سياسة عربيةلبنانيات

الحوار: خلاصات ضعيفة وباهتة ولكن… إعلان الفشل ممنوع

الاستنتاج الأساسي الذي يمكن الخروج به استناداً الى وقائع ومداولات جلسات الحوار الوطني الثلاث في مقر رئاسة مجلس النواب في عين التينة هو أن هذا «المؤتمر» ليس قادراً ولا مؤهلاً لإحداث اختراق في أزمة رئاسة الجمهورية لأسباب كثيرة تبدأ بالربط الداخلي القائم بين الملف الرئاسي والسلة الكاملة وفي صلبها قانون الانتخاب… وتنتهي بالربط الإقليمي القائم بين الملف اللبناني وأزمات المنطقة… ولكن عدم وصول «ثلاثية الحوار» الى اتفاقات وتفاهمات محددة لا يعني توقف الحوار ونهايته عند هذا الحد. فإذا كان الاتفاق متعذراً، فإن الفشل ممنوع. وإذا تحقق الفشل مع الوصول الى طريق مسدود، فإن إعلان هذا الفشل ممنوع… وهناك طرق عدة لتفادي مثل هذا الإعلان ولإبقاء نافذة الأمل مفتوحة سواء بتحديد موعد لجولة حوارية ثانية أم بتشكيل لجنة مصغّرة تمثل أقطاب الحوار وتُكلّف مهمة الخوض في غمار كل الملفات بدءا من قانون الانتخاب…
انطلاقة الحوار جاءت ضعيفة وباهتة، وخلا اليوم الأول من المفاجآت وافتقدت مداولاته الى عناصر التشويق والإثارة، حيث لازم كل طرف موقعه و«تمترس» خلف طروحاته. وبدا أن لحظة الانتقال الى ضفة التسوية واتخاذ القرارات الصعبة لم تحن بعد… أما أبرز الاستنتاجات والخلاصات السياسية فهي:
1- المناقشات جرت في أجواء أكثر جدية وأكثر تهيباً للموقف، وساهم في ذلك الكلام التحذيري الذي أطلقه الرئيس نبيه بري في مستهل الجلسة مشيراً الى «وضع خطير في الداخل والخارج» والى «فرصة قد تكون أخيرة للتوافق» والى «حتمية الاتفاق على حل شامل للأزمة من خلال سلة متكاملة»، وهذا الحل يبدأ بانتخاب رئيس.
2- برز خلاف أولويات بين المستقبل وحزب الله: الأولوية لدى المستقبل (السنيورة) هي لانتخاب الرئيس أولاً وللاتفاق على رئاسة الجمهورية قبل أي شيء آخر… والأولوية عند حزب الله (رعد) هي للاتفاق على سلة متكاملة يجري على أساسها انتخاب الرئيس. السنيورة طرح انتخاب الرئيس كمفتاح أساسي لحل كل العقد والمشاكل… ورعد طرح الاتفاق كشرط لانتخاب الرئيس…
3- الاقتراحات الجديدة في شأن الملف الرئاسي جاءت من تيار المستقبل حصراً وبرز اقتراحان: الأول جاء من نائب رئيس المجلس فريد مكاري باقتراح سلة أسماء مرشحين، ثلاثة على الأقل، هم عون وفرنجية وثالث لانتخاب واحد منهم رئيسا… والثاني جاء من السنيورة مقترحا انتخاب رئيس توافقي ومبدياً الاستعداد لتخلي المستقبل عن فرنجية إذا حصل توافق على الرئيس… وهذا الكلام أثار استغراب فرنجية لمجرد أن المستقبل صار في وارد التخلي عنه، ولو لم يكن ذلك لمصلحة عون وإنما لمصلحة الخيار الثالث… وجاء رد فرنجية مقتضباً بالتأكيد على بقائه في السباق الرئاسي وعدم استعداده للانسحاب إلا في حالة واحدة هي حصول اتفاق وإجماع على الرئيس الجديد. وفي النتيجة عاد كل طرف الى موقعه ومربعه: السنيورة أعاد التأكيد على تمسك المستقبل بفرنجية، ورعد أكد أن عون كان ولا يزال مرشح الحزب الى الرئاسة…
4- أمام وصول البحث في الملف الرئاسي الى «اللاشيء» وإعلان جنبلاط أن «الرئاسة بعيدة وهناك عقبات وعراقيل»… تحول التركيز في اتجاه قانون الانتخاب وإحداث خرق في هذا المجال، لأن الخرق هنا ممكن وأيضاً مهم في دفع التسوية الى الأمام. والاتجاه هو الى تقديم قانون الانتخاب على الرئاسة، فإذا كان الاتفاق على الرئيس صعباً، فإن التوافق على قانون الانتخاب أقل صعوبة، وسيكون مفتاح الحل لكل الملفات الأخرى… وابتداء من اليوم سيكون قانون الانتخاب محور النقاش استنادا الى أفكار جديدة سيطرحها بري.
وبخلاف المناخ السلبي الذي تركته الجلسة الأولى، اتسمت الجولة الثانية بنقاش جدي هو الأعمق على امتداد الجلسات الـ 21 التي عقدتها هيئة الحوار الوطني منذ انطلاقها.
وما يميز هذه الجلسة أنها للمرة الأولى تشهد توافقاً صريحاً على الدخول الجدي والعملي في بحث تطبيق بنود وثيقة الطائف ودستورها، لا سيما انتخاب مجلس شيوخ وتطبيق اللامركزية مع انتخاب مجلس نيابي على أساس وطني يراعي في الوقت نفسه المناصفة في عدد النواب بين المسلحين والمسيحيين. وقد لعب الرئيس بري دوراً مهما في فتح هذا المسار ووضع الأمور على السكة. واستعان بتفسير دستوري كان عرضه للبطريرك صفير في مراحل سابقة، وهو ما نصت عليه المادة 22 التي تشير الى التلازم بين انتخاب مجلس النواب وموضوع مجلس الشيوخ. وأخرج من جعبته هذه الفكرة التي ترمي الى وضع قانون لمجلس الشيوخ وصلاحياته التي تتركز حول المسائل المتعلقة بالطوائف، وبالتالي يعطي هذا المجلس ما يشبه الضمانات ويطمئن الهواجس لدى الطوائف ويساعد على تعزيز القناعة بإقرار قانون انتخابات نيابية على أساس وطني.
ودفعاً للمزيد من الإيجابية، أضاف رئيس المجلس بند اللامركزية الإدارية والى حد تحويل هذا الملف الى مجلس النواب. واللافت أن إجماعاً برز على الإصلاحات الدستورية الضرورية لتطوير النظام ومنها اللامركزية الإدارية، ولم يعارض أحد هذه العناوين. ولعل الاختراق الخجول الذي تحقق، كان بانتقال هذا الملف الشائك منذ أعوام إلى مجلس النواب.
أما النقطة المتعلقة بانشاء مجلس الشيوخ، فحصلت حولها نقاشات واسعة بين فريقي 14 آذار و8 آذار. الفريق الأول أيد ما اعتبره «تدبيراً إصلاحياً يمكن أن يحرر مجلس النواب من القيد الطائفي، وأن يساعد المناطق أيضاً في الإنماء والتحرر عبر تطبيق اللامركزية الإدارية»، وعلى رأس هذا الفريق الرئيس السنيورة والوزير حرب والنائب الجميل، إنما برز تخوف من «تمييع» الاستحقاق الرئاسي، وسط طرح هذه العناوين. لذا كان إصرار على اعتبار انتخاب الرئيس أولوية مطلقة، يبدأ منها تنفيذ كل العناوين الإصلاحية الأخرى. أما الفريق الثاني، فرأى أن «هذا الأمر يفتح الباب أمام اعتماد النسبية الكاملة وربما اعتماد لبنان دائرة واحدة».
على رغم الكوة التي يصر بري على توسيعها في جدار الأزمة، يبدو جلياً صعوبة اختراق المواقف المتصلبة للأفرقاء المعنيين مباشرة بالرئاسة، إذ إن كل طرف يقف على سلاحه. فالمتحاورون حاولوا الإيحاء أنهم نجحوا في إنجاز البحث في «المشروع الحلم» الذي هو اللامركزية الإدارية عبر تحويله على مجلس النواب، إلا أنهم في العمق هربوا عبر هذه الديباجة من المشكلة الحقيقية التي يشكل مفتاحها الوحيد: انتخاب رئيس للجمهورية.
«العبرة في الخواتيم» قالها الرئيس نبيه بري في افتتاح الجلسة الثالثة، لكن الخاتمة كانت «صفر الوفاض، خالية وعقيمة»، على ما قال أحد النواب المشاركين في الحوار، على رغم استغراقها وقتاً أطول من الجلستين السابقتين، لعلها تخرج بإنجاز يؤسس عليه.
فكما دخل المتحاورون إلى الجلسة الأولى خرجوا في الثالثة منها، من دون إحداث أي خرق يبنى عليه، فأسقطوا الرئاسة مرة جديدة وألحقوا بها قانون الانتخاب، وهربوا إلى الأمام، باستحضار ملف إنشاء مجلس للشيوخ بعدما غيّب في الأدراج أكثر من 25 عاماً، فأسقط هو الآخر. والإيجابية التي سجلت في الجلسة الأولى حيال إمكان تحقيق إنجاز في الإصلاحات الدستورية والبناء عليها في وضع قانون انتخابي جديد، تبددت أمس، ليعود الخلاف على الأولوية، فأخفق المتحاورون في تشكيل لجان لمتابعة البحث في صلاحيات مجلس الشيوخ ودوره، وورش عمل لدرس قانون انتخاب وطني يحفظ قاعدة المناصفة وفق النسبية الكاملة، ومجلس شيوخ مذهبي وفق القانون الأرثوذكسي يضمن حقوق الطوائف، كما سرب في الجلسة الماضية. ولجأوا إلى اعتماد تخريجة جديدة لإخفاء الفشل فضربوا موعداً جديداً لجلسة حوارية في 5 أيلول (سبتمبر) المقبل، على أن يسبقها إجراء مشاورات وتواصل بين القوى السياسية التي تمثل فرقاء طاولة الحوار، وتحضير الأفكار، لتشكيل لجنة من اختصاصيين وخبراء وفنيين، تطرح أسماؤهم على الفرقاء المتحاورين لتمثلهم في اللجنة لمتابعة موضوع مجلس الشيوخ وكيفية تنفيذه إضافة إلى قانون الانتخاب.
وفي تقويم ما جرى في ثلاثية الحوار والنتائج التي انتهت إليها رأى المراقبون:
– أنها ليست المرة الأولى التي يجلس فيها المسؤولون على طاولة حوار، لمحاولة إيجاد حلول للأزمة اللبنانية. فمنذ حوارات العام 2006، لا يزال الأقطاب أنفسهم يتحاورون فيما الأزمة مستمرة.
لم تكن ثلاثية الحوار مثمرة لجهة النهايات المرسومة لها، بل ضاعت عنها الأهداف الأساسية، لتطاول قضايا أخرى، ما جعل الصورة أكثر وضوحاً بأن لا حلحلة قريبة في الملف الرئاسي وبقية الملفات الخلافية.
– على عكس ما استرسل به المشاركون في الحوار مدى ثلاثة أيام من تخيّل إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة، هناك عوامل عدة تشكل معضلات لا يمكن في ظلها إرساء هذه التسوية، أبرزها: عدم توافر مناخ دولي وإقليمي لانتخاب رئيس للجمهورية (مع اشتراط بعض الأطراف أن يكون هذا الملف هو البند التنفيذي الأول الذي يسبق كل البنود)، وتشبّث كل طرف بموقفه، ما يجهض كل توافق.
– الحوار بلا نتيجة سوى دفن الملفات في مقابر اللجان وترسيخ القناعة بأن القوى السياسية لن تقر أي قانون جديد للانتخابات ليبقى قانون الستين سيد القوانين.
– عملياً، ضيّعت القوى السياسة وقتها ووقت المواطنين، فعلى مدى ثلاثة أيام عجزت عن جعل خياراتها تأخذ بعداً وطنياً، ولم تكن مداولاتها سوى محاولة لإنتاج تفاهمات تعيد من خلالها تقاسم السلطة تبعاً لما تفرضه موازين القوى.
– في ختام الثلاثية، تظهرت الفروق بوضوح بين فريقي 8 و14 آذار. الفريق الأول، وتحديداً حزب الله يحاول الشد نحو رفع حظوظ النسبية الكاملة وإطالة أمد الفراغ الرئاسي، بحيث لا يشير الى أولوية رئاسة الجمهورية، ولا يساعد في الاتفاق على الأسماء، ولا حتى في إعلان ترشيح العماد ميشال عون علناً. وهو بهذا الطرح يحاول الإيحاء أن الفريق الآخر يرفض الاصلاحات الأساسية ولا يريد تطوير النظام اللبناني، ولعل هذا ما دفع عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب علي فياض الى التصريح علناً: «ثمة من يضع قنابل متفجرة في طريق الإصلاح السياسي»، رافضاً نعي الحوار.
على المقلب الآخر، أي على مستوى فريق 14 آذار، فهو لا يزال يتمسك بأولوية الانتخابات الرئاسية، رافضاً تمييع الاستحقاقات الداهمة، سواء كانت رئاسية أو نيابية، ولا سيما أن الوقت بات داهماً. ثم إن هذا الفريق، وفي مقدمه الرئيس فؤاد السنيورة، لا يميل أساساً الى النسبية الكاملة، ولطالما رفع الشعار ضدها، وبالتالي لا يزال لديه شكوك أو مخاوف منها، حتى ولو مررت مع انشاء مجلس شيوخ يراعي حقوق الطوائف. والأهم عند هذا الفريق، أن هذا «القفز» في العناوين التي «نامت» أصلاً منذ عشرات الأعوام، لا يدل على أن ثمة جدية في حل المعضلة الأساسية، بل أن هناك سعياً للهروب الى الأمام، أو الى فشل آخر. وهذا ما دفع برئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل الى القول: «نرفض الهروب من الديمقراطية والاستحقاقات، ولا أحد يزايد علينا في عناوين إصلاحية».
– على رغم الخلافات في الرأي بين بعض المتحاورين أو تحفظات البعض، فإن أحدا لم يتجرأ على التلويح بالخروج من الحوار، لا بل إن الجميع حرص على السير به لأن لا بديل عن ذلك سوى المزيد من الفراغ والفوضى.
وكان لافتاً تعمد الرئيس بري على مدى الجلسات الثلاث تكرار مقولة إن الرئاسة، بحسب اعتقاده، «من الآن وحتى نهاية السنة ستكون محلولة»، مضيفاً بالأمس عبارة تؤشر الى جديته بقوله «هذا ليس مجرد دعاء».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق