رئيسيندوة

المطران جورج خضر: كل كلام لا يبرهن لغو

«جائزة جان سالمه» حاملة الرقم 15، منحت في هذه السنة -2013، الى المطران العلاّمة جورج خضر، صاحب القلم النابض بالحق والمضيء بالايمان، وهو الذي كان القراء يتابعون كتاباته في جريدة «لسان الحال» منذ اكثر من نصف قرن، بتوقيع وائل الراوي، وكان لها الصدى الطيب والايجابي، تماماً كما في كتاباته اللاحقة على مدى الأيام… كتب المطران جورج خضر في مختلف حقول الحياة، وفي مختلف فروع الكتابة… وله مؤلفات كثيرة تجاوز عددها الـ 20، أذكر منها: لو حكيت مَسرى الطفولة – مجموعة الرّوح والعروس – سفر في وجوه – الرجاء في زمن الحرب – لبنانيات – وجوه غابت – اذكروا كلامي – القدس – نجاوى – وغيرها… وبهذه المناسبة عقدت ندوة في دار «نقابة الصحافة اللبنانية» حول هذه الشخصية الفذة.

انطلاقاً من هنا، استهلت عريفة الاحتفال الاعلامية ريما صيرفي كلامها بالاشارة الى ان الجوائز التكريمية موضة مستحبة جداً في لبنان، من قِبل الفريقين: الفريق المكرِّم والفريق المكرََّم، وما أكثر الدروع وأوفر الأوسمة في بلاد الأرز، للأحياء والاموات… فهي تمنح بكرم حاتمي لأن «لا جمرك» على الجوائز المعنوية والرمزية. ولكن لحسن الحظ ان الاستثناءات متوفرة… كما الحال في «جائزة جان سالمه» التي أبصرت النور في سنة 1998، حين منحت الى الدكتور محمد خليل الباشا. وبعدها كرّت السبحة سنوياً، فكان المكرّمون من عيون المفكرين والادباء والشعراء والمؤرخين والسياسيين. واللائحة لم ولن تنتهي، طالما لبنان بخير، وكوادره موغلة في الابداع والعطاء.

محبة لا محدودة
واعتبرت ريما صيرفي، ان «جائزة جان سالمه» تمنح اليوم الى رجل من الصعب ان يتكرر، لبنانياً وعربياً، بل وفي العالم. مؤمن بلا تعصب، علماني بلا مغالاة، متنوّر، مسلم باللّه، يدعو الى التآخي والانعتاق من جرثومة الطائفية التي تدمر الانسان والاوطان، كما يقول. والأهم انه يدعو الى فصل الاديان في لبنان عن الدولة. وكان اول المطالبين باقرار الزواج المدني قبل حوالي نصف قرن.
وخلصت الى القول، عسى ان نتعلّم جميعاً من محبة هذا الرجل اللامحدودة لجميع الناس، وان نتباهى بتواضعه، ونتشرب من علمه الغزير ووفرة ثقافته…

قلم وائل الراوي
الشاعر والمفكر الدكتور اديب صعب، حكى في مستهل كلامه، قصة معرفته بوائل الراوي، من دون ان يراه… قائلاً: ذات يوم من ربيع 1969، وأنا طالب في الجامعة الاميركية في بيروت، استوقفني زميل دراسة على مدخل الجامعة قائلاً: «ألم تقرأ ما كتبه وائل الراوي عن مجموعتك الشعرية؟». وفي جريدة «لسان الحال» اليومية، حيث كان الأب جورج خضر آنذاك ينشر افتتاحية اسبوعية باسم وائل الراوي، قرأت تحليلاً لمجموعتي الشعرية «أجراس اليوم الثالث» هي من ارفع ما يمكن تسميته نقداً أدبياً. ولم اكن قد وقعت على كتابة لرجل دين عربي اللسان بهذا المستوى الثقافي – الفكري – الادبي، سعة وعمقاً. صحيح اني قرأت كتابة عربية غزيرة من هذا الصنف بعد ذلك الحين. لكنها جاءت كلها من قلم وائل الراوي نفسه وقد صار المطران جورج خضر. كتب عن شعري اعمق الكلام واجمله ولمّا يرَ واحدنا الآخربعد. وكان صديقنا المشترك، الشاعر أدونيس، اشار عليّ بأن أترك معه نسخة من «أجراس اليوم الثالث» هدية للأب جورج خضر، وانما فعلت ذلك لا بقصد ان يكتب عن المجموعة، لكن تقديراً لثقافته الاصيلة النادرة. ومنذ ذلك الحين توطّدت بيننا صداقة صافية مستمرة.

سيّد المقالة
وتابع: قلت إن ما قرأته من فكر وأدب عظيمين لرجل دين في اللغة العربية كان من ابداع المطران جورج خضر، معظم كتاباته مقالات على غرار كتّاب كثيرين حول العالم. لكننا امام كاتب لا يضيره طول كتابة او قصرها، اذ ان كلاً من مقالاته يرتسم مثل ايقونة تفتح لمن كان له عينان للنظر وأذنان للسمع أبعاداً لا تنتهي، لا بل تفتح للكثيرين عيوناً وآذاناً. وها هو اليوم على عتبة التسعين يكتب وكأنه في الثلاثين، جدّة واندفاعاً. انه سيّد المقالة في اللغة العربية.لا يمكن ان تقرأ مقالة واحدة له إلا وقد زدت علماً وحكمة وبُعد نظر. ولو قصدت ان تقتطع من كل مقالة ما هو بمثابة اقوال مأثورة، لصنّفت كتاباً قيّماً من مأثورته التي يجتمع فيها اللاهوت والأدب والفلسفة والاجتماع والسياسة. المخاطب عنده لا يقتصر على من انتمى الى الارثوذكسية، ولا الى المسيحية، ولا الى الاسلام، المخاطب عنده هو الانسان في انكساره ومحدوديته، في يأسه ورجائه، في عرائه وهو متروك وحيداً يبحث عن درب خلاص.
وخلص الدكتور أديب صعب الى القول، مخاطباً المطران العلاّمة جورج خضر: كبير أنت في جماعة صنعت للعرب نهضتيهم: النهضة الاولى في العصر العباسي والنهضة الثانية في الازمنة الحديثة. صوتاً نبوياً كنت لا في جماعتك المحدودة فقط، بل في الجماعة العربية وفي الجماعة الانسانية ككل.
وختم بقصيدة ذات أبيات ثلاثة كتبها له، ومن وحيه، في القرن الماضي:
كان وهجاً من الأقاصي، حقولاً
بليالي أحلامنا مسكونه.
مرّة مرّ بالربيع أعاصير،
وبالموج فاستحال سكينه.
وغداً يَعبر الظلام ويمضي،
تاركاً وجهه لنا أيقونه.

قصيدة عصماء
وتحت عنوان «من أين جئت بكل ما أوتيته؟» ألقى الشاعر علي محمد هاشم قصيدة عصماء، ومما جاء فيها:
من اين جئت بكل ما أوتيته
فوقيتنا من لوثة البهتان؟!
أفهمتنا، ان  النفوس متى صفت
ستكون اوسع من مدى الازمان
اعطيتنا ما لا نراه بأعين
نوّلتنا ما لا يقاس بفانٍ
علمتنا ان التّدين حكمة
وتبصُّر في قدرة الرّحمانِ
وقرنت بين القلب، والفكر الذي
دوماً يظل منارة الوجدان
وفتحت ابواباً تقادم غلقها
ورفعت عنا وطأة الجدران
وكأن، في يُمناك، كف نبوّة
وكأن في يسراك فيض أمان.

بين القول والصمت
ومما جاء في كلام المطران جورج خضر في هذه المناسبة: اعترفت في غير مكان ان معالجة الكلمة صعبة عندي لكوني في التماس دائم لما وراء الكلمات، لمعنى المعاني. لما كان قبل تجسدها. أحس ان عندي انخطافاً الى ما كان قبل صورة الكلمات. ربما كان هذا ضعفاً امام ضرورة تجسيد المعاني او تصويرها. إذاً لماذا قبلت ان اكون كاتباً، النساك عندنا يحذروننا من استخدام الكلمات لعلمهم بالخيانة الممكنة في الكتابة. هل خوفاً منها ما نطق النساك الا قليلاً مع انهم مسؤولون عن التواصل؟ أليست الحقيقة قائمة بين القول والصمت؟
وختم قائلاً: اظن ان من حسنات ما سميتموه احتفالاً كهذا انه بطبيعته متطلب بحيث يتتلمذ المحتفى به على المتكلمين لعلمه انهم يتوقون الى الوجه الحسن عنده او ما يحسبونه كذلك ولا سيما ان لقاء كهذا تلاقي وجدانات اي حفلة حب تبغي التنقية. كل كلام لا يبرهن لغو وقد اعتبرت معيتكم في هذه الامسية نداء الى وجداني كي اتطهّر وابقى خادماً لما يجمعنا واستقي منكم ماء يتدفق.

دولة مقصّرة
اما صاحب الجائزة جان سالمه فقد القى كلمة مقتضبة، تتعلق بتقصير الدولة في القيام بما يتوجب عليها من دعم لمنتديات الثقافة الوجه الحضاري للوطن، مشيراً الى انه عندما كرّمت فرنسا أمين معلوف، ابنها بالتبني بجائزة كونغور، ثم بانتخابه عضواً في الاكاديمية الفرنسية، تساءلت مراراً وتكراراً ماذا فعلت دولتنا له، هو الابن البار؟ هل انتهزت هذه المناسبة لتصدر له مثلاً طابعاً بريدياً يؤرخ هذا الحدث المهمّ الذي فيه تكريم كل لبنان؟ هل فكرت الدولة يوماً في اصدار عملة تحمل رسوم عظمائنا مثل جبران وغيره؟ ماذا فعلت الدولة من اجل كل الذين اضاءوا صفحة لبنان، ورفعوا شأنه في العالمين؟
الجواب هو: تقريباً لا شيء!
واضاف: مع ان ما نحلم به لا يرهق ميزانية الخزينة، ولا يتطلب جشياً من الأجراء، ولا ناطحة سحاب تشاد خصيصاً لهذا الغرض. لا، ان ما نتمناه هو مجرد عمل روتيني لا يستلزم الا الرغبة والارادة لنصبح على مستوى دول العالم.
على مَن تقرأ مزاميرك يا صاحبي؟!.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق