سياسة لبنانية

الحكومة إما معطلة أو مستقيلة والنتيجة في الحالين واحدة: تصريف أعمال

حصل اختلاف في جلسات مجلس الوزراء «في الشكل». أصبحت هادئة وأكثر حضارية وأرفع مستوى. غاب عنها مشهد «الصراخ السياسي والمناكفة والمشادات العنيفة»… وحل محلها مشهد «الاعتذار»، اعتذار الرئيس تمام سلام من الشعب اللبناني على الصورة غير اللائقة التي ظهر فيها مجلس الوزراء… واعتذار الوزير جبران باسيل من سلام على الخروج عن «الأصول»… ما اختلف في الشكل أيضاً هو المشهد الخارجي في محيط السرايا الحكومي الذي خلا من مظاهرات احتجاجية لمناصري عون ولكنه لم يخلُ من إجراءات أمنية مشددة تحسباً لأي طارىء وتحرك مباغت…
أما «في المضمون»، فإن الجلسات لم تختلف في شيء والنتيجة كانت «اللاشيء» بعد نقاشات عقيمة دارت في حلقة مفرغة ووصلت الى طريق مسدود. فلا اتفاق على آلية عمل الحكومة، ولا اتفاق على الملفات والاستحقاقات من كبيرها الى صغيرها، من التعيينات الى النفايات، ولم يتزحزح أي طرف حكومي عن موقفه: الرئيس سلام مع آلية توافق شرط الا توصل الى تعطيل… والوزير جبران باسيل مع آلية توافق تعطي تكتل الإصلاح والتغيير حق «الفيتو»… وأما الموقف الذي رجح الكفة فكان موقف حزب الله الذي عبّر عنه الوزير محمد فنيش داعماً موقف باسيل وقائلاً: «إننا قبلنا على مضض الآلية الحالية التي اتفقنا عليها بعدم تخطي أي مكوّنين في الحكومة، ولذا فإن تخطي هذه الآلية غير وارد بالنسبة إلينا. نحن لسنا مع إسقاط الحكومة ولكننا لن نتخلى عن حلفائنا»… هذا الموقف كان كفيلاً بوضع حد للنقاش حول آلية عمل الحكومة بأن انخرط وزيرا «أمل» تحت سقف هذا الموقف والتزم وزيرا جنبلاط الهدوء والحياد…
بالنسبة الى رئيس الحكومة فإن قبوله بهذه «الآلية» يعني أنه وافق على أن يصبح تحت رحمة حزب الله وعون، وأن حكومته أصبحت معطلة وغير قادرة على الإنتاج واتخاذ القرارات، الأمر الذي يضعه في موقف حرج وفي لحظة الخيار الصعب بين سيىء وأسوأ وبين حدين: إما التوقف عن الدعوة الى جلسات وزارية جديدة، وهذا نوع من أنواع الاعتكاف والانكفاء… وإما تقديم الاستقالة الى الشعب اللبناني في ظل غياب رئيس الجمهورية… الخيار الثاني وارد لدى سلام ويبدو بالنسبة إليه الأفضل و«الأريح» لأنه يبقيه حاكماً منفرداً من دون أن يتحمل مسؤولية الوضع ويحرره من الضغوط والحاجة الى إرضاء الجميع…
تردد على نطاق واسع في الوسط السياسي أن الرئيس سلام تلقى اتصالات ونصائح من جهات دولية للتروي وعدم الإقدام على خطوة الاستقالة في وضع لبناني هش، والحكومة هي المؤسسة الدستورية الوحيدة التي تعمل… كما تلقى سلام اتصالات من الرئيس سعد الحريري الذي طلب منه التريث وعدم تنفيذ تهديده في هذا الوقت. الاتصالات شملت أيضاً العماد ميشال عون من جهات سياسية حليفة ومن جهات دبلوماسية أيضاً وفعلت فعلها في دفعه الى مراجعة حساباته وطريقة إدارته للمعركة في ضوء ما أظهرته الجولة الأولى من نواقص وأخطاء… وسيستمر عون في المواجهة ولكن وفق صيغة جديدة ليس فيها نزول الى الشارع لتفادي فخ الاصطدام بالجيش، وليس فيها الاستقالة من الحكومة لأنه في هذه الخطوة كمن يطلق النار على نفسه، وإنما سيكون فيها التصعيد السياسي والكلامي والاعتراض والمشاغبة من داخل الحكومة، وفيها أيضاً مجاراة ومراعاة أكثر لحلفائه وتشاور أكثر معهم في المواقف والخطوات…
الوضع الحكومي بات محدداً في مساره: إما نكون أمام حكومة معطلة، وإما نصبح أمام حكومة مستقيلة والنتيجة في الحالين واحدة: انتقال الحكومة عملياً أو رسمياً (دستورياً) الى مرحلة تصريف الأعمال… هناك من يقلل من شأن وخطورة «الاستقالة» طالما أن الحكومة باتت حكومة تصريف أعمال مع استقالة أو من دونها، ولا تغيّر في جوهر الواقع… وهناك من يرى خطورة ونقلة نوعية في خطوة «الاستقالة» إذا حصلت لأنها تنقل لبنان وليس الحكومة فقط الى وضع جديد وتبدو بمثابة مغامرة سياسية وخطوة في المجهول طالما أن البديل غير مؤمن وسقوط الحكومة يعني اكتمال حلقة الفراغ المؤسساتي والسياسي…
على هامش زيارته الرسمية الى فرنسا عقد الوزير نهاد المشنوق مؤتمراً صحفياً بدا فيه راضياً عن الوضع الأمني في لبنان وواثقا به، وغير راضٍ عن الوضع السياسي وغير متيقن منه. ولكن رغم حالة عدم الوضوح وعدم اليقين أكد المشنوق على أمرين:
– الأول أن الفراغ الرئاسي أمده طويل. فلا رئاسة قبل جلاء الوضع في سوريا، وقبل حصول اتفاق إقليمي بين إيران والسعودية غير متوافر الآن ولا مؤشرات الى إمكانية عقده.
– الثاني أن الحكومة باقية وتعمل ولن تستقيل رغم الصعوبات والهزات التي تشهدها ومستمرة في وظيفتها السياسية وهي المحافظة على الجمهورية، ولذلك لا يمكن المخاطرة بالحكومة لزيادة فراغ على الفراغ… وما دام هناك قرار استراتيجي بوجوب بقاء هذه الحكومة وأن يبقى الوضع مستقراً على ما هو عليه، فما من أحد مستعد لأن يغامر بالمزيد من الفراغات الدستورية… وشدد المشنوق على أن سلام ليس في وارد الاستقالة وهو يتحمل مسؤولياته حتى آخر دقيقة والكلام عن استقالته غير صحيح ولا يشبهه. ويدعم المشنوق رأيه بوجود اتفاق بين المستقبل وحزب الله على عدم تطيير الحكومة…
إشارة سياسية ثانية في شأن بقاء الحكومة جاءت من العماد ميشال عون (في حديث الى «الوكالة الإيرانية للأنباء») بقوله إن «إسقاط الحكومة ليس من ضمن الأهداف التي نعمل عليها في هذه المرحلة، وأن الأولوية الآن هي للاعتراض من داخلها»…
هذه إشارات سياسية يُعتد بها ولكنها غير كافية خصوصاً وأن دوافع شخصية قد تكون وراء التأكيد على الحكومة والتمسك ببقائها: الوزير المشنوق لإبعاد الشبهات والاتهامات عنه بأنه طامح الى رئاسة الحكومة ويتحين الفرصة، والعماد عون حتى لا يتحمل مسؤولية سقوط الحكومة إذا حصل والوضع الذي سينجم عن ذلك… ذلك أن رئيس الحكومة تمام سلام في أجواء أخرى ويهدد فعلاً بالاستقالة والانسحاب من اللعبة في حال لم تعد قواعدها ملائمة له. وهذا الخيار كان سلام لوّح به عشية جلسة مجلس الوزراء العاصفة في خلال اجتماعه مع الوزير محمد فنيش مبلغاً إياه أنه غير مستعد وأنه لا يقبل بأن تمارس عليه ضغوط وقيود ولا يتمسك بمنصبه إذا كان الثمن هو تعطيل الحكومة ومحاصرة صلاحيات رئاسة الحكومة.
وهذا الموقف من سلام ما زال قائماً لأن المعطيات لم تتغيّر والاتصالات السياسية لإيجاد مخارج لم تصل الى نتيجة. وعشية جلسة مجلس الوزراء اليوم صدرت عن سلام وأوساطه إشارات واضحة تدل الى استعداده للعب ورقة الاستقالة في حال استمر تضييق الخناق السياسي على حكومته… وهذه عيّنات مما تقوله مصادره: الرئيس سلام لن يرضى بتعطيل الحكومة بعد اليوم حتى لو كلفه ذلك الاستقالة… هذا احتمال وارد إذا شعر أن المطلوب أن يكون رئيس حكومة تعطيل ولن يقبل أن يكون أسير هذا الوضع في وقت يغرق البلد بالأزمات وتشتعل المنطقة بالحرائق… وعبّرت أوساط سلام عن قلقها على مصير الجلسة غداً لأن الأمور تتجه من سيىء الى أسوأ ولا وجود لتسويات ومخارج، مشيرة الى شعور بالمرارة لدى رئيس الحكومة والى أن كل الاحتمالات مفتوحة لديه لأنه لا يقبل أن يقول له أحد ما هو مسموح له وما هو ممنوع عليه، ولا يقبل أن يستمر تحت رحمة من يسمح ساعة يشاء باجتماع الحكومة أو عدم اجتماعها. فلماذا يكون سلام وحده المسؤول عن البلد ولماذا لا يرمي الكرة في وجه القوى السياسية؟!
كثيرون لا يأخذون تهديد سلام على محمل الجد ويرجحون أنه سيبقى كلاماً من دون تنفيذ لأسباب كثيرة منها:
– قرار فرط أو تطيير الحكومة أكبر منه وليس ملكه لوحده، والحكومة جزء من قرار دولي – إقليمي باستقرار لبنان وتحييده عن الأزمة السورية.
– وجود اتفاق بين حزب الله وتيار المستقبل على عدم تطيير الحكومة، وهذا الاتفاق ساري المفعول طالما الحوار مستمر بينهما، وطالما الحكومة تشكل مصلحة للطرفين: لحزب الله المنهمك في حرب سوريا، وللمستقبل العائد الى السلطة بعد غياب قسري.
– عدم وجود رئيس للجمهورية يتسلم الاستقالة ويقبلها ويكلف رئيساً جديداً للحكومة…
هذه الأسباب على وجاهتها وأحقيتها لا تجعل أن الحكومة في أمان ومأمن، خصوصاً إذا سقط المستقبل وحزب الله في حسابات ورهانات متبادلة: فالمستقبل يراهن أن حزب الله لديه مصلحة قصوى في الحكومة ولها الأولوية لديه لحماية ظهره في لبنان ومستعد للتساهل والتسهيل ولو على حساب عون… وحزب الله يعتبر أن هذه حكومة الأرجحية فيها للمستقبل الذي هو صاحب المصلحة الأولى في استمرارها وعليه أن يقدم الثمن والتنازلات لبقائها.
الجديد الحاصل أن حزب الله لم يعد متمسكاً بحكومة ليست له فيها قدرة التحكم بسياستها وقراراتها، خصوصاً إذا أصبح الخيار بينها وبين حليفه عون… وأن المستقبل ليس مستعداً للتنازل من أجل الحكومة ولا يرى أن استقالة سلام تغيّر كثيراً في واقع الحكومة الذي هو الآن واقع تصريف أعمال وسيبقى كذلك ومع نفوذ وسلطة أوسع لرئيسها في حال أصبح تصريف الأعمال رسمياً وليس واقعياً… إضافة الى أن الاستقالة ستكون حافزاً ودافعاً الى التسريع في انتخاب «الرئيس التوافقي»…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق