الاقتصادمفكرة الأسبوع

الذهب ملاذ آمن ام سلعة مضاربة؟

عندما تهتز السوق، اي سوق، يصعب التحليل والتوقع. فهل يندرج اهتزاز سوق الذهب في اطار التذبذبات التي تشهدها «السلع الكبرى» بإستمرار ام ان الهبوط الذي شهدته هذه السوق هو بمثابة هدوء ما بعد العاصفة او هدوء ما بين عاصفتين؟ ام ان المعدن الأصفر يتجه نحو التحول من الارقام الاربعة الى الثلاثة؟

اسئلة كثيرة يطرحها الخبراء والمحللون عند كل هبة ساخنة في اسعار الذهب، وكل هبة باردة، عند كل صعود متسارع وهبوط متراكم الى حد بات البعض لا يفصل بين كون الذهب ملاذاً آمناً للأموال وكونه سلعة مضاربة كباقي السلع التي تتحكم المضاربات بأسعارها.

مسار الذهب
لكي نفهم الهبوط المتراكم لسعر الذهب من نحو 1920 دولاراً في العام الماضي الى نحو 1222 دولاراً للاونصة في اواخر شهر تموز (يوليو) من العام الحالي، لا بد من القاء الضوء على مسار المعدن الثمين منذ ان فك الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون في العام 1971 الارتباط بين الذهب والدولار ليثبت سعر الاونصة آنذاك عند 35 دولاراً. من آب (أغسطس) 1971 الى الشهر نفسه من العام 1972 ضعفت الولايات المتحدة قيمة الدولار الى 38 دولاراً لاونصة الذهب.
وفي كانون الثاني (يناير) 1980 ادت التطورات العالمية بدءاً من ارتفاع اسعار النفط فالتدخل السوفياتي العسكري في افغانستان، فتأثير «الثورة الاسلامية» في ايران الى هبة اسعار الذهب، حيث بلغ سعر الاونصة 850 دولاراً ليشكل هذا السعر ما يمكن تسميته بالصدمة الذهبية الاولى على غرار الصدمة النفطية الاولى غداة حرب تشرين الاول (اكتوبر) في العام 1973.
وكما بعد بلوغ القمة يبدأ المسار النزولي، عاد سعر الذهب الى مساره النزولي في اواخر التسعينيات من القرن الماضي، وتحديداً في آب (اغسطس) 1999 بفعل اتجاه البنوك المركزية الى خفض احتياطاتها، وبيع شركات التعدين الذهب خوفاً من انهيار السوق كما حصل في الثمانينيات حيث عاد سعر الاونصة الى 251،70 دولاراً.
وبعد فترة ركون وسكون طويلة نسبياً، عاد الذهب للتوهج مما يشكل الصدمة الذهبية الثانية التي سجلت سعراً للاونصة تجاوز الالف دولار في الاسواق المستقبلية الاميركية. وفي 14 آذار (مارس) عام 2008 سجل سعر الاونصة 1007,10 دولار ليسرع في ما بعد نحو 1503،40 دولار في 20 نيسان (ابريل) من السنة نفسها بفعل تضاعف المخاوف بشأن ازمة الديون السيادية في منطقة اليورو. وفي 25 تموز (يوليو) من العام 2011، ادى الخوف من عجز الولايات المتحدة عن سداد ديونها الى دفع المستثمرين نحو الذهب، فاستمر سعر الاونصة في مساره التصاعدي ليسجل في ذلك اليوم 1611 دولاراً.
وفي اواخر 2011 واوائل 2012 ادى تفاقم ازمة الديون في عدد من الدول الاوروبية، وبالاخص اليونان وقبرص، وبنسبة اقل ايطاليا واسبانيا والبرتغال، بالاضافة الى ارتفاع اسعار النفط العالمية، وانهيار البورصات، وتخفيض الفوائد على العملات الرئيسية الى ارتفاع الطلب على الذهب، فواصل السعر مساره التصاعدي حتى تخطى عتبة 1900 دولار للاونصة.

ما بعد القمة
مرة اخرى بلغت اسعار الذهب القمة التي توازي اكثر من ضعفي قمة الثمانينيات، لذا بات المسار النزولي محتماً لكي يستعيد السعر طبيعته خالياً من اثر «المنشطات»، ويسجل في الفصل الاول من العام الحالي اكبر تراجع فصلي منذ 42 عاماً اثر مخاوف تتعلق باحتمال تخلي البنك المركزي الاميركي عن برنامج التحفيز الاقتصادي، وزادت ازمة السيولة المتوقعة في الصين بواعث القلق لتصل خسائر المعدن الاصغر الى اكثر من 80% في اسبوع واحد خلال شهر تموز (يوليو) من العام الحالي، ليقترب سعر الاونصة من ادنى مستوى له منذ نحو ثلاث سنوات (1268،89 دولاراً)، ويفقد نحو 24% من قيمته منذ مطلع العام الجاري. وظل يهبط حتى بلغ في 26 حزيران (يونيو) 1221،80 دولاراً، وهو اقل سعر منذ آب (اغسطس) 2010.
ورغم بعض «التعويضات الطفيفة» عن «الخسائر العظيمة»، لم يستطع سعر الذهب الابتعاد عن المستوى الادنى له منذ ثلاث سنوات، بما يوحي بتآكل جاذبيته كملاذ آمن منذ ان اعلن بن برنانكي، رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي (البنك المركزي الاميركي) عن استراتيجية لتقليص برنامج البنك لشراء سندات بقيمة 85 مليار دولار شهرياً خلال الشهور القليلة المقبلة، ويعزز ذلك ارتفاع اسعار الفائدة مما يجعل الذهب اقل جاذبية نسبياً. ومما ساهم في الضغط النزولي على اسعار الذهب خفض الحكومة الاميركية تقديراتها للنمو في الفصل الاول من العام الجاري.
وبين 13 نيسان (ابريل) و5 منه تراجع سعر الاونصة 13%، وهو ما لم يحصل مثله منذ 30 عاماً، وقد عزاه المحللون الى نجاح خطة انقاذ قبرص الاوروبية، وتراجع اسعار النفط، وارتفاع قيمة مبيعات الذهب الاوروبية الى نحو 400 مليون يورو. وببلوغ سعر الاونصة في 13 نيسان (ابريل) 1380 دولاراً يكون هذا السعر تراجع في ثلاثة ايام بنسبة 20% منذ مطلع العام، وبنسبة 28% مقارنة مع الرقم القياسي (1920 دولاراً).

التوقعات
وكما تخضع اسعار المعدن الوهاج للتذبذبات صعوداً وهبوطاً، الشيء نفسه بالنسبة الى التوقعات. فمع استعار الاسعار في العام 2012 توقع بعض التقارير، ومنها تقرير شركة «جي. اف. ام. اس. ليمتد» البريطانية المتخصصة في اسواق المعادن، ان يتجاوز سعر الاونصة عتبة الالفي دولار «بفعل زيادة الاستثمار في المعدن الثمين وليس بفعل الاستهلاك العادي». ويدل على ذلك، بحسب التقرير، بيع اكثر من الف طن من الذهب الخام في بداية النصف الثاني من 2012 مقارنة بـ 624 طناً في النصف الاول من العام نفسه. لكن الواقع دحض تلك التوقعان بحيث انصرم 2012 من دون ان يلامس سعر الاونصة الالفي دولار. وكان بعض الخبراء والمحللين يسخرون من توقعات الالفي دولار، ومن هؤلاء الخبير الاقتصادي والمالي فضل البوعينين، الذي اتهم الشركات الاستثمارية بأنها «كانت بتوقع الارقام الخيالية تسوق لنفسها وتدعم تخلصها من مخزون الذهب الذي تحتفظ به».
وعزا خبير اقتصادي سعودي آخر انخفاض اسعار الذهب الى الاقبال الشديد على المضاربة في الاسهم والسندات، والذي خفف من وهج الذهب الاستثماري، اضافة الى كون الذهب يحتاج الى الحماية والحراسة بخلاف الاسهم والسندات. واعتبر الخبير ان انخفاض السعر حالياً امر طبيعي نظراً للارتفاعات المبالغ فيها التي وصل اليها، وانه آن الاوان لعودته الى المستوى الطبيعي.
البنك الاستثماري الاميركي «غولدمان ساكس» خفض بدوره، التوقعات لسعر الذهب في نهاية العام الحالي الى 1300 دولار للاونصة، ولسعره في نهاية العام الى 1050 دولاراً. وجاء في مذكرة له: «ما زلنا نتوقع ان تظل مشتريات البنوك المركزية غير كافية لتعويض اثر التراجع في اسعار»، مشيراً الى ان تحسناً في النشاط الاقتصادي الاميركي في وقت لاحق من العام الحالي، وفي العام المقبل، من شأنه ان يقود الى مزيد من انخفاض سعر الذهب في المدى المتوسط.
لكن تاجر ذهب كبيراً في الخليج لا يرى سبباً محدداً للانخفاض الحاد في سعر الذهب سوى انه اشار الى تضارب الانباء حول قيام بعض البنوك بفرض فوائد على الذهب وان بعض الشركات الاستثمارية والبنوك الدولية سيّلت كمية كبيرة من الذهب في السوق.

الارقام الثلاثة
غير ان «جيم روجرز»، الذي يطلق عليه الاقتصاديون والماليون الغربيون لقب «رائد التوقعات الصائبة»´اعتبر ان الحالة التصحيحية التي تعيش لحطاتها حالياً في اسعار الذهب ستستمر سنتين على الارجح ليبلغ سعر الاونصة 900 دولار.

 

التأثيرات العربية
لا شك في ان اسعار الذهب، انخفاضاً وارتفاعاً، ذات تأثيرات كبيرة على دول العربية بما فيها لبنان،باعتبار ان الاقتصاد الاميركي يمثل 27% من الاقتصاد العالمي، و55% من اسواق المال العالمية مقومة بالدولار، اضافة الى ان 85% من اسواق المال العالمية مقومة بالدولار، ومن هنا للدولار الاميركي تأثير كبير في ارتفاع او انخفاض اسعار الذهب عالمياً. وعلى الصعيد اللبناني يكاد التأثير ينحصر في مجالين رئيسيين، احدهما يتعلق بالمستثمرين اللبنانيين في الذهب، افراداً ومؤسسات. ويكفي ان نذكر في هذا المجال احد كبار الاثرياء في الولايات المتحدة (بنكر هانت) الذي تعرض لخسارة قاصمة في ذلك الوقت في لعبة الذهب والفضة، وتصدرت صورته واخباره الصحف والمجلات ووكالات الانباء وشاشات التلفزة العالمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق