رئيسيسياسة عربية

العراق: ازمة حادة بين المالكي ومرجعية النجف

في صبيحة اول ايام عيد الفطر المبارك، ظهر الخلاف حاداً بين رئاسة الحكومة في العراق، والمرجعية الروحية العليا في النجف. وتجلى ذلك في انتقاد بعض وكلاء المرجعية هجمات شنت في الآونة الاخيرة على موقع المرجعية ودورها ومكانتها. وكان لافتاً انضمام رئيس المجلس الاسلامي العراقي عمار الحكيم الى صف المدافعين عن المرجعية والمنتقدين بشدة للحملات ضدها.

لهذا الامر معناه ودلالته ومغازيه، فالمجلس هو واحد من ابرز المكونات السياسية المنضوية تحت لواء التحالف الوطني العراقي، اي الائتلاف السياسي الفضفاض الذي يحتضن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ويدافع عن سيرته ومساره ويدرأ عنه اخطار السقوط وخطر الاسقاط  القسري.
هذه الدفاعات المفاجئة عن مرجعية النجف والتي كانت نجم السياسة في يوم العيد لم تأت من فراغ، فهي تعكس ثلاثة امور اساسية.
الاول: ان ثمة «ازمة» خفية كامنة بين مرجعية النجف بما تمثل من موقع ودور والمالكي وما يمثل من توجه سياسي.
الثاني: ان ثمة كماً من الانتقادات الواضحة والمضمرة التي دأبت مرجعية النجف ووكلاؤها على توجيهها لاداء المالكي ونهج حكومته في معالجة الامور، وخصوصاً في الاشهر القليلة الماضية، وبالتحديد بعد ارتفاع صوت معارضي المالكي وتكثيف حراكهم في الشارع وفي اروقة السياسة الاخرى.
والواضح ان الانتقادات المباشرة وغير المباشرة التي وجهتها المرجعية في حق المالكي في بغداد، وصلت في الاسابيع القليلة الماضية الى مستويات غير مسبوقة، لدرجة ان احد وكلاء المرجعية وخطيب جمعتها في النجف صدر الدين القبانجي حذر من ان العملية السياسية في البلاد امام خطر الانهيار بسبب ما اسماه «محنة السياسيين وليست محنة الارهاب». وترافق ذلك مع موجة تفجيرات كانت حصيلتها مئات القتلى والجرحى.
الثالث: يبدو جلياً ان كلاً من المالكي ومرجعية النجف بلغ توتر العلاقة بينهما حد الرغبة بإظهاره الى الضوء، او نشره على الملأ، وليس بابقائه طي الكتمان كما جرت العادة، وهذا الواقع يطرح سؤالاً ملحاً وهو: هل سيشهد الرأي العام العراقي مزيداً من فصول المواجهة بين الطرفين الى الحدود القصوى ام انهما لضرورات واعتبارات متعددة سيكتفيان بهذه الجولة الاولى من المواجهة على امل ان تتسارع جهود المعنيين وتتكثف بغية تدارك الوضع واعادة الامور الى مجاريها السابقة؟

اشهار التباين
قصة «اشهار» التباين والخلاف بدأتها «جماعة» المالكي. فقد خرج ابرز نواب كتلته النيابية المعروفة بائتلاف «دولة القانون» عزت الشابندر قبل ايام قليلة بتصريح انطوى على مواقف غير مألوفة، ولا سيما في مناخ العلاقة بين رئاسة الوزراء ومرجعية النجف، اذ اتهم مرجعية النجف الدينية بمحاولة انتزاع موقع الولاية عن الدولة من خلال استقطاب مشاعر الناس بانتقاد الحكومة والسياسيين.
ورغم ان المالكي ما لبث ان تبرأ من تصريح نائب كتلته، معتبراً ان ما قاله بحق المرجعية «لا يمثل المالكي ولا (حزبه) حزب الدعوة»، واستطراداً منعه من التصريح باسم الائتلاف، فإن ذلك على اهميته لا يمنع القول ان الشابندر اتى فعلاً مفاجئاً وصاخباً ومثيراً للجدال، وخارجاً عن تقاليد العلاقة السياسية بمرجعية النجف وتحديداً بين المالكي وهذه المرجعية.
والواضح ان نائب كتلة المالكي الشابندر، المعروف اصلاً بأنه رأس الحربة في كتلته واعتاد دائماً على ان يطلق المواقف ذات اللون الحاد والقاسي، الا ان المعلوم ايضاً ان انتقادات متكررة لوكلاء مرجعية النجف والذين اعتادوا ان ينطقوا بلسان حالها، قد وجهت في اتجاه حكومة المالكي وادائها وخصوصاً في الآونة الاخيرة، على نحو استشعر معه المالكي وحكومته وفريقه السياسي ان الامر لم يعد مجرد تعبير عن وجهة نظر حيال مستجد ما او تطور طارىء، بقدر ما صار سياسة ونهجاً متكرراً ومكشوفاً، بحيث بدا المشهد وكأن حكومة المالكي ومرجعية النجف على طرفي نقيض وليس بينهما اية جسور علاقة او قواسم مشتركة.
ولا ريب في ان هذا الوضع لا يناسب اطلاقاً المالكي وفريقه السياسي ولا يمكن له ان يحتمله على المستوى البعيد، وخصوصاً ان ثمة من دائرة المالكي الضيقة من بدأ يعدد سلبيات استمرار توالي الهجمات من لدن مرجعية النجف وابعادها غير المريحة على المستويين القريب والبعيد وذلك من خلال الاتي:
< ان المالكي بات يستشعر صراحة بأن خصومه التقليديين في الشيعية السياسية وفي مرجعية النجف استغلوا التطورات السلبية ولا سيما الانتكاسات والتصدعات الامنية والاخفاقات السياسية والاقتصادية، ليشرعوا في حملة شرسة ضده وضد حكومته وضد اداء هذه الحكومة على نحو قد يبدو معه وكأن «الغطاء» من مرجعية النجف عن هذه الحكومة بدأ ينسحب تدريجاً لتصير هذه الحكومة وحيدة مع اخطائها ومع اخفاقاتها.

ازمات من كل جانب
وليس جديداً القول ان واقع الحال هذا في ما لو استمر وتصاعد من شأنه ان ينعكس سلباً على حكومة المالكي ويفاقم من ازماتها التي تأتيها من فوقها ومن تحتها ومن كل جانب.
وليس بجديد ايضاً الاشارة الى الموقع المعنوي الكبير والفاعل الذي تمتلكه مرجعية النجف في الوسط السياسي الشيعي العراقي، فضلاً عن الدور الذي اضطلعت به هذه المرجعية بالاصل لتكوين التحالف السياسي الشيعي العريض الذي نجح في احتضان المالكي بعيد الانتخابات العامة الاخيرة في العراق قبل نحو ثلاثة اعوام والذي امن له رافعة كان لا بد منها للعودة ثانية الى المنصب الذي يشغله منذ عام 2005 اي رئاسة الحكومة.
لذا فإنه على المستوى البعيد سيتكرس في اذهان القاعدة الشعبية العراقية ان المالكي لم يعد موضع ثقة المرجعية كما في السابق او على الاقل ان المرجعية تحمله مسؤوليات كبرى سياسية وامنية، وهذا تطور سلبي للمالكي قد يبنى عليه مستقبلاً.
< لقد بدأ المالكي يتلمس ولا ريب ان انتقادات مرجعية النجف بدأت بالارتفاع والظهور والاشتداد بعد كل انهيار امني واسع، او بعد كل ضربة امنية كبرى يضربها تنظيم «القاعدة» الذي عاد ضمن استراتيجية معدة بدقة الى تكثيف نشاطه وحراكه على الساحة العراقية لاسباب ودوافع متعددة.
لذا فإن هذا الامر ينطوي على مخاطر وسلبيات اكبر، ولا سيما بعد ان صارت ازمة الانسان العراقي في الآونة الاخيرة ازمة امان واستقرار، اضافة الى ازمة سوء الادارة وتفشي الرشاوى والبطالة ونقصان الخدمات.
< ولا ريب في ان مرجعية النجف بدت في السابق وكأنها مع المالكي وحكومته، وذلك من خلال صمت وكلائها الذين اعتادوا النطق بلسانها حول الاوضاع او على الاقل اطلاقهم مواقف عامة وانتقادات خفيفة معقولة ومقبولة، لذا فان تعود المرجعية الى هذا المنسوب العالي من النقد والانتقاد، معناه ان وراء الاكمة ما وراءها.

طفح الكيل
وهكذا يبدو جلياً ان كيل المالكي وفريقه السياسي طفح، وبالتالي صار اتباع سياسة الصمت والسكوت على هجمات المرجعية وانتقاداتها الجارحة والصارخة معناه قبول ورضى بأمرين اثنين ينطويان على مخاطر.
الاول: ان حكومة المالكي هي بهذا الهوان وبهذا الضعف والقصور الذي تنطوي عليه تصريحات ومواقف المقربين من مرجعية النجف.
الثاني: ان المالكي بدأ يستشعر فعلاً ان الصمت والسكوت على هجمات المرجعية لم يعد مقبولاً ومستساغاً وخصوصاً امام جمهوره وقاعدته لانه مستمر ومتوال فصولاً.
وعليه، فإن المالكي اختار في الآونة الاخيرة ان يواجه بشراسة وان يبعث الى من يعنيهم الامر برسالة فحواها انه ما زال حاضراً وفاعلاً ولم يصر لقمة سائغة او رقماً منسياً يمكن تجاوزه حتى ولو كا
ن الخصم الذي يقف قبالته هو المرجعية الدينية العليا في النجف.
 فلقد اثبتت التجربة السياسية الطويلة للمالكي انه ليس من النوع الذي يهادن ولا سيما في المحطات الصعبة والمواقف الحرجة، بل اعتاد ان يذهب الى ساحة مواجهة الذين يختارون خصومته برباطة جأش. وهذا ما فعله في السابق مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وهذا ما يفعله الان في مواجهة القوى الاساسية التي تبسط نفوذها وسطوتها في محافظات الوسط العراقية وما بينهما. وهذا ما فعله ابان سنتي المواجهة الشرستين مع اقطاب «القائمة العراقية» بزعامة اياد علاوي التي نافسته فعلاً على رئاسة الحكومة وشكلت خصماً عنيداً له وكادت تطيحه في بعض المراحل.
ومع ذلك، فإن ما من مراقب الا ويدرك تمام الادراك ان المسألة مختلفة هذه المرة. فالمواجهات السابقة التي خاض المالكي طائعاً او مكرهاً غمارها، لم تكن كما هي الحال الان مع موقع ديني عالي المقام له هذه المكانة العليا في العراق وخارجه. لذا فقد لا تجوز المقارنة ولا يصح الدخول في هذه المفاضلة والمقاربة فإن الاعتقاد السائد هو ان المالكي لم يختر المواجهة اخيراً بقدر ما اختار الدفاع عن ذاته من خلال الرد على الانتقادات الاتية من صوب مرجعية النجف.
وبمعنى اخر هو يريد ان يرسم حوله خطوط دفاع ويعلن لمن يهمه الامر انه ليس في وارد الاستمرار مكتوف الايدي ازاء كل الحملات التي تستهدفه بشكل شبه اسبوعي والتي تحمله ضمناً كل تبعات الاخفاق والانهيارات الامنية المريعة.

رسالة الى الجميع
وهكذا فإن المالكي يبعث من خلال هذه الحملة المضادة التي بدأها برسالة الى الجميع، فحواها انه ليس من النوع الذي يستسلم او يقبل بأن يصير كبش المحرقة والفداء ويبدأ الاخرون من اصدقاء وحلفاء وخصوم يصعدون على سلم تناقضاته وتبايناته مع الاخرين وفي مقدمهم المرجعية الدينية العليا. ولكن هل يستطيع مواجهة موجة التفجيرات التي اودت بحياة اكثر من 60 قتيلاً ومئتي جريح؟
والمالكي اختار ان يرد رداً سريعاً وعاجلاً على المرجعية، في الوقت الذي كانت له هجمة وقائية اخرى في مجال الامن هذه المرة، اذ انه ابلغ الى من يعنيهم الامر انه سيبدأ هجوماً لضرب الارهاب بيد من حديد، لاستعادة زمام الامور والهيبة الامنية للدولة التي تضررت اكثر ما يكون في اعقاب اقتحام السجنين الاكبرين في بغداد قبل اسابيع. وبالفعل بدأت القوات الامنية الرسمية عمليات واسعة النطاق وقد حققت هذه القوات انجازات لا يستهان بها.
ولكن السؤال المطروح: هل سيقف السجال الاولي الحقيقي مع مرجعية النجف عند الحدود التي بلغها  ام انه ستكون له حدود ابعد وتداعيات اوسع؟
هذا السؤال برسم الايام القليلة المقبلة لمعرفة الاجابات حوله!.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق