العراق: «حرب المساجد» تضرب ضربتها المرعبة

الميدان والمسرح السياسيان في العراق، يشهدان منذ ايام قليلة، تسارع احداث وتراكم عمليات حشد وحقن وتعبئة على نحو يجعل مراقبي الشأن العراقي يضعون ايديهم على قلوبهم، خشية ان تكون كل الظروف والمقدمات قد هُيئت لعودة حالات الاحتراب الاهلي، التي شهدها العراق على مدى نحو ثلاثة اعوام اي خلال الفترة الممتدة بين 2005 و2007.
السؤال المطروح بإلحاح: هل ان السيف سبق العذل، وبالتالي بلغت الامور درجة من التعقيد باتت من الصعوبة بمكان اعادتها الى حالتها السابقة، ام ان الاوضاع ما زالت تحت السيطرة وان كل ما تمارسه الحكومة العراقية وما تقوم به المعارضة التي ترفض مغادرة شوارع وميادين الاعتصام المستمرة فيها منذ نحو خمسة اشهر بلا انقطاع، وتصر على التصعيد، انما تسعى لبلوغ مطالب معينة، وفرض معادلات بحد ذاتها؟
السؤال طرح في الايام القليلة الماضية بعدما شهدت منطقة الانبار وعاصمتها الرمادي سلسلة احداث امنية تعطي انطباعاً اولياً فحواه ان الامور خرجت عن نطاق السيطرة والتحكم. فقد عاشت هذه المحافظة المترامية الاطراف والتي تعتبر معقل حركة الاعتراض على حكومة نوري المالكي، ومركز الثقل الاساسي لكل الذين يعتبرون انفسهم متضررين من حكومة المالكي ومن التركيبة السياسية التي تحتضنها، عاشت على وقع احداث خرجت الى حد ما عن نطاق المألوف في المواجهة المتوالية فصولاً بين اجهزة وقوات السلطة وقوى المعارضة التي رفع بعض اركانها وقياداتها السلاح في وجه قوات السلطة، وبادروا الى منعهم من اداء مهماتهم، لا بل انهم بادروا الى خطف مجموعة من افراد الشرطة وقوى الامن وحاصروا مراكز امنية وانذروا وحدات الجيش بوجوب مغادرة المدينة، فيما اعلن احد زعماء العشائر المحسوبين على قيادات المعارضة علانية ما اسموه «الحرب على الجيش العراقي».
مواجهات مسلحة
وبالطبع ليست المرة الاولى التي ترد فيها الانباء عن اشكالات ومواجهات بين المتظاهرين المعتصمين احتجاجاً على اداء حكومة بغداد، فقد سجلت اكثر من مواجهة بالسلاح وغير السلاح وسقط بنتيجتها عشرات الضحايا بين قتيل وجريح، وكان ابرزها الهجوم الشهير الذي قامت به قوات الامن العراقي على المعتصمين في ساحة بلدة الحويجة بالقرب من الموصل قبل نحو اسبوعين، والهجوم الذي اعده مسلحون على دورية امنية تابعة للجيش، مما اسفر عن مقتل خمسة عناصر ما برحت تطالب الجهات المعنية بتسليم المتهمين بقتلهم وترصدهم وتلاحقهم.
لكن العنصر الاكثر خطورة ودراماتيكية في مشهد الاحداث الاخيرة المتسارعة والمفتوحة على اكثر من احتمال، انها تندرج في سياق سلسلة تطورات سياسية وامنية دراماتيكية تنطوي على الكثير من المعاني والابعاد. فهذه الاحداث الامنية اتت بعد مناخات ايجابية اشاعتها انباء مفادها ان الزعيم الروحي الابرز للمعتصمين والمعارضين في الانبار ونينوى وسواهما، الشيخ عبد الملك السعدي، شرع في مبادرة جديدة تحت مسمى مبادرة «حسن نيات»، للتهدئة واعادة الامور الى نصابها ومن عناوينها العريضة:
– مبايعة زعماء ووجهاء التحرك والاعتصام له ليكون ناطقاً بلسانهم في التفاوض مع حكومة المالكي، لتحقيق المطالب المرفوعة منذ بداية الحراك والتي استجدت لاحقاً.
– تأليف لجنة حوار مع الحكومة تدرس مبادرة السعدي.
وقد بادرت حكومة المالكي الى تلقف هذه المبادرة، وبالتالي شرعت في درسها على ان تحدد موقفها النهائي بعد فترة، خصوصاً ان حكومة بغداد كانت حتى وقت قريب تعتبر انها قامت بما هو مطلوب منها، وانما اجابت بشكل او بآخر على قسم من المطالب التي يرفع لواءها المعارضون، عبر لجنة حوار شكلت لهذه الغاية وهي بدأت فعلاً بفتح ابواب التحاور مع جهات وقيادات معارضة.
وفي كل الاحوال، بدا واضحاً ان مبادرة السعدي ضخت موجة عارمة من التفاؤل والايجابية، خصوصاً ان الامور كانت حتى حينها قد وصلت الى الحائط المسدود، فالمعارضون صعدوا من وتيرة خطابهم ومنسوب مطالبهم الى درجة انهم بدأوا يتحدثون صراحة عن المطالبة بإقليم مستقل للمحافظات التي هي في حالة تمرد وعصيان على حكومة المالكي، وذلك تحت شعارات وحجج شتى، وهذا يعني تحولاً جذرياً في مسار حراك المعارضة وفي نوعية الشعارات التي ترفعها والاهداف التي تسعى الى تحقيقها.
سلبية المالكي
وفي المقابل، فإن حكومة المالكي بدأت تتعاطى بسلبية مطلقة مع الموقف، وتتعامل مع المعتصمين والمتظاهرين على اساس انهم «متمردون» على النظام العام وانهم يهيئون للانقلاب المسلح على الامن والاستقرار، ولم يهبوا لتحقيق مطالب معينة، حتى ان المالكي وصف في بعض المراحل المعتصمين بأنهم يتعاونون مع تنظيم «القاعدة» الارهابي وحزب البعث المحظور والمنحل، وانهم صاروا واجهة لهذين الطرفين، لا بل انه اعتبر تحركهم اخيراً، غطاء لاعمال الارهاب والقتل ذات الطبيعة الطائفية والمذهبية، التي بدأ منسوبها يرتفع في الساحة العراقية خلال الاشهر القليلة الماضية.
واكثر من ذلك، بدأ الفريق الاخر اي فريق المالكي والتحالف الوطني العراقي، هجوماً مضاداً تعدى حدود فتح ابواب المواجهات المسلحة مع المعتصمين الى حدود الهجمة السياسية بغية سد السبل واقفال الابواب امام اي «مكاسب» سياسية او امر واقع سياسي معين يسعى المعارضون المعتصمون الى فرضه تحت وطأة الاعتصامات والتظاهرات.
وفي هذا الاطار، كان سعي التحالف الوطني العراقي الى ادراج مشروع قانون عنوانه «تحريم البعث» في مجلس النواب العراقي، بغية اقراره وجعله ساري المفعول.
والواضح ان مفاعيل مثل هذا القانون تتجاوز مفاعيل قرارات هيئة اجتثاث البعث التي شكلت فور سقوط نظام صدام حسين بعد الدخول العسكري الاميركي الى بغداد، والتي تحولت لاحقاً الى هيئة «المساءلة والعدالة».
فبموجب القانون المطروح للاقرار في البرلمان يصار الى حبس كل من ينتمي الى حزب البعث او يروج له او يدافع عنه لمدة قد تصل الى عشرة اعوام.
قانون الازمة
وعليه، فقد سمت «القائمة العراقية» التي تمثل الواجهة السياسية للمعارضة، هذا المشروع بانه «قانون الازمة» فهو بشكل او بآخر يأتي رداً استباقياً من جانب المالكي والطرف السياسي الذي يحتضنه على كل ما يمكن ان يتخذ لاحقاً في البرلمان او الحكومة العراقية لتخفيف القيود على المنتمين سابقاً الى حزب البعث والسماح لهم تدريجاً بالعودة الى حلبة العمل السياسي، وهو احد المطالب التي يرفعها المعتصمون والمعارضون.
والاخطر من ذلك كله، هو ان الاحداث الامنية التصعيدية الاخيرة، تأتي بعيد اندلاع ما صار يعرف في وسائط الاعلام المحلية والغربية بـ «حرب المساجد»، وهي نوع يعد عنصراً جديداً ادخل على المسرح العراقي، اذ بعد كل انفجار امام مسجد احياء او حسينيات لشيعة يسقط عشرات ضحايا انفجارات متعددة امام مساجد سنية، وحسب احصاءات اولية، فهذه الحرب الخطيرة ادت وخلال نحو شهر الى انفجارات امام اكثر من مئة مسجد لكلا المذهبين، مما اوقع اكثر من 300 شخص بين قتيل وجريح.
خطورة الامر انه يعيد الى الاذهان صوراً مأساوية لسني المواجهات التي اوشكت ان تتحول الى حروب مذهبية لكنها وضعت اوزارها خلال فترة قصيرة نسبياً بفعل جهود مضنية من قيادات كل الاطراف، فاعتبر ذلك مؤشراً لا يرقى اليه الشك على ان العراقيين على اختلاف انتماءاتهم وميولهم، لا يريدون فعلاً الانزلاق الى مستنقع الحرب الاهلية، وانهم يريدون ان يتركوا فرصة للتفاهم وايجاد قواسم مشتركة.
وابعد من ذلك، فإنه في عزّ السنوات العجاف تلك، برزت مجالس الصحوة التي اتت كردة فعل من سكان المحافظات والمناطق ذات الاكثرية السنية، ترفض ممارسات تنظيم «القاعدة» ومخططاته الرامية الى تكريس دويلة ذات قبضة دينية، لا سيما بعد ان فتحت هذه المجالس مع هذا التنظيم ابواب المواجهات والاشتباكات العسكرية.
رغبة بالعيش المشترك
وفي تلك السنوات المأساوية، رفضت الشريحة الكبرى من شيعة المحافظات في جنوب العراق، دعوة اطلقت لاقامة اقليم مستقل لتلك المحافظات. كل ذلك يقدمه العراقيون على انه دليل على رغبتهم في تجنب الحرب الاهلية وبرهان على رغبتهم بالعيش المشترك في وطن واحد.
واللافت انه بعد مضي اكثر من 6 اعوام على هذه الاحداث وبعد ان قطعت العملية السياسية في العراق شوطاً بعيداً متقدماً، تقع احداث «حرب المساجد» في انحاء مختلفة من العراق بدءاً من العاصمة ومروراً بمناطق قصية، ويخشى الناس من الذهاب الى بيوت الله لتأدية شعائرهم الدينية بأمن وامان، وتصير دورالعبادة الاسلامية عنواناً للاشلاء المرمية والدماء المسفوكة التي تروي اسفلت الشوارع، وهو امر وصفه ممثل الامين العام للامم المتحدة في العراق مارتين كوبلر بأنه فاق حد عدم القبول به وان العراق يتجه نحو المجهول.
وفي الوقت نفسه، تعود الى الواجهة نغمة التحذير من اندلاع الحرب الطائفية اكثر من اي وقت مضى، وعزا المالكي المشهد المأساوي كله الى ما اسماه «الحقد الطائفي»، محذراً من «نزاع طائفي جديد وحرب لا نهاية لها»، وهذا دليل اضافي على ان ثمة استشعاراً بأن هناك محاولة دؤوبة بغية اعادة انتاج مرتكزات العنف داخل النفس العراقية، وبالتالي سد المنافذ امام فرص التسوية وامكانات التفاهم التي كانت في السابق تبرز دوماً حتى في احلك الاوقات، واشد الظروف قساوة.
ولا شك في ان هناك من يرى ان ثمة من يريد فرض «توازن رعب» علّ ذلك يفتح الابواب الموصدة امام طاولات الحوار والتفاهمات بحثاً عن قواسم مشتركة، تعيد الامور الى مجراها الطبيعي او مجالها المعقول.
واصحاب هذه النظرية يذكرون بأنه خلال السنوات العجاف او سنوات «الحرب» الممتدة بين عامي 2005 و2007، وجد جميع الاطراف انفسهم امام مشاهد مرعبة فمهد ذلك الطريق الى مربع التفاهم والحوار.تلك فرضية وتقابلها بطبيعية الحال فرضية اخرى.
ابرهيم بيرم