عون – جعجع: ماذا عن المستقبل؟

لماذا شكل لقاء عون – جعجع في الرابية حدثاً سياسياً وإعلامياً وخطف الأضواء واستقطب الاهتمام؟! ما هي خلفيات ودوافع هذا التقارب السياسي بين رجلين تفصل بينهما هوة مزمنة؟! هل هو موجه ضد أحد وهل يصل الى حد خلط الأوراق السياسية، أوراق التحالفات والاصطفافات المختزلة في محوري 8 و14 آذار؟! من هي الجهات والقوى السياسية المتضررة من هذا اللقاء أو المعنية برسائله المشفرة؟! هل يقف الأمر عند حدود إعلان النيات أم يتطور ويترجم الى عملية تنسيق وتعاون وخطوات عملية؟! وأين رئاسة الجمهورية في لقاء المرشحين الر ئيسيين والقويين؟!
من الصعب إعطاء إجابات مكتملة ونهائية… ولكن من الممكن الخروج باستنتاجات وخلاصات أولية:
1- اللقاء مهم في حد ذاته وبمجرد حصوله. «الصورة» هي الحدث بغض النظر عن المضمون والنتيجة. هذا اللقاء لا يتوج فقط عملية حوار بدأت قبل خمسة أشهر وإنما يتوج مرحلة طويلة من علاقة حافلة بالتوترات والنزاعات، وتدخل من الآن فصاعداً في مرحلة جديدة تطوى فيها صفحة الماضي بكل تضاريسها ونتوءاتها ومناخاتها السلبية المتنقلة عبر عقود وأجيال.
لقاء الرابية يحقق المصالحة الفعلية بين عون وجعجع. هذا ليس أول لقاء منذ الفراق الكبير عام 1990، فقد سبق أن التقيا في لقاء وجداني عام 2005 عندما زار عون العائد من منفاه جعجع في سجنه في وزارة الدفاع، والتقيا في لقاء اجتماعي عندما زار جعجع عون معزياً إياه بوفاة شقيقه «أبو نعيم» في صالون كنيسة الصعود في ضبيه… كما التقيا مراراً تحت سقف بكركي في إطار لقاء الأقطاب الأربعة تحت إدارة ورعاية البطريرك بشارة الراعي، ولكن لقاء الرابية هو اللقاء الأول المباشر والثنائي والسياسي، مكتسباً معاني ودلالات خاصة.
2- اللقاء ليس شكلياً وعابراً وليس «لقاء صورة» وإنما «لقاء مضمون»، وهذا المضمون السياسي وإن جاء تحت عنوان «إعلان النيات» إلا أنه كافٍ لإعادة بناء ثقة مفقودة ولأن يكون أساساً لعلاقة جديدة مبنية على تفاهم مكتوب حتى لو كان هذا التفاهم حاصلاً حول عناوين عامة وعريضة وكل عنوان يحتاج الى حوار واتفاق…
3- اللقاء ليس إبن ساعته ولا يأتي من «فراغ»، وإنما هو نتاج وتتويج لمرحلة من التواصل والحوار دامت شهوراً وسارت بوتيرة بطيئة ولكن ثابتة، وبالتالي فإن هذا اللقاء يعكس وجود إرادة سياسية بالتلاقي والحوار عند الطرفين اللذين أخذا هذا الخيار عن سابق تصور وتصميم.
4- جملة عوامل تضافرت ودفعت في اتجاه حصول هذا التحول على الساحة المسيحية: من التطورات والمتغيّرات الإقليمية التي وضعت المسيحيين في لبنان أمام مخاطر وتهديدات غير مسبوقة في طبيعتها «الوجودية والمصيرية»، الى الوضع المسيحي المزري المتراجع حضوراً ودوراً على كل المستويات، الى الخلل المتفاقم في التوازن الوطني بكل أبعاده السياسية والطائفية والديموغرافية… الى حالة التململ والتذمر في المجتمع المسيحي تجاه قياداته وسلوكياتهم وسياساتهم، وكانت هذه الحالة تكبر مع الوقت وتتدحرج الى حالة اعتراضية ضد عون وجعجع معا وباتت تهدد بسحب البساط الشعبي من تحت أقدامهما… يضاف الى كل ذلك أن كل واحد بات يحتاج للآخر ويقوى به في إطار ثنائية مسيحية وفي مواجهة ثنائية إسلامية (المستقبل – حزب الله) تختزل معادلة السياسة والحكم وتتعاطى مع القوى المسيحية الحليفة كقوى ملحقة وتابعة.
5- لقاء الرابية أشاع أجواء ارتياح في الأوساط المسيحية، الشعبية أكثر من السياسية، ولكنه ارتياح مشوب بالحذر والترقب استناداً الى تجارب ماضية غير مشجعة، ولأن الاتفاق الحاصل ما زال في الجو والهواء ولم ينزل الى الأرض ولم يترجم واقعاً سياسياً بدءاً من رئاسة الجمهورية التي هي المفتاح لأي اتفاق سياسي حول المرحلة المقبلة، والمحك الفعلي الأولي للنوايا..
الحوار بين جعجع وعون موضوع عند المسيحيين تحت المراقبة والاختبار لإثبات جديته وصدقيته… وهذه فرصة جديدة وأخيرة يعطيها المسيحيون لقادتهم الذين لا خيار أمامهم إلا الحوار والاتفاق، وإلا تسببوا بعودة أجواء الإحباط والخيبة وتحملوا مسؤولية هذه العودة.
6- تلاقي عون وجعجع يؤسس لـ «ثنائية مسيحية» بين أكبر حزبين وقوتين سياسيتين وشعبيتين. وهذه التجربة يمكن أن تستلهم التجربة الشيعية في ثنائية حزب الله -أمل (مع فارق الأحجام والظروف) التي اختزلت الواقع الشيعي واحتكرت القرار والتمثيل والنفوذ والسلطة والمكاسب… وهذا سبب كافٍ لإثارة هواجس وقلق قوى وقيادات مسيحية أخرى مثل الكتائب (الجميل) والمردة (فرنجية) اللذين على حسابهما تنمو هذه الثنائية وتترسخ وتلحق بهما التهميش والتحجيم… فإذا كانت اجتماعات بكركي أطلقت مرحلة الأقطاب الأربعة، فإن اجتماع الرابية يطلق مرحلة «القطبين» الأولين.
7- المستقبل وحزب الله ينظران الى حليفيهما وتموضعهما السياسي الجديد بعين الحذر والشك خصوصاً وأن حوار التيار الوطني الحر – القوات اللبنانية شكل في أحد وجوهه رداً مباشراً على حوار المستقبل – حزب الله وما عناه من تهميش للدور المسيحي ولكليهما ومن إمكانية قيام اتفاق سني – شيعي بمعزل عن المسيحيين وعلى حسابهم. وإذا كانت المتغيّرات الإقليمية، خصوصاً مع انفجار الصراع الإيراني – السعودي وتحوله صراعاً مكشوفاً ومفتوحاً، أدت الى وقف اندفاعة الحوار السني – الشيعي وأعادته الى نقطة الصفر، فإن الحوار المسيحي المنقطع عن مؤثرات وارتباطات إقليمية تقدم وأثمر «إعلان نيات» ويتمتع بقابلية التطور والتطوير.
8- انزعاج المستقبل من اتفاق عون – جعجع هو أكبر وأوضح من انزعاج حزب الله… المستقبل يعتبر أن جعجع قام بخطوة غير مناسبة في توقيت غير مناسب وحركته السياسية باتجاه عون تسببت في إضعاف الموقع التفاوضي للحريري وهو في ذروة معاركه السياسية والحوارية مع حزب الله، كما يتسبب في وضع الحريري على تماس مباشر مع عون وإضفاء طابع المواجهة السنية – المسيحية على معركتهما المتمحورة حالياً حول رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش. ويعتبر المستقبل أيضاً أن جعجع يكرر خطأ سياسياً وقع فيه منذ عامين في جنوحه وتأييده لمشروع اللقاء الأرثوذكسي ويكرر ما فعله وليد جنبلاط بالانتقال الى تموضع سياسي متمايز والابتعاد عن 14 آذار التي قامت على فكرة الشراكة الإسلامية – المسيحية، فيما تتقدم اليوم حسابات الشراكة المسيحية – المسيحية.
9- لا تغيير في الخريطة السياسية القائمة على أساس فرز سياسي عريض بين فريقي 8 و14 آذار. فلا العماد عون في وارد فك تحالفه مع حزب الله ولا الدكتور جعجع في وارد فك تحالفه مع المستقبل… ولكن ثمة تآكل وتفكك على جبهتي 8 و14 آذار وميل واضح لدى قوى هذين التحالفين الى انتهاج سياسات وتكتيكات خاصة تتلاءم مع المصالح الخاصة… ستبقى الحركة السياسية منتظمة تحت سقف 8 و14 آذار ولكن هامش الحركة والمناورة والخصوصية ازداد واتسع عند كل طرف وداخل كل تحالف. وهذا ما يفسر خلاف عون مع بري واهتزاز علاقة جعجع مع المستقبل.
10- رئاسة الجمهورية لم تكن بنداً على جدول أعمال اجتماع الرابية وليست هدفاً لهذا اللقاء… ولكنها حضرت بشكل غير مباشر… في الشكل، قدوم المرشح الرئاسي سمير جعجع الى منزل المرشح الرئاسي الخصم ميشال عون يكسر حدة المعركة بينهما ويجعلها «رياضية»… وفي المضمون، إن الاتفاق على الرئيس القوي وحصر الرئاسة بين أول قويين على الساحة المسيحية القوات والتيار، يمكن أن يُفسَّر بأن جعجع ربما انتقل من خانة المرشح القوي الى خانة الناخب الأقوى لأن مفتاح وصول عون الى قصر بعبدا في يده… أو أنه ربما يفكر بالرئيس التوافقي القوي الذي يكون نتاج توافق المسيحيين الأقوياء عليه.
ولكن اتفاق عون – جعجع على الرئاسة لم يحصل، وحتى لو حصل فإنه يشكل عاملاً مساعداً ومؤثراً ولكنه ليس عاملاً حاسماً ومقرراً، لأن الرئاسة خاضعة لمؤثرات واعتبارات إقليمية ودولية ولتوازنات داخلية دقيقة ومعقدة. والمفارقة أن اجتماع اليوم بين عون وجعجع في الرابية يحصل كما حصل اجتماعهما في اليرزة قبل 27 عاماً (1988) على خلفية تطويق مشروع الرئيس التوافقي (التوافق السوري -الأميركي على مخايل الضاهر). وفي المرتين يحصل رفض للرئيس التوافقي من دون أن يحصل اتفاق على الرئيس البديل. وتكون النتيجة في المرتين والحالين شغور رئاسة الجمهورية وسقوط قصر بعبدا في فراغ بارد.
قبل 27 عاماً لم يكن هناك حزب الله ولا المستقبل، وكان بري وجنبلاط يتصدران الصفوف الأمامية، وكان اجتماع اليرزة الشهير موجهاً ضد الرئيس أمين الجميل وهو في عز حياته السياسية وذروتها، وأعطي ذلك الاجتماع صفة انقلابية… اليوم نصرالله والحريري يتصدران وبري وجنبلاط في مقاعد «أمامية خلفية»، والرئيس أمين الجميل يتأهب للتقاعد السياسي وتسليم نجله سامي رئاسة الكتائب بعد أيام… المشهد السياسي كله تغيّر، فهل تتغيّر علاقة عون – جعجع وتتقدم من دون تعثر ومن دون رجعة الى الوراء؟!