رئيسيسياسة عربية

«داعش» تحد جديد امام اكراد العراق

منذ اعوام، اطلق المفكر والكاتب المصري المعروف فهمي هويدي على الاكراد مصطلح «شعب الله المحتار»، كمرادف رمزي لتعبير «شعب الله المختار» الذي يطلق عادة على معتنقي الديانة اليهودية.

 هذا المصطلح، وجد من المحللين والكتاب والمهتمين بشأن هذه المجموعة العرقية المميزة التي يقدر تعدادها بنحو 25مليون نسمة ويتوزعون بشكل اساسي على  4 بلدان، هي: تركيا، العراق، ايران وسوريا، الى دول اخرى يقيمون فيها كجاليات، من يتوقف عنده ويجده ملائماً لتوصيف حالة هذه الكتلة البشرية الكبيرة نسبياً الباحثة عن هدف شبه مستحيل منذ عشرينيات القرن الماضي. هذا التوصيف الذي تذبذب هذه المجموعة ومراوحتها ما بين خيارات وحسابات متعددة، كانت كارثية في معظمها، وجد اخيراً من يتذكره ويعود اليه وهو يشهد سلسلة التفجيرات التي هزت قبل ايام اربيل عاصمة اقليم كردستان، مستهدفة مبنى رسمياً وموقعة عدداً من الضحايا بين قتيل وجريح.
ليست المرة الاولى التي تتعرض فيها «دويلة» الاكراد في شمال العراق لحادث امني، ولكن الثابت ان الحادث المدوي له انطلاقاً من طبيعته وظروف حدوثه، استثناءة وقراءة سياسية على حد سواء، ترتبط بشكل وثيق بمستقبل هذه الدويلة التي يسعى قادتها لتعزيز استقلاليتها وانفصالها عن العاصمة المركزية بغداد، وتقديمها لمن يعنيهم الامر على اساس انها واحة استقرار امني وسياسي، وموئل امان ومحطة جذب للاستثمارات والمشاريع الكبرى، فيما بقية انحاء العراق تغرق في بحيرة من صراعات، مكوناتها تكاد لا تنتهي منذ اعوام عدة.
وترتبط ايضاً بشكل او بآخر، بمستقبل الشعب الكردي في الدول الثلاث المحيطة بكردستان العراق، وخصوصاً في ضوء التحولات والصراعات الجذرية التي تشهدها كل من تركيا والساحة السورية.

استنتاجات
قبل ان تلملم سلطات اقليم كردستان العراق ضحايا هذه التفجيرات التي هزت اربيل بشكل مفاجىء، كانت «دولة العراق والشام الاسلامية»، تبادر الى اعلان مسؤوليتها المباشرة عن هذه المجزرة المدوية. وعليه فإن المراقبين للشأن العراقي بادروا الى الربط بين هذا الاعلان والظروف السياسية والامنية التي اتت فيها هذه التفجيرات ليخرجوا بجملة استنتاجات وعبر اساسية ستكون لها تداعيات وارتدادات حاضراً ومستقبلاً، وابرز هذه الاستنتاجات:
– ان تنظيم دولة العراق والشام الاسلامية «داعش» الذي يبعث برسالة ممهورة بالدماء ورائحة البارود، الى الجهات الكردية القابضة بإحكام على زمام الامور في شمال العراق، من عناوينها العريضة، اننا على اهبة الاستعداد لننقل كرة النار الى مناطقكم، ونضع حداً لمرحلة الامان والاستقرار والازدهار التي تعيشها منذ اعوام وتفاخرون انتم بتطورها، اذا ما بقيت المجموعات الكردية في شمال سوريا، وبالتحديد في بعض مناطق محافظات حلب والرقة والحسكة، تواجه بشراسة اهدافاً ميدانية رسمها هذا التنظيم وأعد لها، وشرع بتنفيذها على الفور تحت شعار يقترب كثيراً من شعار توحيد بندقية المجموعات المعارضة للنظام في سوريا، وبالتالي السيطرة على مناطق الشمال السوري.
وهذه المجموعات الكردية السورية هي في نظر التنظيم السلفي الاصولي على صلة بالنظام في دمشق من جهة، وتتملكها فعلاً الرغبة باستغلال الاحداث في سوريا وارتخاء القبضة الامنية للنظام في دمشق، بغية رسم حدود دويلة كردية في المناطق التي يشكل الاكراد فيها ثقلاً ديموغرافياً.
وهذا الامر ان تحقق، تعتبر «داعش» انه يشكل عنصر اعاقة لمشروعها الاستراتيجي الكبير، وهو ان تبسط نفوذها على جزء من اراضي العراق وجزء من الشمال السوري، وبالتالي تقيم عليها امارة اسلامية.
– والابعد من ذلك فإن تنظيم «داعش» الماضي في صراع طاحن مع الائتلاف الوطني السوري المعارض وذراعه العسكرية «الجيش السوري الحر»، ولا سيما بعدما عمل على احداث انشقاقات في داخل هذا الجيش وجذب اليه كتائب مقاتلة اساسية منه الى صفوفه، ويوجه ايضاً رسالة اخرى الى القيادة الكردية في شمال العراق، في مضمونها ان عليكم الا تمضوا قدماً في توفير دعم واسناد المجموعات الكردية المعارضة التي تقاتلنا بضراوة في مناطق سورية معينة، تشهد حالياً سخونة ومواجهات مفتوحة.
وهكذا فإن مجمل رسالة «داعش» لاكراد العراق، اننا مستعدون لفتح خطوط تماس ومحاور اقتتال في عقر داركم ونجعلكم في قائمة اعدائنا واهدافنا ما لم تعيدوا حساباتكم بدقة وتسارعوا الى ضبط الاوضاع، و«تحجيم» المطامع والاحلام الكردية الجامحة.
– استثنائية اخرى لحدث هذه الانفجارات في اربيل التي تأتي كإنذار على امكان انتهاء عملية الامان الذي تعيشه هذه المنطقة، انها اتت فيما كان سكان الشمال العراقي يجرون انتخابات لبرلمان دويلتهم، حيث كل المؤشرات ونتائج الفرز اظهرت تقدماً مطردا للحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني الذي يشغل رئاسة اقليم كردستان، وتراجعاً ملحوظاً لحزب الاتحاد الكردستاني بزعامة الرئيس العراقي جلال الطالباني الذي يعيش اوضاعاً صحية حرجة منذ اكثر من 5 اشهر في احد  مستشفيات المانيا بعد اصابته بجلطة دماغية حادة.

وهج البرزاني
وعليه، فإن ضربة «داعش» المفاجئة في قلب عاصمة اقليم كردستان اتت لتسرق الى حد كبير من وهج الانتصار المدوي الذي حققه البرزاني والذي كرس من خلاله بشكل عملي معادلة سياسية يبحث عن تكريسها منذ زمن بعيد، وهو انه سيأتي يوم يصبح فيه الزعيم المطلق والكامل الزعامة لاكراد العراق على غرار ما كان عليه والده الزعيم الكردي التاريخي الراحل الملا مصطفى البرزاني.
فمنذ فترة بعيدة، كانت كل المؤشرات توحي بتقلص حضور زعامة الطالباني، وبأن غيابه في يوم من الايام سيعني انتهاء ظله السياسي، ولقد اظهرت نتائج فرز صناديق الانتخابات الاخيرة، ان جماعة الطالباني حلوا في المرتبة الثالثة في الانتخابات الاقليمية للاقليم، فيما حلت اولاً جماعة البرزاني، ثم جماعة المعارضة.
وفي كل الاحوال، فإن البرزاني وهو يحتفل بهذا الانتصار الذي ينتظره منذ زمن بعيد، وجد نفسه امام تحد جديد شرس ولا يستهان به هو تحد تنظيم «داعش» ومن يسير في ركابه من مجموعات سلفية وجهادية متشددة، تصوب احدى عينيها نحو العراق، وتعتبره جزءاً اساسياً من مشروعها الذي ورفت ظلاله بعد اشتعال الاحداث في الساحة السورية منذ نحو عامين و9 اشهر.
والواضح انه لا يمكن للبرزاني ومن يدور في فلكه وللاكراد في العراق وسوريا وتركيا عموماً، ان يتجاهلوا هذا التطور السلبي الجديد وان يضربوا بعرض الحائط رسالة تنظيم «داعش» الدموية ذات الابعاد الخطيرة ويقاربون الحدث وكأن شيئاً لم يكن.

دور سياسي متوازن
منذ زمن بعيد واكراد العراق الذين حققوا منذ اكثر من عقدين من الزمن استقراراً، ودرجة عالية ونادرة من الاستقلالية (الحكم الذاتي) يسعون الى اداء دور سياسي متوازن من خلال العلاقة الموزونة بميزان الذهب الدقيق مع دول الجوار الثلاث اي تركيا وسوريا وايران من جهة، ومع مكونات العراق نفسه من جهة ثانية، وخصوصاً بعد التحولات الجذرية على مستوى تركيبة الحكم في العراق في اعقاب سقوط نظام صدام حسين.
وعليه، اتقنوا هذه اللعبة التعادلية، فلا هم قطعوا شعرة العلاقة مع تركيا، رغم ازمة الحزب الكردي المعارض والمقاتل بزعامة عبدالله اوجلان، ورغم كل ما تشهده منطقة شمال كردستان على الحدود مع تركيا من مواجهات وغارات تركية بعدما تحولت هذه المنطقة الى قاعدة لحزب العمال الكردستاني الذي ينطلق منها لينفذ عمليات ضد اهداف تركية وجعلها معسكرات تدريب وايواء.
ولا هم هدوا جسور التواصل مع ايران التي ايضاً لها حسابات معقدة مع اكرادها، وكان لها قصفها على مواقع في داخل كردستان على الحدود معها، بل بقيت العلاقة مع ايران احدى نقاط ومعالم الارتكاز في العلاقات الكردية مع المحيط.
والاهم ايضاً، انهم قطعوا علاقتهم مع القوى والاحزاب الشيعية العراقية رغم انهم دخلوا في مرحلة من المراحل في صراعات حادة مع رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي، وكانوا رأس حربة في الجهة المعارضة له التي عملت على اسقاطه بعد حجب الثقة عنه في البرلمان العراقي المركزي، لذا كانت علاقة اكراد العراق دوماً في حالة مد وجزر مع المالكي بسبب تصادم الخيارات والحسابات والمصالح، والامر مستمر ولن يتوقف، فكلاهما بحاجة الى الاخر.
لذا، فإن السؤال المطروح هو: كيف سيتعامل البرزاني مع هذا الخطر المستجد عليه، ومع هذا التنظيم الذي رمى اخيراً في وجهه قفاز التحدي معلناً استعداده لمواجهته؟ ام سيأخذه البرزاني ولا شك في حساباته مستقبلياً وهو سيزيد ولا ريب في «حيرة» اكراد العراق «المحتارين اصلاً ومنذ القدم».

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق