رئيسيسياسة عربية

فلسطين: الانتفاضة الثالثة تدق ابواب اسرائيل

لا شك في ان الحدث الفلسطيني بكل عناوينه وتمظهراته يعيش منذ فترة، خلف المشهد الاعلامي العالمي، اذ يحجبه عن الرؤية والانظار والاهتمام الاعلامي، حدثان: الاول، مزمن نسبياً وهو الحدث السوري المشتعل منذ عامين ونصف العام، وما يندرج تحته من عناوين فرعية وحوادث مشتعلة، والثاني مستجد وهو الحوار الاميركي – الايراني الذي بدأت معالمه ونذره على هامش اجتماع الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك في الاسبوع الماضي.

 الموضوع الفلسطيني عاد في الايام القليلة الماضية، ليتقدم نسبياً الى الواجهة من خلال امرين مستجدين فرضا نفسيهما على صفحة احداث المنطقة بشكل لا يمكن تجاهله.
الامر الاول: اقدام فلسطيني على قتل جنديين اسرائيليين بفارق 48 ساعة بين الاول والثاني وفي ظروف عسكرية تعد غامضة وملتبسة، اذ لم تنجح السلطات الامنية الاسرائيلية في اكتشاف قتلة احد الجنديين الاسرائيليين الذي سمي «قناص الخليل» بعدما اختفى نهائياً.
الثاني: التصاعد الواضح والجلي المنسوب لاعتداءات الاسرائيليين على المسجد الاقصى في القدس، اذ سجل خلال الاسبوع الماضي ثلاث عمليات اقتحام ودخول الى باحات المسجد، كان اكثرها «عدوانية» دخول جماعات يهودية متطرفة تحيي «عيد العرش اليهودي» عنوة الى باحات المسجد لتحتفل بمراسم هذا العيد.
وعليه، فإن ثمة من مراقبي الشأن الفلسطيني والصراع العربي – الاسرائيلي من استوقفه ملياً مشهد التصعيد بين الفلسطينيين من جهة والاسرائيليين من جهة اخرى.
صحيح ان مجموعات يهودية متشددة لم تتوقف طوال الحقبة الماضية عن اقتحام المسجد الاقصى المقدس بالنسبة الى السكان المسلمين، فهي باتت مشهداً مألوفاً، خصوصاً انها تقترن مع عمليات اذلال واساءة للمصلين العرب الراغبين بأداء فريضة الصلاة في فنائه، وخصوصاً ان اليهودية المتشددة تعتبر المسجد الاقصى هو مكان هيكل سليمان.

تصعيد متبادل
وصحيح في المقابل ان الفلسطينيين ما تركوا فرصة للنيل من جنود مستوطنين اسرائيليين والحاق الاذى بهم الا واستغلوها، لكن الثابت ان الامر في هذه المرحلة مختلف وينطوي على ابعاد عدة ويحمل في احشائه احتمالات شتى.
فالمعلوم ان التصعيد الاخير من الجانبين يأتي فيما تدور بعيداً عن الاضواء والاعلام، مفاوضات بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني بدأت جلساتها منذ شهر آب (اغسطس) الماضي، ومن المفترض حسب التفاهمات التي رعتها واشنطن ان تستمر ستة اشهر.
والمعلوم ايضاً، ان هذا التصعيد المتبادل بين الطرفين يأتي ايضاً في مرحلة تشهد فيها المنطقة عموماً احداثاً بارزة لا يمكن لهذين الاثنين، الا ان يأخذاها بعين الاعتبار كونها ستنعكس بشكل او بآخر على الوضعين الفلسطيني والاسرائيلي في آن معاً.
لذا فإن الضالعين في الشأن الفلسطيني يقاربون مسألة التصعيد الفلسطيني من منطلق انه رسالة واضحة الى من يعنيهم الامر وفي المقدمة تل ابيب والادارة الاميركية، فحواها ان الجانب الفلسطيني وتحديداً السلطة الفلسطينية التي شرعت في مفاوضات وحوار مع الاسرائيليين رفضته بشكل قاطع غالبية الفصائل والقوى الفلسطينية، معتبرة انه غير ذي فائدة كونه تجربة مكررة وفاشلة، ما زال يحتفظ في جعبته بخيارات واوراق بديلة لم يسقطها ابداً، وهي خيارات المواجهة على اشكالها، والتصعيد على انواعه.
فلم يعد خافياً ان السلطة الفلسطينية نفسها التي اسقطت بناء على اتفاقية اوسلو المبرمة في العام 1993، من الوثيقة الاساسية لمنظمة التحرير الفلسطينية بند الكفاح المسلح، اعاد زعيمها ورمزها ا
لتاريخي الراحل ياسر عرفات الى احياء الذراع العسكرية لحركة «فتح» في عام 1999، بعدما اطلق عليه كتائب «شهداء الاقصى»، وذلك عندما شعر بأن الحكومة الاسرائيلية لا تريد المضي قدماً في تنفيذ مضامين اتفاقية اوسلو، وخصوصاً لجهة مسألة عودة اللاجئين المعروفة بحق العودة، فضلاً عن مصير القدس نفسها.

 انتفاضة ثالثة
وبناء على هذه التجربة، التي ما زالت حية تتفاعل في الوجدان الفلسطيني كونها لم يمر عليها الزمن، فإن ثمة من بدأ يربط بين التصعيد الفلسطيني المفاجىء والنوعي نسبياً، (قتل الجن
ديين) والمسار المتعثر للمفاوضات الدائرة منذ نحو شهرين خلف ابواب موصدة والشرط الاول لرعاتها الدوليين الا يتم تسريب اي امر عما يدور على طاولتها.
واللافت في هذا الاطار ان الجانب الفلسطيني حرص ولو بشكل خفي على التعامل مع حادث قتل
الجنديين الاسرائيليين على انه ربما يكون مقدمة لازمة لقيام انتفاضة فلسطينية ثالثة، لكن السلطات الاسرائيلية بادرت الى التقليل من اهمية حادث مقتل جندييها خلافاً للعادة، واستبعدت في الوقت نفسه ما اسمته استفحال الارهاب الفلسطيني.
واذا كان من المصلحة الاساسية للسلطات الاسرائيلية ان توحي لمن يعنيهم الامر بأن الفلسطينيين هم في حال سكون واستسلام وانتظار، وايضاً من صالحها الا تكون المفاوضات الدائرة بينها وبين الجانب الفلسطيني تحت وطأة اي عمل عنفي من الجانب الفلسطيني، وخصوصاً في هذه المرحلة حيث القيادة الاسرائيلية تفصح عن هواجسها ومخاوفها من بدء الانفتاح بين واشنطن وطهران في الآونة الاخيرة، معربة عن خشيتها من ان يكون مؤدى ذلك على حساب «الكيان الصهيوني»، فإن السؤال المطروح بإلحاح: هل من مصلحة الفلسطينيين الان ان يعودوا الى كنف خيار الانتفاضة، واستطراداً هل في مقدورهم فعل ذلك، او بمعنى اخر هل تسمح لهم الظروف والمعطيات الداخلية والاقليمية الدولية باللجوء مجدداً الى هذه الورقة الصعبة؟

ورقة احتياط
لم يعد خافياً انه ليست المرة الاولى التي يلوح فيها الفلسطينيون بهذا الخيار، فهو بالنسبة اليهم الورقة الاحتياطية التي يلجأون اليها كما سدت في وجههم السبل واوصدت المنافذ، وبدا وكأن العالم قد نسيهم تماماً وتناسى قضيتهم المحقة.
اذ من المعلوم ان الانتفاضة الاولى التي بدأت في النصف الثاني من عقد الثمانينيات من القرن الماضي، والتي سميت بانتفاضة الحجارة، اندلعت بعدما استشعر الفلسطينيون ان العالم نفض يديه من قضيتهم، وخصوصاً بعد الهزيمة التي حلت بمنظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها اثر الاجتياح الاسرائيلي الواسع النطاق للاراضي اللبنانية في صيف عام 1982.
اما الانتفاضة الثانية والتي بدأت في ايلول (سبتمبر) عام 2000، فهي اتت في اعقاب تمنع الاسرائيليين عن استكمال تنفيذ ما تعهدوا به في اتفاقية اوسلو لجهة اعطاء الفلسطينيين دولة كاملة السيادة في الضفة الغربية على اساس ان تكون القدس الشرقية عاصمتها.
وعليه، ثمة من يرى ان الظروف تكاد تكون مشابهة، فالعالم كله مشدود بانظاره الى امكنة اخرى وحوادث اخرى، ظهرت في اعقاب ما صار يعرف بـ «الربيع العربي»، وهي احداث دراماتيكية تتوالى فصولاً سواء في مصر او في الساحة السورية او في لبنان.
وهذا العالم نفسه، صار يعتبر مسألة الصراع العربي – الاسرائيلي على اساس انه جزء متصل بهذه الاحداث والتحولات وليس جزءاً منفصلاً، له حيثيته ومكانته الخاصة، وحتى قدسيته عند الانسان العربي، سواء ذلك المأخوذ بتداعيات الربيع العربي او الواقف موقف الكاره لهذا الفصل السياسي.
واضافة الى ذلك، فإن العالم والفلسطينيين والاسرائيليين انفسهم، تعاملوا من الاساس مع المفاوضات الدائرة حالياً على قاعدة انها امر مفروض، وانه لا يمكن ان تنجح في انجاز اي تقدم، حيث اخفقت في السابق.
وفي كل الاحوال، فإن الجانب الفلسطيني المنخرط منه بالمفاوضات او المعارض لها على حد سواء، لن يكون مستاء او متضرراً اطلاقاً من حضور ورقة الانتفاضة مجدداً الى الواجهة، فالمفاوضون هم في امسّ الحاجة اليها لكي تساعدهم على التصدي لغطرسة وعنجهية المفاوض الاسرائيلي للذهاب الى طاولة الحوار والتفاوض مسلحاً بعشرات الاوراق.

 الراديكاليون
اما الجانب الفلسطيني الراديكالي المعارض من الاصل للعودة الى اسلوب التفاوض مع العدو، فإن من مصلحته عودة مصطلح الانتفاضة الى قاموس التداول السياسي والاعلامي، خصوصاً ان بعض فصائله ولا سيما حركة «حماس
» باتت بفعل سلسلة التحولات والانتكاسات التي منيت بها والضربات السياسية التي تعرضت لها بشكل متتابع منذ نحو عامين، بحاجة ماسة الى ما يعيد الاعتبار الى منطق القوة والانتفاضة وهي التي عكفت في الاسابيع القليلة الماضية على اجراء نوع من استعراض القوة داخل القطاع الذي يخضع لسلطتها وهو قطاع غزة.
ومع ذلك كله، فإن ثمة من المراقبين من يرى بأن احتمال العودة الى رحاب الانتفاضة يظل وارداً بالنسبة الى الجانب الفلسطيني ولكنه الان احتمال ضعيف، وكل ما يقوم به الجانب الفلسطيني هو عملية تذكر لمن يعنيهم الامر بأنه احتمال ما تم ولم يسقط كلياً من بنك الخيارات والحسابات.
وفي المقابل، فإن الجانب الاسرائيلي يبدو عازماً هذه المرة على عدم ايصال الامور مع الجانب الفلسطيني الى مرحلة الانسداد الكامل، حيث يضع الفلسطيني امام خيار واحد واحتمال وحيد وهو اللجوء الى اساليب الانتفاضة بما يعني العودة الى استخدام السلاح واشكال العنف الاخرى، بما فيها القنابل البشرية او اشكال اخرى يمكن استنباطها، وذلك على غرار ما حصل في المرتين السابقتين.
لذا، فإن الاسرائيلي وهو يسمح لمستوطنيه بممارسة عمليات استفزازية منظمة للفلسطينيين، وخصوصاً في حرم المسجد الاقصى وفي مدينة الخليل، حيث الحرم الابراهيمي، فإنه يبادر الى اتباع اساليب استرضاء الجانب الفلسطيني، فهو على سبيل المثال اعلن في الآونة الاخيرة عن السماح بإدخال مواد البناء الى غزة وقطاعها، فيما وافق على زيادة عدد السجناء الفلسطينيين الذين سيفرج عنهم في القريب العاجل.
ولكن كل ذلك على اهميته، لا يعني ان كلا الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي سيعتصم بالسكينة والصبر طوال هذه الفترة، فهما محكومان ايضاً باستفزاز بعضهما البعض لزوم اوراق المفاوضات الدائرة حالياً، ولان كل طرف مضطر الى ان يقول للطرف الثاني انه لم يزل قادراً على الحراك ولم يرفع رايات الاستسلام والقنوط.

ا. ب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق