آدب

محمد يوسف حمّود: الكتاب رغيف المعرفة يجب توفيره للشعب

من بين الادباء والشعراء الذين عرفتهم في الزمن الغابر، محمد يوسف حمّود الذي التقيته في مكتبه في «دار الكتب الوطنية»  في اوائل العقد السادس من القرن العشرين، وكان احد اركانها الكبار. هذا الانسان المتألق في زمانه، لا يتذكره احد اليوم، وذلك بالرغم من انه صاحب مؤلفات شعرية ونثرية معروفة، ومؤلف «نشيد الشجرة» الرسمي، وكان نائباً لرئيس «جمعية اهل القلم» الشهيرة، ورئيس قلم في «دار الكتب الوطنية» قبلة أهل الأدب والشعر والفكر في ذلك الزمن، وعضواً بارزاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وحامل وسام المعارف من الدرجة الاولى… ابصر محمد يوسف حمّود نور الحياة في سنة 1919، ورحل في سنة 1993، وفي هذا الوقت بالذات، تمرّ 20 سنة على رحيله، فهل يتذكره أحد؟ لعل صاحبنا سليمان بختي ينبري كعادته ويتذكر محمد يوسف حمّود من خلال «دار نلسن» و«دار الندوة»، لان مسيرته بحاجة الى من يبلور تفاصيلها وفك ألغازها!

يومها، كان مكتب محمد يوسف حمّود يعجّ بالزوار، وخصوصاً أولئك الذين يعملون في «دار الكتب الوطنية»، وبسحر ساحر، لم يعد في المكتب غير صاحبه وأنا.
وبالمناسبة، قلت له: أظن ان انشغالك بالوظيفة يحدّ من نتاجك الادبي؟
فقال: «لا شك في ان الانشغال اي انشغال، بالوظيفة او سواها من العمل اليومي يحدّ من نتاج الأديب، خصوصاً اذا كان الادب هواية في وقت الفراغ. اما وظيفتي، فانها، بطبيعتها، لا تحول دون نشاطي الادبي نثراً او شعراً، إلا بمقدار قيود الوظيفة بمحظوراتها. مع انني لا استطيع الانطلاق كما اريد بالتعبير الطلق، فان اكثر ما كتبت ونظمت كان فيما انا موظف هنا، دون ان أهمل واجبي في الوظيفة. ولقد فرضت القوانين على الموظف الامتناع عن كل نشر وقول في كل المواضيع دون موافقة رئيسه… الا ان وزارة التربية الوطنية التي انتمي اليها رفعت هذا الفرض اذ سمحت لموظفيها بالكتابة والخطابة على مسؤوليتهم، باستثناء السياسة والحزبية، حتى تتيح لأهل القلم منهم مجال النتاج. ومع ذلك، أتمنى لو استطيع الاستغناء عن الوظيفة لأتحرر من كل ما يمكن ان يعيق حريتي في التعبير بصدق عن الخوالج والخواطر».

زمن السكوت!
في ذلك الحين، كان محمد يوسف حمّود، شبه ساكت، لا يكتب ولا يتحدث الا قليلاً، وكأن هناك ازمة فكرية تنتابه!
ولذلك سألته: لماذا نحن لا نقرأ لك في هذه الايام، ولا نسمعك كالعادة، أكان في الصحف او في الاذاعة؟
بادرني بالقول: «ان السكوت الذي انا فيه منذ سنوات – ولعله ابلغ – عائد الى حالة نفسية انا فيها، ولست ادري حتى متى ستدوم… منذ ما اصبح الفكر بأزمة في بلدي، ومنذ ما انتابتني خيبة نفسية مريرة في تجربة حياتية مصيرية كبرى، ومنذ ما تكاثرت عليّ صوارف العيش وصروفه في مجتمعي، – منذ ذلك الحين – وأنا في سكوت الفراغ أتثاءب ذكريات وجيعة توحي إليّ بمذكرات، او بقصة طويلة، بكتاب عنوانه «كفرت بأمتي»!
ولست ادري ما اذا كان قد كتب هذا الكتاب؟!

لا عودة الى الماضي
وهنا، حاولت ان اعرف ما وراء هذه الحالة النفسية التي يعاني منها، فقلت له: هل لك في الافصاح عن اسباب هذه الحالة المؤسفة؟
فأجابني باختصار كلي: «اعذرني، فاني لا اريد العودة الى ذاك الماضي، لا اريد نكء جراحي»!
ولم اكتف بهذا الجواب المقتضب، فطرحت عليه السؤال بشكل آخر: هل لك في قصيدة من شعرك في بعض هذا الماضي؟ فهز رأسه بالايجاب، وأسمعني بعض الابيات من قصيدة بعنوان: «ما كان عندنا» التي نشرتها – يومها – كاملة مع الحديث.

مؤلفات قبل الاعتزال!
وكما سبق وذكرت، فان محمد يوسف حمّود كتب الشعر والنثر معاً، كتب القصيدة والرواية والمقالة… قبل ان يسكت!
وعندما سألته عن المؤلفات التي كان قد كتبها في تلك المرحلة، قال لي: «باكورة نتاجي الادبي كان «يوسف» رواية حوارية طويلة، وفيها – دون ان تطغى الفكرة على الفن – كيف تآمر جدود اليهود الاسباط الأحد عشر على أخيهم الطفل ورموه في البئر ليقضوا عليه! ثم «ذلك الليل الطويل» وفيه مجموعة من مقالات اتجاهية بأسلوب ادب التقية. و«زورق الحياة» وهو مجموعة من شعري الوجداني في وطن وحب… ثم مجموعة من مقالات الصراع القلمي في معركة صحافية، طبعتها «دار المعرفة» بعنوان «هتاف الجراح»، ولم أصدر بعدها اي كتاب، وان كنت لم انقطع تمام الانقطاع عن النتاج، على رغبة مني في الاعتزال حتى اشفى ممّا ألمّ بي»!

مصابيح المحبة
ترى، ما هي هموم الاديب اللبناني في تلك المرحلة من تاريخ لبنان، وكذلك هموم الاديب العربي عموماً… هل تختلف عن هموم اليوم، بعد مرور اكثر من نصف قرن؟
يومها سألته عن مهمة الاديب اللبناني والعربي معاً، فقال: «مهمة كل مواطن في اضاءة مصابيح المحبة
 واطفاء نيران العداوة، في الدعوة الى التماسك الوطني بواقع المتحد الاجتماعي في لبنان، وفي تمني الخير لأبناء العروبة في دنياهم الناهضة نحو الافضل… وذلك بالقلم واللسان، بالكتابة والخطابة والمحاضرات التوجيهية، إسهاماً من الاديب في النهضة الحياتية الواعدة. واذا جاز لحملة الاقلام في العالم العربي الابتعاد عن مسائل السياسة ومشاكلها للانصراف الى فنون الادب، فان الوطنية تدعوهم دائماً الى الواجب الوطني الذي يجند الجميع عندما يدعو الداعي، وقد دعا، لصد اخطار ليس أبعدها خطر الحرب الافنائية، ولخطر اعتداءات اقربها، اعتداء اسرائيل الاخطبوط المتمادي… واني لأعجب كيف لم تستثر كارثة فلسطين، وبطولات الجزائر، وتحديات مصر، وانتفاضات الشام والعراق والاردن، كيف لم تستثر بعد ملاحم الشعر وأناشيد الملاحم!».

 لا يثبت سوى الأجمل
كان محمد يوسف حمّود ينظر الى الادب نظرة فيها الكثير من الفهم والصدق، وفي رأيه، ان الادب لا يمكن حصره ضمن اطار معيّن، فهو كالحرية، ابوابه مشرعة امام كل التجارب وكل الموضوعات… ولذلك، عندما سألته: هل انت من انصار الادب الملتزم او الحرّ، القديم او الجديد؟جاءني الجواب بوضوح تام، لا لبس فيه ولا غموض، فقال: «ليس هناك ادب ملتزم وغير ملتزم. حرّ وغير حرّ… هناك ادب في اي موضوع كان، وبأي اسلوب، في الوطنية والمناقبية والقيم، كما في الاباحية والوجودية والاستهتار. بالاسلوب الاتباعي التقليدي العتيق او بالاسلوب الابتداعي المتفلت الجديد. هناك ادب صادق يعبّر عن الذات بأعماقها وانفعالاتها في شتى مجالات الحياة ومتطلباتها وانطباعاتها ومعطياتها. وليس جديداً القول ان ادب كل أمة إنما يمرّ بتجارب، ويتعرّف الى مدارس، ويشهد صراعاً مستمراً بين ما يسمى الجديد والقديم… وان في كل ظاهرة من ذلك تعبيراً عن حقيقة حيوية الأمة، وجدوى لا نكران لها. ولا يثبت سوى الأجمل».

بين الفعل والانفعال
وانتقلت الى موضوعات وقضايا اخرى، وفي مقدمتها، مدى مساهمة الاذاعة والتلفزيون في لبنان، في النهضة الادبية؟
في رأيه «لقد اعتاد الناس على اعتبار الاذاعة ميكروفون دعاية لبنانية. والواقع ان الاذاعة دعوة لا دعاية. ومن هنا تمنياتنا ليحتل الادب في برامج الاذاعة اللبنانية مجالاً ارحب على مستوى اسم لبنان. اما التلفزيون فانه يتعهد اهمال الادب، ذلك لانه يستجيب لرغبة في اللهو لدى المشاهدين. وعندما تفعل مناهج الاذاعة والتلفزيون بالمواطنين اكثر مما تنفعل بهم – عند ذلك – نستبشر خيراً بها، ويأخذ النتاج القلمي المبدع طريقه اليهما باحترام متبادل».

الكتاب رغيف المعرفة
وكان لـ «دار الكتب» ايضاً، سؤال وجواب، وهو الذي كان يحتل المركز المرموق في هذه المؤسسة الفكرية والوطنية.
قلت له: هل أنت راضٍ عن وضع «دار الكتب» هذه؟
فقال: «اذا كانت، كما هي فعلاً، دار الكتب اللبنانية الرسمية الوحيدة في لبنان، فانها هزيلة لا تليق بهذا الوطن العريق في تاريخ الحرف وشهرته في عالم الكتاب، يجب على الدولة ان توليها عناية افعل، فتنشىء لها البناء المرتقب المتكامل بهندسته واقسامه ليكون لجميع محتوياتها ومتطلباتها الفنية المتطورة، وتعيد النظر في ملاكها ليكتمل بكفاءات الموظفين من اهل المعرفة وبعددهم الكافي».
ويرى، «ان لدار الكتب – غير كونها مجمع الكتب ومدرّس الطلاب – رسالة توجيهية ثقافية، وهي وجه من وجوه المجتمع الحضاري، وملتقى للباحثين والمؤلفين واهل الفكر والمستطلعين، ومزار لكبار الشخصيات من الاجانب والمواطنين… بهذه النظرة نرجو ان يعاد النظر في هذه «الدار» لحاضرها ولمستقبلها. والكتاب رغيف المعرفة الذي يجب توفيره للشعب بتيسير مطالعته المجانية في مكتبات مطالعة عامة تستحدث في مدن لبنان وقراه، بل وبمكتبات متنقلة في أريافه النائية. وما ذلك على الدولة بعسير في هذا العهد الجاهد لنهضة اجتماعية رائعة بقيادة الرئيس اللبناني الاول الذي تعتبر خطبه  – على قلتها – في المناسبات الكبرى وفي الدعوة الى النهضة الحياتية، من أدب رجال الدولة الرائع».

بليغ إن يقل
ما لفتني – يومئذٍ – انه لم يذكر اسم الرئيس، وكان يعني الرئيس فؤاد شهاب الذي كان يواجه في سنة 1962 تداعيات الحركة الانقلابية الفاشلة التي قام بها الحزب السوري القومي ضد عهده.
فبادرته قائلاً: اذاً، هذا رأيك في خطاب الرئيس؟
فقال: «بليغ ان يقل، وابلغ من بلاغته السكوت»!

الشاعر الاول
وكان سؤالي الاخير له ، الذي يعود تاريخه الى شهر ايار (مايو) سنة 1962: من هو الشاعر الاول اليوم في لبنان؟
فقال لي: «ايليا ابو شديد بشاعريته التي تحسد الفصحى عليها العامية»!
وهنا، توقف الحوار بيني وبين محمد يوسف حمّود على حين غرة، بعدما دخل العديد من موظفي «الدار» الى مكتبه، وقد طال انتظارهم…

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق