني لم أجد لصديقي اي أثر!! وتراني اترك هذا الخطأ الفادح من دون اي تعليق !

هاجس الموت
في كتابه «وسمر» كتب غنطوس الرامي قصيدة قصيرة بعنوان «الهاجس الابدي» بتاريخ 1980، يقول:
كل ما بي ألم في ألمِ
وأحسّ الموت يجري في دمي
لا أخاف الموت يوماً إن أتى
يحتويني في عُباب الظلَمِ
إنما أخشى مصيراً غامضاً
فأوارى في رحاب العدمِ
إن يكن هذا مصيري فليكن
يا إلهي نجّني من أعظم!

❊❊❊

وفي سنة 1985، كتب قصيدة قصيرة ايضاً، بعنوان «مران»:
وكل حياة على أرضنا
تموت، وفي موتها خاتمة
وما كان نوم الليالي سوى

 مرانٍ على النومة الدائمة.
❊❊❊

وقبل هذه وتلك، كتب قصيدة قصيرة ايضاً وايضاً، بعنوان «دنياي»:
دنياي كانت خيالاً
وذكريات وشعرا
قضيت عمري طليقاً
من كل قيدٍ، وحرّا
سواي شيّد قصراً
بالجهد عمّرت قبرا
والقبر أبقى وأهنأ
للخالدين وأطرى
مما يُشاد ويُبنى
في هذه الأرض طُرّا.

❊❊❊

إذاً، في ذلك الحين بدأ غنطوس الرامي يعيش هاجس الموت، وهو الذي عاش الحياة بكل ما فيها من ملذات، وكان يعتبر:
إنما الدنيا لقوم    صرفوها عربده
❊❊❊

شاعر مختلف
في اوائل العقد السادس من القرن العشرين، عرفت الشاعر غنطوس الرامي، ذهبت اليه حيث يعمل في الاذاعة اللبنانية الرسمية، وهو من مؤسسيها، وكان يتولى رئاسة دائرة الانباء الاذاعية والتوجيه الوطني. وكانت المرة الاولى التي ادخل  فيها الى ذلك المبنى الذي كان يضج بالحركة والنشاط، وفي ارجائه يسرح ويمرح نجوم السياسة والصحافة والادب والشعر والغناء والموسيقى…
منذ اللحظة الاولى، تبيّن لي، كم كان ذلك الشاعر يختزن في اعماقه من الرقة والنعومة والشاعرية، وكم كان مهذباً وظريفاً وانيقاً، وكم كان متواضعاً.

ما قيل فيه
بعد سنوات طويلة من معرفتي به، تبين لي ايضاً، كم كنت على حق، عندما قرأت ما قيل فيه من كلمات… ميخائيل نعيمة وصفه بـ «الشاعر الرقيق»، ورئيف خوري بـ «الشاعر الناعم»، وكذلك  قال عنه جورج شامي: «الشاعر الأرق من النسائم المسحوبة من أنفاس الصباح». اما بطرس البستاني فاعتبره «الشاعر الصادق»، الى أمين نخلة القائل: «غنطوس الرامي شاعر الملاح والراح». ويوسف  ابرهيم يزبك القائل: «غنطوس الرامي عنوان النبل في شعره وصداقته». وهكذا دواليك…

أحلى الكلام
اما ادوار حنين، صاحب الكلمة الأنيقة والعميقة، الذي كتب مقدمة ديوان «وسمر»، وهو الذي عرفه على مدى اكثر من نصف قرن، فقد باح بأحلى الكلام: «ناعم التصرف ، ناعم الكلام، ناعم الفهم والافهام. فكان اذا وطأ الأرض، كأنه يطأ وروداً، واذا استمع الى قائل فكأنه يستمع الى آيات، واذا وجّه القول الى مستمع فكأنه يتحدث الى عارف ممّا، هو، يعرف».
الى ان يقول: «يعطي شعره، كما تعطي الورود أريجها، والينابيع دفقها، والبحار أمواجها، والسماء خيرها…» معتبراً، انه «كان أبعد ما يكون عن الديك الذي يصيح، في الصباح، وكأن الصباح يطلع من عرفه، وأبعد ما يكون عن الدجاجة التي تبيض وتقلق الأرض بصياحها، ان تعالوا وانظروا ما ليس مثله في الدنيا».
ويقول ادوار حنين ايضاً: «في شعر غنطوس الرامي «شرشارة» فالوغا التي، صغيراً، استطاب شدوها…
فهو أبعد ما يكون عن هدير شلالات «نياغرا» الذي كما قصف الرعود، ووقع الحديد على الحديد».

شاعر في كل شيء
كان غنطوس الرامي مقلاً في كتابة الشعر، لا عن شحّ – كما يقول ادوار حنين – بل لأن للنفس الواحدة لوناً واحداً.
له مجموعة شعرية بعنوان «سمر»، صدرت في سنة 1943، عن «دار المكشوف» لصاحبها الشيخ فؤاد حبيش، «دينامو» الحركة الادبية في ذلك الحين.
كما صدرت له في سنة 1956 مجموعة قصصية تحمل عنوان «شهر ورد». وفي سنة 1986 – كما سبق  وذكرت – صدرت مجموعته «وسمر». وتعاطى الصحافة، فكتب في عدد من الجرائد والمجلات اللبنانية.
وهنا، تحضرني ما كتبه رياض حنين، عن غنطوس الرامي: «في شعره شاعر، وفي نثره شاعر، وفي احاديثه شاعر، في مشيته شاعر، في خفره شاعر. في تكوين جسمه شاعر، وفي قلة نتاجه شاعر».

قصائد مغناة
معظم قصائده لحّنها كبار الموسيقيين، من أمثال: محيي الدين سلام – خالد ابو النصر – يوسف فاضل – ميشال خياط – الاخوين رحباني – حليم الرومي – تو فيق الباشا – وغيرهم…
وغنّاها اشهر المطربين والمطربات: نجاح سلام – زكية حمدان – فيروز – فؤاد زيدان – نور الهدى – صابر الصفح – وديع الصافي – سعاد هاشم – فايزة كامل – جوزف ناصيف – وسواهم…

تقلّص ظلال الوحي
في مكتبه في الاذاعة اللبنانية، كان غنطوس الرامي يعكف على العمل اليومي المضني، البعيد عن اجواء الشعر والابداع… وبالرغم من ذلك، سألته عن مدى نشاطه الشعري في تلك الايام؟
وأسار ع الى القول، ان ما خطر في بالي كان في محله، اذ انه اجابني قائلاً: «نشاطي الشعري في هذه الايام ضئيل جداً بالنسبة الى الايام الخالية البعيدة، ذلك ان الانغماس، حتى شعر الرأس، بمهام الوظيفة، وفرض الاقامة البيتية الجبرية، والصدوف القهري عن مجالس الأنس، والعزل الاختياري عن اجواء «العربدة»، فالانصراف  الى الواجبات الاجتماعية المصطنعة… كل هذه، قلّصت ظلال الوحي من حولي، اذ كشحت عن نفسي اسراب الاحلام واقتلعت من قلبي مطامير الاماني».

بين موظف وآخر
انطلاقاً من هنا، كان لا بد لي من طرح السؤال الآتي: هل ان الوظيفة تحدّ من نشاط الشاعر أو الاديب؟
قال غنطوس الرامي: «سبق ان ادرجت الوظيفة في عداد العوامل التي تسهم في اخماد شعلة الشعر، اذا طغت مهامها على نشاط الشاعر او استأثرت بتفكيره. وللوظيفة اجواء مختلفة، منها ملهمة ومنها معقمة. فجو الموظف في الاذاعة المغمور بالموسيقى والغناء والامسيات الشعرية والاحاديث الادبية هو مبعث إلهام ووحي، اكثر من جو الموظف في الزراعة مثلاً، الهادر بالتراكتورات والدافق بالسموم المبيدة للحشرات والملبد بأفواج الجرد – واستثني من هذا الجو ظروف رعاية الشجرة والزهرة – او جو موظف المالية الصاخب بالارقام والعابق برائحة مادة المال، او جو موظف البلدية وهمّه الاهم غسل  اوساخ البلدة وزوال اقذارها…».

شعر كفوح الزهرة
اعرف ان كل انسان له سببه في قرض الشعر، فلماذا يا ترى، كان غنطوس الرامي يقرض الشعر؟
قال لي: «أقرض الشعر للتعبير عن المكنون في نفسي وفي قلبي. وشعري عفوي كفوح الزهرة التي لا تشعر بأنها تملأ جوارها طيباً وشذا. او كشدو الطائر وهو لا يحس بأنه يشنّف كل أذن سامعة، او كمصباح مضيء وهو لا يدري انه ينشر النور على مستنير».
واضاف: «وأكره ما أكره، الشعر «المضغوط» اي ما لا ينزف الا تحت الضغط، كشعر المناسبات. والاكره من هذا شعر «الابتزاز» الشعر التجاري».
وسألته: ما مدى تأثير المرأة في حياتك كشاعر؟
اجاب: «الشعر عاطفة، ومن اجدر من المرأة باستدرار هذه العاطفة شعراً؟».

سؤال تقليدي
في ختام لقائي معه، قلت له: سأطرح عليك هذا السؤال التقليدي: ما هي أجمل قصيدة نظمتها؟
وبدوره قال: «سؤال تقليدي، وجوابي عليه تقليدي ايضاً. قصائد الشاعر كأولاده، لا يستطيع تفضيل واحدة على اخرى. وان ايماني بجمال قصيدتي فور ميلادها يقنعني بتبنيها، والا لما تركتها تبصر النور وان تبلغ مسامع الناس».

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق