آدب

ندوة حول كتاب «قصتي مع منح الصلح» لجورج شامي

أعرف جورج شامي منذ زمن بعيد… عرفته أولاً من خلال كتاباته الصحافية وأعماله الإبداعية في الزمن الجميل، ومن ثم، عرفته معرفة شخصية في أثناء تعاوني معه في ميدان الصحافة، وذلك ما قبل أربعة عقود تقريباً. ومع مرور الأيام والسنوات، تحوّلت علاقتي به الى صداقة بلغت حدّ الأخوة.
الى جانب امتهانه الصحافة بحب وشغف ومسؤولية منذ سنة 1951، كتب جورج شامي العديد من الروايات والمجموعات القصصية التي يشار إليها بالبنان، وهو ما زال حتى اليوم ينكب على الكتابة القصصية، وقد صدر له أخيراً، مجموعة جديدة بعنوان «كلب النافذة» المستمدة من الحياة، بكل ما فيها من أحداث ومشاهدات ومفاجآت وألوان… وهي ان دلّت على شيء، فإنما تدّل على طول باعه في كتابة القصة القصيرة التي تتحوّل تحت قلمه الى رائعة فنية من لحم ودم، ومستوفية الشروط كافة، سواء في اختيار الموضوع وطرافة معالجته، أو في الأسلوب المشرقط الذي يتميّز به، أو في ملاحظاته الدقيقة المأساوية حيناً والضاحكة حيناً آخر…
أكثر من ذلك، فان جورج شامي يعمل حالياً، على نشر تراثه الصحافي والفكري في كتب تضم كل ما كتبه من مقالات وبحوث ودراسات وحوارات… وهو الذي تعاطى مع مختلف فنون الكتابة، ويختزن في داخله معرفة شاملة… وصدر منها حتى الآن، كتاب بعنوان «إذا نطقوا … علامات فارقة»، وآخر بعنوان «زمن الحداثة… قامات عصيّة على النسيان»، وكتاب «قصتي مع منح الصلح» الصادر حديثاً عن «دار نلسن للنشر» في بيروت، الذي دارت حوله مناقشة في «دار الندوة» بحضور شخصيات أدبية وسياسية وفكرية وإعلامية واجتماعية…
افتتح المناقشة سليمان بختي باسم «دار نلسن» قائلاً: «نلتقي اليوم حول كتاب مختلف يكتسب قيمته من مصدرين: الأول التقاء الصحافة والفكر على مستوى واحد، والجهد الصحافي المميّز الذي بذله المؤلف جورج شامي في الإضاءة وإعادة الإعتبار لفكر الراحل منح الصلح، والروح التصالحية التي دعا إليها بين مكونات المجتمع اللبناني، وعلاقة معنى اللبنانية بالعروبة. ولطالما اعتبر منح الصلح ان الديمقراطية هي بحدّ ذاتها مصالحة وممارسة النظام الديمقراطي هي المصالحة المستمرة داخل شعب من الشعوب بين كل الآراء والمشاعر والمصالح الموجودة. والمصدر الثاني، انه محاولة نبيلة وكريمة وصادقة في تأطير وتوثيق إرث مفكر مميّز من وزن منح الصلح».
وذكر سليمان بختي ان «لكل منّاقصته مع منح الصلح، ولكن لجورج شامي قصة مختلفة، لأنها كشفت عن كنز مخبوء من تراث الصلح المترامي في الصحافة اللبنانية والعربية، موقعاً أو بلا توقيع، أو بأسماء مستعارة، أو بالوكالة…».

أجمل ما في الكتاب
ثم تحدث بشارة مرهج باسم «دار الندوة» قائلاً: «اللقاء الذي انعقد ذات يوم في عام 1980 بين صحافي لامع متمكن من اللغة العربية يعترف بفضل الاستاذ – ولا يعرف الفضل إلا ذووه – واستاذ محب للعطاء تفيض خزائنه بالمعارف والمقاربات الساحرة وكلاهما اديب بارز ومثقف عميق وقارىء نهم يخضع لعرش الكلمة. انه لقاء بين شخصيتين لكل منهما باع طويل في عالم الادب والصحافة والنقد».
ويعتبر بشارة مرهج، ان «الأجمل في هذا الكتاب الذي جمع بين منح الصلح المفكر العربي الكبير وجورج شامي الاديب البارز الذي آثر الصحافة على الجامعة، ذلك الحوار الداخلي بين الاثنين والذي تطل ملامحه بين السطور كلما توغلت في صفحات الكتاب وصولاً إلى مشهد التفاعل الذي يجمع ما بين الدفتين ارتقاء إلى وحدة العبارة وسطو الفكرة».
ويرى مرهج، انه «إذا كان المؤلف قد وضع كتابه تحت عنوان «قصتي مع منح الصلح» فهو حر بذلك، ولكن عندما تفرغ من قراءة الكتاب ترى المضمون يتخطى القصة ويتجاوز الاتفاق بين الاثنين لتبقى تلك المآثرة الادبية والشحنة السياسية التي ولدها العمل المشترك، في مرحلة سياسية تميزت بإهمال الكلمة وتهميش الرأي وتعطيل العقل وانتظار الحل تلوح بيارقه من الخارج فيما هو مضمر وموجود لدى المجتمع اللبناني نفسه الذي رفض المتاريس والاقتتال والغريزة».

مزايا لا نهاية لها…
ولفت أنطوان يزبك في بحثه الى ان «الصحافة اللبنانية بلغت في القرن الماضي درجةً عاليةً من الرقي، وهي التجربة الرائدة التي تمكّنت بسلاح الكلمة من أن تليّن عود دعاة تمزيق الوطن وتفتيته إلى دويلات، وما كتبه منح الصلح وجورج شامي آنذاك كان رأسماله الكلمة الإيجابية الصريحة، التي تسمّي الأشياء بأسمائها، كما هي دون مواربة أو خداع أو حيل يكون الهدف منها التسويق لمشاريع تخدم «أجندات» ومآرب هذا أو ذاك في الداخل أو الخارج عربياً وعالمياً».
ويقول يزبك، إنه إذا أراد تعداد مزايا هذا الكتاب فلن ينتهي، «فهو كتاب في الإيديولوجيا المجتمعية إذا أردنا أن نصنفه في خانة علم الإجتماع، وتحديداً في النظرة النقدية للمجتمع العربي، وهو كتاب في السياسة، إن من حيث مراقبة الأحداث أو تحليلها أو التعليق عليها وصولاً الى دراستها بعين الناقد السياسي المجربّة، وهو أيضاً كتاب حول رصد الصراعات والحروب الأهلية والخارجية ومعرفة الرابط بينها ومفاعيلها وتداعياتها على الساحة اللبنانية والعالمية. وهو أيضاً خلاصة تجارب وسيرة ذاتية لمفكّرين تداخلت أفكارهما بشكل عجيب فريد، حتى صارت ركناً أدبياً وأثراً مكتوباً يعصى على أكثر نقاد النصوص المكتوبة تجربةً ومهارةً أن يستنشفوا أصول الأفكار ونسبتها وتولّدها وانبثاقها مثل كل ما هو حيّ وفاعل في الوجود. وفوق كل ذلك يعتبر هذا الكتاب تجديداً للميثاق اللبناني ويقطع الطريق على كل خطاب فوقي واستعلائي يصدر من هذه الطائفة أو تلك: حيث يزدهر الفكر ويستوي العقل ويسود المنطق تمحى الطائفية ويتراجع الجهل وتكمّ أفواه التعصّب وتتراجع الحسابات الضيّقة وأنانية الفرد أمام مصلحة الأمة وبقاء الوطن».

وثيقة تاريخية تشهد على مرحلة حرجة
أما أنطوان سيف (الحركة الثقافية – انطلياس) فهو يرى ان كتاب «قصتي مع منح الصلح» هو أيضاً وخصوصاً كتاب قديم جديد يحمل في رأس صفحته الأولى اسم جورج شامي بخط صغير، واسم منح الصلح، في العنوان، بخط أكبر. أناقة جورج شامي الظاهرة، ورهافة قلمه، ونبرة صراحته، يمكن قراءتها كتحّية تقدير لهذه الشخصية الثرة التي حملها منح». وتساءل سيف:«وثيقة شخصية أم فضح تواطوء أريد له أن يكون مخبوءاً لربع قرن؟».
ويجيب: «لا. هو فعلاً أوسع من ذلك بكثير، في الشكل كما في المضمون. إنه وثيقة تاريخية تشهد على مرحلة حرجة، كما كانت ترى حينها على أرفع مستويات المسؤولية السياسية من منصّة رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الياس سركيس في السنتين الأخيرتين من عهده المضطرب بالعمليات العسكرية من قوى الداخل المنقسمة ثنائياً بين المنطقة الشرقية المسيحية والمنطقة الغربية حيث القوى الفلسطينية و«الحركة الوطنية» اللبنانية. أضف إلى ذلك حروب المحيط، برعاية وحماية وأحياناً لجم القوى الدولية: كل ذلك على الساحة اللبنانية».

خذوا الحكمة من اليابان!
أما المحتفى به، وبكتابه الجديد، جورج شامي، فاعتبر ان «أجمل إبداعات الإنسان، تلك التي صارت مشاعاً يستمتع به الناس، من كل الأجناس، دون استثناء ودون ما اجتهاد منهم لمعرفة صانعها أو صانعيها، لأنها صارت من الذاكرة الجماعية التي ذاب فيها مبدعها الى حدّ الانصهار!
«يدعوني إلى هذا التمهيد ما عزم عليه موسيقيّ ياباني من أن يمتنع عن توقيع أعماله، تماماً كما فعل منح الصلح، وكل طموحه أن تعانق موسيقاه العالم كلّه، إدراكاً منه أن صانع الجمال، بشكل عام: نحاتاً كان أم رسّاماً، موسيقياً أم مفكراً، كاتباً أم شاعراً، مهندساً معمارياً، أم عالماً فيزيائياً، عالماً كيميائياً أم مبتكر صواريخ، إذا أبدع فلا ليبقى إسمه، بل ليبقى إبداعه!».
وخلص الى القول: «لقد أدرك منح الصلح بحدسه وبعد نظره أن للإبداع روحانيةً لا تساوم، لا على اللون ولا على الصورة، ولا على الشكل ولا على المضمون… لا على المادّة ولا على الدعايات الجوفاء، لا على الجاه والغطرسة ولا على الوداعة والقناعة، وأنّ هذه الروحانية تكتفي فقط بتمجيد مبدعها في نكرانه لذاته، لأنّ أعماله تنطق بإسمه!».

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق