مهرجانات بعلبك الدولية في ضيافة خان الحرير الأثري

من مدينة الشمس، من ادراج بعلبك، من معابد جوبيتر وباخوس وفينوس، الى خان الحرير في منطقة جديدة المتن، حكاية قرار صعب استثنائي عنوانه «المقاومة الثقافية» و«اللا استسلام» يرسو على خيار «حزين» كان لا بد منه بين خيارين لا ثالث لهما: اما الغاء مهرجانات بعلبك الدولية لعام 2013 واما الاستمرار، لكن في مكان آخر بعيداً عن تلك الهياكل، وهذا ما كان. مشت اللجنة المنظمة لمهرجانات بعلبك «مجبرة حزينة» في الخيار الثاني مخيرة بين السيىء والأسوأ.. فكيف ستكون مهرجانات بعلبك الدولية بعيداً عن ادراج بعلبك؟ واي سحر في ذاك الخان توَّجه مكاناً بديلاً ولو «استثنائياً» لعظمة تلك الهياكل؟
ورشة ضخمة على قدم وساق تحضيراً لحدث «استثنائي»، لمهرجان ليس ككل المهرجانات، ينطلق استثنائياً في ظروف ومكان استثنائيين… اسبوعان بعد وتنطلق مهرجانات بعلبك الدولية للعام 2013 لكن بعيداً عن ارضها وعن ادراج تلك القلعة الاثرية الرومانية، في هجرة قسرية هي الثالثة من نوعها تسجل في تاريخ تلك المهرجانات العالمية لتحط رحالها في افياء خان الحرير الاثري، عثماني الطراز، يطل علينا فجأة من زمن غابر، يقولون من القرن التاسع عشر، يوم كانت غابات اشجار التوت في قرانا ومدننا جنات على مد النظر. ولانتاج الحرير في لبنان حكايات وعصر ذهبي استولد ازدهاره 200 معمل للحرير، تمددت خيوطها من لبنان لتغذي اشهر معامل غزل الحرير في ليون الفرنسية وانطاليا التركية وغيرهما من مدن العالم، وكان اكبرها ذاك الخان المعروف اليوم باسم “La Magnanerie”. خان مهجور منسي منذ عقود وعقود، انبعث فجأة من التاريخ، وفجأة ومنذ حوالي السنة وقع البيروتيون تحت سحره وذاع صيته مكاناً راقياً لتنظيم ارقى المناسبات الاجتماعية والثقافية والتجارية الاعلانية، وها نجمه التاريخي الاثري يسطع اليوم مفاخراً متباهياً مكاناً بديلاً لمهرجانات بعلبك الدولية لعام 2013.
عصر الحرير الذهبي
ما كان لهذا المعلم الاثري الساحر ان يرى النور مجدداً لولا قرار واصرار تلك الشابة المغتربة بالعودة الى ارض اجدادها وآبائها، وفي البال احياء وترميم ذاك التراث، هي ميشيل غانم حفيدة مالك ذاك المكان، تروي بلغة لبنانية مطعمة بالفرنسية – وبفخر – حكاية الخان الاثري، وبين حجارته وقناطره واروقته الاثرية تتوالى فصول تاريخ صناعة الحرير في لبنان وامجاده.
الى القرن التاسع عشر، وتحديداً الى العام 1850، يعود تاريخ تشييد ذاك الخان الذي تحول الى مركز تجاري وتاريخي مهم جداً في المنطقة، فهذا البناء العثماني الأثري الذي كان محاطاً بمساحات شاسعة واسعة من بساتين التوت المغذية لدودة القز، كان واحداً من بين 200 خان للحرير انشئوا جميعاً على الطراز العثماني في مناطق مختلفة من لبنان، مسجلة «العصر الذهبي» لازدهار تجارة الحرير فيه، وكان خان الحرير في سد البوشرية اكبرها واكثرها ازدهاراً. وكما تروي ميشيل غانم “ساهمت مدينة «ليون» الفرنسية في ازدهار هذه التجارة، اذ نظراً لكثافة بساتين التوت في لبنان، عملت ليون على انشاء مشاغل الحرير فيه لتشتري منتجاتها.
وفيما كان عمل الحرير يقوم على مرحلتين: مرحلة قطاف دود القزّ واستخراج الخيط، ومرحلة غزل خيط الحرير، كانت خانات الحرير في لبنان تتولى مهمات المرحلة الأولى، أي قطاف دود القزّ وتنظيفه ليصبح خاماً، فيتمّ في ما بعد غزل الخيط وصنع الحرير منه ليصار في مرحلة ثانية الى تصديره بنسبة 90 في المئة منه عبر مرفأ بيروت الى مدينة ليون حيث يصار الى غزل الخيط وصنع الحرير. وما تبقى يصدر الى أنطاليا في تركيا لصناعة السجاد.
ازدهار تجارة الحرير في منتصف القرن التاسع عشر اتى على لبنان بمردود اقتصادي كبير ادى لاحقاً الى انشاء أول مصرف تجاري في لبنان لدعم هذه الصناعة وتصديرها، مسجلاً بذلك مرحلة تاريخية مهمة ادخلت لبنان عصر الاقتصاد الحديث.
من الحرير الى التبغ فالانكفاء 30 عاماً
بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية، شهد العالم ثورة الحرير الاصطناعي، والنتيجة تراجع صناعة الحرير الطبيعي ما ادى الى التوقّف عن إنتاجه في بداية القرن العشرين، وهكذا توقف الخان عن الانتاج ليتحول معملاً للتبغ. تحول استلزم بعض التغييرات الهندسية على هذا الموقع تتلاءم اكثر مع متطلبات التجارة الجديدة، كما سجل تراجعاً كبيراً في عدد خانات الحرير في لبنان عاماً بعد عام ليصل في يومنا هذا الى عشرين خاناً للحرير في كل انحائه.
عام 1960 اشترى جدّ ميشيل غانم خان الحرير الاثري في سد البوشرية الذي صار معملاً للتبغ من عائلة فرنسية «وفق ما تشير إليه الأوراق التي وجدناها» كما تقول ميشيل مضيفة: «كان جدي تاجراً كبيراً في مجال المواد الغذائية، وكان يملك اراضي كثيرة ومصانع وقد اراد هذا الخان الكبير لتحويله مخزناً للصناعات الغذائية، فاشتراه».
توفي الجد، وتحولت ملكية خان الحرير الاثري الى والد ميشيل جوزف وعمها نبيل، لكن مع اندلاع الحرب اللبنانية، هاجرت عائلتا جوزف ونبيل الى فرنسا، وكانت ميشيل لا تزال في الخامسة من عمرها، ولكن الهجرة الطويلة لم تحل دون ابداء الشقيقين اهتماماً كبيراً بهذا المكان الاثري، اذ حرصا اولاً على الاحتفاظ به ورفضا بيعه رغم كل الاحداث التي شهدها لبنان، لا بل كان اهتمامهما منصباً على ضرورة صيانته واعادة ترميمه، ولاجل ذلك اقاما عليه ناطوراً لحراسته، وهكذا، وعلى مدى 30 عاماً، اقفل هذا الموقع الاثري، وبحراسة ذاك الناطور المخلص، لم يطاوله اي تخريب او تدمير، فبقي على حاله كما ان الحرب والقذائف لم تطاوله سوى ببعض شظايا اصابت قرميده.
La Magnanerie مجدداً الى الحياة
شغف الشقيقين وحبهما للبنان واهتمامهما بهذا المكان الاثري انتقل الى ميشيل، فاتخذت القرار الكبير بالعودة الى لبنان بمفردها منذ سنتين، والاهتمام باعادة ترميم وصيانة الخان الاثري، ولاجل ذلك قامت ميشيل بدراسات معمقة حول صناعة وتجارة الحرير وزارت متحف الحرير في بسوس لاستجماع المعلومات الكافية بهدف اعادة خان الحرير في سد البوشرية الى ما كان عليه، اذ تتركز اهداف العائلة اليوم على اعادة ترميم الخان بهندسته العثمانية الأصلية وذلك على مراحل. ولأجل ذلك استعانت العائلة بمكتب المهندس اللبناني سعيد بيطار المتخصص في هذا المجال حيث رمم خانات عديدة في جونية وصيدا كما رمم العديد من الكنائس والمعالم القديمة. ولأن ذلك يتطلب ميزانية ضخمة عمدت ميشيل الى استخدام الخان واستثماره من خلال تحويله الى قاعة لتنظيم مناسبات اجتماعية وثقافية بهدف تأمين الاموال اللازمة لصيانته وترميمه.
ويذكر ان الخان الاثري ذا الجدران الحجرية والمكلل بالقرميد الاحمر يتمدد على مساحة تبلغ 5100 متر مربع، وهو موزع اصلاً على خمسة ابنية دمرت الحرب واحداً منها، فيما نجت الابنية الاربعة الاخرى، وقد توزعت بين المبنى الكبير الاساسي المكون من طبقتين والمشيد على قناطر اثرية رائعة، وبين هذه القناطر ستتمدد منصة مسرح مهرجانات بعلبك، فالى المشغل، حيث تتمدد قاعة بطول 100 متر وعرض 9 امتار وبعلو 8 امتار خالية من الاعمدة، والهدف اتاحة المجال لغزل ومد خيطان الحرير حيث كان العمل يتمّ داخل المشغل بطريقة تسلسلية، كما توضح ميشيل، فعند كل 10 أمتار تقف امرأة تغسل الكوكونات، وأخرى تستخرج الدودة والثالثة تنظف الحرير الذي كان ينقل إلى المخزن في المبنى الملاصق للمشغل، وقبالته ينتصب مبنى كان مخصّصاً للإدارة ولسكن الفتيات اللواتي اتين من الرّيف للعمل في الخان.
خان الحرير الاثري ذاك يستثمر منذ نحو سنة تقريباً مكاناً لحفلات موسيقية ولأعراس وحفلات إجتماعية مميزة ولإطلاق منتجات جديدة ومؤتمرات صحافية وتواقيع كتب، ومع انه لا يروق لميشيل كثيراً اعتباره مكاناً للاعراس، فهي وعائلتها مصرتان على تحويله مركزاً لمناسبات وفعاليات ثقافية وتجارية تتناسب مع تراثه وتاريخه، وجاء اختياره مكاناً بديلاً ولو استثنائياً لمهرجانات بعلبك بمثابة هدية من السماء ستسهم ولا شك في تحقيق هذه الاهداف بفعل تسليط الضوء عليه كموقع تراثي تاريخي في لبنان كان شبه مجهول.
هذه هي حكاية خان الحرير الاثري في سد البوشرية، ويبقى السؤال: لماذا وكيف تم اختيار هذا الموقع مكاناً بديلاً لاحتضان مهرجانات بعلبك «استثنائياً» هذا العام؟
لماذا خان الحرير؟
في باحة الخان الاثري، بين قناطره، وداخل مشغله الطويل، توزع اعضاء لجنة مهرجانات بعلبك ومهندسون ومتطوعون وعاملون… ورشة عمل كبيرة بدأت وتستمر ولن تهدأ قبل يوم الافتتاح الكبير، والكل يلهث.
لا تخفي رئيسة مهرجانات بعلبك الدولية السيدة نايلة دو فريج بأن قرار نقل مهرجانات بعلبك الدولية استثنائياً الى بيروت كان أمراً في غاية الصعوبة فرضته الأوضاع الأمنية غير المستقرة في المنطقة وتحديداً في المناطق اللبنانية المجاورة لسوريا، ما دفع بالسوبرانو الأميركية رينيه فلمينغ إلى إلغاء حفلتها رغم محاولات اللجنة اقناعها مراراً، لكن عدم زيارتها ومعرفتها بلبنان سابقاً زادا خوفها وكان مستحيلاً اقناعها. بعد ذلك شهدت الاوضاع الامنية توتراً اكبر وصولاً الى سقوط قذيفتين قرب قلعة بعلبك، فألغى عاصي الحلاني حفله واراد تأجيله الى العام المقبل، ثم بدأ الفنانون المشاركون في المهرجان يتصلون ويستفسرون بقلق حول الاوضاع، ما جعل إدارة المهرجان تعيش خوفاً وقلقاً وتشنجاً من أن يلغوا حفلاتهم وهناك قلق آخر يتعلق بمسؤولية الحفاظ على امنهم وسلامتهم كما على امن وسلامة جمهور مهرجانات بعلبك. وتروي دو فريج ان اتصالات ولقاءات مكثفة قامت بها اللجنة مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزراء، وكان اجماع على ان الغاء مهرجانات بعلبك مسيء لهذه المهرجانات وللبنان، وبدا لكأن عيون العالم مركزة كلها على مهرجانات بعلبك ومصيرها هذا العام، ووجدت اللجنة نفسها امام خيارين مرّين: إما إلغاء المهرجان أو نقله إلى مكان آخر، فاختارت اهونهما شراً، وحسم القرار بأن تبقى مهرجانات بعلبك لكن خارج القلعة بحيث تنقل الحفلات الأربع الى بيروت، إلى مكان اكثر امناً وآماناً.. وبدأت عملية البحث عن المكان المناسب واللائق لأن يكون بديلاً ولو استثنائياً لقلعة بعلبك، ووقع الخيار على خان الحرير الأثري في سد البوشرية، لماذ؟
تجيب نايلة دوفريج: «حتماً لا موقع يضاهي جمال وعظمة قلعة بعلبك وهياكلها ومعابدها، لكن حرصاً على الروحية الثقافية التي تحملها مهرجانات بعلبك اخترنا خان الحرير لما يمثله من موقع تراثي له روح خاصة به ورسالته تتناغم مع الرسالة الثقافية التي نقدمها في بعلبك، وهي إلقاء الضوء على معلم تاريخي في لبنان فكان المكان البديل الذي يحمل تاريخه ويليق باستقبال فنانينا الذين نفتخر باستضافتهم هذا العام، وهو نال إعجابهم وإجماعهم. اتصلنا بأيقونة الروك ماريان فيثفول، ومغنية وعازفة الجاز البرازيلية إليان الياس، ومرسال خليفة، ومصمم الرقص سيدي لاربي الشرقاوي وأرسلنا لهم صور الخان ونبذة عن مكانته التاريخية والتراثية ورمزيته فأعجبوا بالمكان وبدوا متحمسين لاحياء حفلاتهم في بيروت.
خيار خان الحرير استند الى جملة عوامل، فالى تاريخه وطابعه الخاص وجماليته وارتباط اسمه بازدهار صناعة الحرير في لبنان، كان تركيز على قربه من بيروت، فهو على بعد دقائق من وسط العاصمة، قريب من المطار، والوصول إليه سهل من كل المناطق، علماً بأن اللجنة ستعمد الى نشر يافطات على كل الطرقات المؤدية الى هذا المكان لتسهيل عملية الوصول اليه.
لكن لماذا رفضت اللجنة عروضاً كثيرة تلقتها باحياء مهرجانات بعلبك في بيت الدين او بيبلوس او جونية؟
تجيب دو فريج ان خيار اللجنة توجه نحو مكان يحفظ لها خصوصيتها ويعكس هويتها، مكان جديد تنظم فيه لاول مرة مهرجاناً بهذا الحجم الدولي. وتناغماً مع اهداف مهرجاننا ورسالته الثقافية، سيتمكن جمهورنا من استكشاف مكان تراثي جديد في لبنان، هو اكبر خان لانتاج الحرير في لبنان يعود الى القرن التاسع عشر».
وتذكّر دو فريج بأنها ليست المرة الأولى التي تنتقل فيها مهرجانات بعلبك الدولية إلى موقع آخر، مشيرة إلى أنه خلال حرب تموز (يوليو) عام 2006 ألغي المهرجان ونظمت أربع حفلات لفيروز تحت شعار «مهرجانات بعلبك في وسط بيروت»، وقبل الحرب الأهلية التي اشتعلت في عام 1975 كان هناك مركز لمهرجانات بعلبك في بيروت بالقنطاري لتنظيم الحفلات فيه.
القلعة الغائبة الحاضرة
يتم تشييد المدرج في الموقع الجديد ليتسع لـ 2000 شخص، فيما تقام منصة مسرح بطول 18 متراً، وسيقام مدخلان للمسرح مع موقفين يتسعان لـ 700 سيارة، ساهمت بلدية سد البوشرية في تأمينهما. وبهدف تسليط الضوء اكثر على مصنع الحرير وابراز قيمته الأثرية والتاريخية، سيصار الى استخدام تقنيات ضوئية عالية الجودة على المسرح تظهر قيمة احجاره التراثية وجمالية قناطره كخلفية.
وان كانت المهرجانات هذا العام استثنائياً خارج القلعة، فالقلعة ستكون الغائب الحاضر الاكبر في المهرجان، اذ ستحضر بعظمتها وذكرياتها من خلال معرض كبير يرافق المهرجان يتضمن صوراً لهياكلها ومعابدها وملصقات ضخمة وصوراً لأجمل مهرجاناتها وفنانيها على ادراجها وبين معابدها، ستتمدد على جدران مشغل الحرير الاثري الطويل، مع مفاجأة كبيرة يعد بها منظمو المهرجان.
وفي الانتظار يتحدث منظمو المهرجان عن الاقبال الكبير على شراء التذاكر مع الاشارة الى ان الاتكال هذا الموسم هو على الجمهور المحلي والمغتربين اللبنانيين، مع غياب السياح العرب والاجانب. غياب سيفتقده المهرجان الاعرق في لبنان كما سيفتقد جمهوره قلعته، لكنه يستمر متحدياً رسائل الحرب والالغاء، مقاوماً باسم السلام والحياة والثقافة والتراث. ونحن جميعاً على الموعد، في افتتاح ينطلق مع مغنية الروك ماريان فيثفول في 17 آب (اغسطس) فالى الجاز البرازيلي مع اليان الياس في 23 آب (اغسطس) فالى مارسيل خليفة على عوده يومي السبت والاحد 25 آب (اغسطس) وختام المسك 30 آب (اغسطس) مع رقص معاصر مع الكوريغرافي الشهير سيدي لاربي الشرقاوي بمشاركة غنائية مع فاديا طنب الحاج وكازوناري أبي وفرقة A Filetta .
نجاح بومنصف