تشكيل

بول غيراغوسيان «من الشعب واليه»

معرض استعادي للتشكيلي الاستثنائي الكبير بول غيراغوسيان يعد حدثاً مهماً ومنتظراً ايضاً بالنسبة الى الجمهور الذي احبه واحب فن هذا الكبير الذي سمي بحق «فنان الشعب» لتواضعه وانسانيته وتعاطفه مع قضاياهم، كما بالنسبة الى الراغبين في اقتناء التحف الفنية والاعمال النادرة، فكيف بالحري اذا كانت لوحات فنان معروف؟ انها مرغوبة جداً ومرتفعة الثمن. ولحسن الحظ انه كان غزير الانتاج رسم الكثير، باع الكثير، لكن مجموعة لا بأس بها من اللوحات لم تزل تتوافر للعرض وكافية ليتشكل منها  المعرض الاستعادي الذي نحن في صدده.

بمناسبة مرور عشرين عاماً على وفاة الفنان بول غيراغوسيان، استضاف مركز بيروت للمعارض، معرضاً استعادياً له  تحت عنوان «بول غيراغوسيان – الحالة الانسانية» يستمر لغاية 26 كانون الثاني (يناير) 2014، ويعتبر هذا المعرض الاكثر تكاملاً للفنان الراحل، كونه يتضمن اعماله على مدى خمسة عقود، ويشكل اعادة تقويم لحياة ونتاج شخصية فكرية وفنية رائدة في لبنان والعالم العربي.
يشرف على المعرض كل من سام بردويل، ونيل فيلراث من Art Reoriented، وهي مؤسسة متعددة الاختصاصات تتخذ من ميونخ ونيويورك مقراً لها، ويتضمن اكثر من 100 لوحة، واعمالاً أخرى على الورق لم تعرض من قبل، الى جانب ملفات ارشيفية اصلية. ووصف كل من بردويل وفيلراث التجربة بـ «المثيرة» لاعادة استكشاف بول غيراغوسيان نظراً للاعمال الفنية والوثائق التي نادراً ما ظهرت للعيان، والتي وفرتها المؤسسة وقدمتها لنا لتعميق ابحاثنا.

الانسان وفصول الحياة
اما من ناحية الموضوع، فلطالما كان الانسان له الاولوية في فن بول غيراغوسيان: هذا الانسان كان الغاية النهائية لرسوماته ان بالفحم او بالقلم او بالالوان او الزيوت: فالناس كانوا هاجسه في كل الاوقات، رسمهم في حالاتهم اليومية، في افراحهم واحزانهم، في موتهم وولادتهم، في اعراسهم ومآتمهم.
ومما لا شك فيه ان بول غيراغوسيان احب الحياة فرسمها في كل فصولها: رسم الاطفال الذين يعتبرهم الضوء والامل بالنسبة اليه، كما النساء والشيوخ والفقراء. «بول هو رسام الشعب لانه كان ينقل كل ما يشاهده ويتأثر به من تعاسة وحنان وحب، كان يرسم الناس من حوله ومحيطه بدءاً بعائلته، زوجته واولاده الذين حين كبروا صارت شخصياته اطول» وفق ما اوضحت ابنته سيلفا غيراغوسيان.

اساليب وتأثيرات
اما لجهة الاسلوب، فقد تنقل غيراغوسيان بين اساليب عديدة دون ان يبتعد عن التجسيدية التي بدأت بالتأثيرات التراثية والايقونية البيزنطية وانتهت بالظلاليات التي توحي بقامات انثوية لها خصوصياتها. ومعروف انه ادخل على لوحته في البداية ابعاداً فرعونية وبعض خصوصيات الديانات والحضارات ولم ينس الايقونات في الاربعينيات والخمسينيات لكنه ابتعد عن تقوقع الاجساد الى اتجاه عمودي ممشوق وفي لوحاته التي تتجه الى السردية البصرية نجد خيالات مكتملة الاعضاء. ولعل احب ما عند بول انه يخبرنا بداية القصة ويترك لنا حرية اتمامها كما يحلو لنا.
وبالعودة الى المعرض فقد تصوّره المشرفون كمساحة لا تمتد بالطول، وتتضمن غاليريهات متّصلة تعرض بعض الأعمال بناءً على المواضيع الأساسية التي ركز عليها غيراغوسيان في فنه وكتاباته طوال سنوات حياته. تساؤلات حول الذات والعائلة والنساء والأمومة والعمال وحياة الشارع والإيمان واليأس والمنفى والانتماء والألم والروحانية… هي مواضيع تتكرر في عناوينه التي تقود الانفعالات في بحث الفنان عن التعقيدات غير المتناهية للحالة الانسانية. إن الأبواب التي تخرج من كل غاليري تؤدي إلى بنية مستديرة في وسط المعرض.

من الستينيات
وجدير ذكره ان  الغاليري المركزية تضم أفضل الرسومات التي أبدعها بول غيراغوسيان في الستينيات والسبعينيات للتصاميم التي أنتجها لعروضات مسرحية من بعض معاصريه والشخصيات المسرحية اللامعة أمثال جلال الخوري وأسامة العارف ونضال الأشقر. وقد علقت على الجدران التي تواجه الخلفيات العملاقة، لوحات بورتريه تمثل الكتّاب والفنانين والمفكرين وعدداً من أصدقاء الفنان وكأنها تشاهد إعادة تمثيل المسرحيات الدرامية نفسها التي صممت لأجلها اللوحات نفسها.
ولد بول غيراغوسيان في العام 1925 من عائلة ارمنية، وعاش تجربة المنفى منذ صغره. بدأت تظهر موهبته في سنوات المدرسة في القدس. وباشر رسم البروتريهات لدعم والدته مادياً، وتابع هذا النمط طوال أيام حياته وقد عرضت بعض من لوحات البورتريه تلك. وفي الأربعينيات تسجل في استوديو ياركون للفنون في يافا. بعض الروائع التي كانت نتيجة التدريب الذي تلقاه في تلك الفترة مثل «الأزمة» (1948) وإمرأة في غرفتها (1949) هي معروضة أيضاً. في العام 1948، تم نقل العائلة من القدس إلى لبنان من قبل البريطانيين، البلد الذي اعتبره الفنان وطنه النهائي، ومن  هنا صار واحداً من أهم الفنانين في جيله. معرفته المباشرة بعمل العديد من المعاصرين من خلال الصداقات مع مصطفى فروخ وسيزار الجميل أتاحت له تبني الفن التقليدي. لكنه تخلى في ما بعد عن التوجه الأكاديمي المتبع من الكثيرين من جيله لتطوير تركيبة تجريدية اشتهر بها.
المعرض تضمن أعمالاً مهمة من تلك المرحلة مثل Depart (1957) وLes Amis (1958- 1962). وخلال العقدين اللذين تليا ذلك، حيث نجح غيراغوسيان في تحرير نفسه  من الشخصية الانسانية المدركة.
لكن مهما بلغت تساؤلاته الفنية، لم يستطع غيراغوسيان تخطي بشكل نهائي هوسه بالتعابير غير المحدودة للحالة الانسانية. هذا يعود ربما الى أنه أتى من الشعب واليه: من المنفى والمهاجر والعامل والغريب. مما يفسر ربما مدى تعلق الكثيرين بفنه وشخصه.

كوثر حنبوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق