رئيسيسياسة عربية

العراق… القاعدة تعود باستراتيجية وتكتيك جديدين

قدم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مقاربة موضوعية وتشخيصاً معقولاً للتدهور الامني الذي شهدته الساحة العراقية خلال الاسابيع الماضية، عندما اشار الى ان هذا التدهور على جسامته وخطورته كان عبارة عن «انتكاسات لا ترقى الى مستوى الانهيار».

لم يعد خافياً لدى الراصدين للشأن العراقي ان المجموعات الارهابية التي عادت لتحضر بقوة الى بلاد الرافدين، ارادت منذ فترة، وبالتحديد منذ حادثة اقتحامها الشهيرة لسجنين اساسيين في قلب بغداد، وهما سجن ابو غريب صاحب الشهرة الطائرة وسجن التاجي، ونجاحها في اطلاق ما يفوق الـ 800 سجين معظمهم ينتمون الى تنظيم «القاعدة»، ان ترسي معادلة امنية – سياسية جديدة، عنوانها «الانهيار التام» والتردي الكامل للوضع العراقي، وذلك توطئة للانتقال الى مرحلة تحمل مواصفات مختلفة، ليس اقلها ان هذه المجموعات الفالتة من عقالها، عادت لتمسك الارض وتوجد توازن رعب مع حكومة المالكي الماسكة بحبل السلطة على غرار تجارب سابقة لم يمر عليها الزمن، الى درجة ان ثمة اصواتاً صدرت تحذر مما اسمته اسقاط التجربة العراقية واعادة عملية الامور الى الوراء.
قفاز التحدي الكبير الذي رمته هذه المجموعات في وجه المالكي وحكومته من خلال حادثة اقتحام السجنين البغداديين، توجته هذه المجموعات بضربة امنية اخرى ربما كانت اكثر دوياً واكثر ايلاماً.
ففي اليوم الاول من الاسبوع الماضي، كانت بغداد ومحافظات عراقية اخرى على موعد مع موجة عنف وقتل ودمار جديدة.

انفجار 18 سيارة
فقد انفجرت في وقت واحد تقريباً 18 سيارة مفخخة في العاصمة العراقية وفي البصرة، وفي غيرهما مما ادى الى سقوط ما لا يقل عن 330 قتيلاً وجريحاً.
وبقدر ما كانت ضربتا اقتحام السجنين ويوم السيارات المتطايرة اشلاء ودماراً موجعتين للمالكي وللعراقيين عموماً، فإنهما انطوتا على ابعاد وعبر ورسائل واسعة النطاق اراد تنظيم «القاعدة» ارسالها خلال وقت قصير الى من يعنيهم الامر والبحر السياسي الذي  يسبح فيه.
ولعل ابرز هذه الابعاد التي يمكن للمراقبين استخلاصها من هذين الحدثين المدويين وما سبقهما وتلاهما من تطورات واحداث خلال الاشهر الثلاثة الاخيرة الاتي:
< ان تنظيم «القاعدة» والمجموعات الارهابية المنضوية تحت لوائه او المتعاونة معه اراد ان يثبت انه عاد الى الساحة بقوة، وان لديه امكانات استثنائية على حشد مئات المقاتلين والحركة والفعل بجرأة وتحد، ولذلك لم يكن مفاجئاً ان يختار التنظيم العارف بخريطة ونقاط الضعف والقوة لدى النظام العراقي، هدفاً ضخماً لا يمكن التستر عليه او تجاوزه، وذلك من خلال اقتحامه سجن التاجي وسجن ابو غريب الواقعين في المناطق الحصينة التي كانت تعتبر حتى يوم اقتحامها قلعة منيعة وآمنة لا يمكن اختراق اسوارها.
وسواء كانت عملية اقتحام السجنين نفذتا بتواطؤ من داخل القوة الامنية المولجة بحماية السجنين الى حد ما ذهب اليه المالكي وحكومته في معرض بحثهما عن مسؤولية الحدث، او كان الاقتحام بفعل خطة محكمة وضعها المهاجمون والتزموا بها معتمدين خصوصاً على عنصري المباغتة والمفاجأة، فإن النتيجة واحدة وهي ان تنظيم «القاعدة» ابلغ عملياً اعداءه انه عائد الى الساحة باستراتيجية وتكتيك جديدين وانه بات لديه من الان فصاعدا امكانات جديدة وصار عنده «بنك» اهداف جديد.
واكثر من ذلك، فعملية اقتحام السجنين وما تلاهما ولا سيما يوم السيارات المفخخة اظهرت بشكل او بآخر ان تنظيم «القاعدة» مدد حضوره الى ابعد من المناطق التي كانت حتى الامس القريب والبعيد تشكل بيئة حاضنة له، او هي بشكل ما مدى عمله الحيوي، بدليل ان الضربات والسيارات المفخخة امتدت من بغداد جنوباً وصولاً حتى البصرة، مروراً بمحافظات جنوبية اخرى.

رسالة مزدوجة
ينطوي هذا الفعل الميداني بطبيعة الحال على رسالة مزدوجة احداها موجهة الى المالكي وحكومته والقوى السياسية الدائرة في فلكهما، والاخرى موجهة الى خصوم «القاعدة» في البيئة السنية التي انتفضت في وجهها قبل نحو 5 اعوام، ونجحت الى حد بعيد في طردها وتجفيف مصادر دعمها واحتضانها في تلك البيئة. وفحوى الرسالة ان التنظيم الذي تباهى رموز الاحتلال الاميركي والمسؤولون العراقيون قبل نحو 5 اعوام بأنهم الحقوا به هزيمة مدوية عاد بقوة وعلى المعنيين ان يتحضروا لعودته.
– لا ريب في ان تنظيم «القاعدة» وجد في «انتفاضة» المحافظات الثلاث ذات الاكثرية السنية وفي وجه حكومة المالكي وهي الانتفاضة التي دخلت شهرها السابع تقريباً، فرصة كبرى لعودة تنظيم «القاعدة» الى الواجهة بمعنويات اقوى وبجرأة مضاعفة، اذ ثمة بيئة خصبة وحاضنة له من خلال الشرخ الحاصل بين الحكومة وقسم من سكان هذه المحافظات بما فيهم عناصر «مجالس الصحوة» التي كان لها دور الريادة في السابق في محاصرة الوجود العسكري الفاعل للتنظيم في محافظات الوسط، وبالتالي توجيه ضربة قوية لمشروعه، فلم يعد خافياً ان عناصر هذه المجالس صارت «تغرد» في سرب آخر غير سرب الحكومة العراقية، ولا سيما بعدما بلغ تناقض المصالح بين الطرفين اوجه في الآونة الاخيرة والذي بلغ حد معاقبة الحكومة المركزية لقيادات المجالس ومشايخها واعتبارها مجردة من اي غطاء رسمي كما في السابق.
– وفي كل الحالات يستفيد تنظيم «القاعدة» الى حد بعيد من الاجواء والمناخات التي سادت في المنطقة عموماً بعد اشتعال كرة النار في الساحة السورية، وما تلا ذلك الحدث المدوي من تطورات وتحولات ووقائع ميدانية وسياسية جديدة كل الجدة.

العامل السوري
في بداية تلك الاحداث سرت في الاوساط المتابعة مقولة مفادها ان المجموعات المسلحة المعارضة التي ما زالت تعمل في الساحة العراقية، سيمثل الحدث السوري بالنسبة اليها عامل جذب واغراء، ولا سيما ان الساحة السورية المفتوحة حديثاً على الجرح اضحت مقصد كل «الجهاديين» من كل انحاء العالم الباحثين عن الفرصة والهدف.
وبناء على هذه المعطيات، تحدث بعض المسؤولين العراقيين في ذلك الحين صراحة عما اسموه «نزوح» مجموعات وقيادات من تنظيم «القاعدة» في العراق الى ساحة الجهاد المفتوحة ابوابها لهم ولسواهم.
وهذا الامر لم يكن مجرد رسالة اعلامية بقدر ما انطوى على رغبة في ان يكون ذلك مدخلاً موثوقاً لكي يتخلص العراق نهائياً من هذا الوجود الثقيل الوطأة للمجموعات المسلحة التي وان تقلص حضورها وتأثيرها، الا انها كانت تعلم عن حضورها الخطير عبر عمليات ارهابية تنفذها بين الفينة والاخرى، تستهدف من خلالها اما تصفية حساباتها مع مجالس «الصحوة» من خلال استهداف رموزهم ومشايخهم واما استهداف مدن واحياء مكتظة بعينها لايقاع اكبر ضرر، وبالتالي فرض الحضور كأمر واقع.
ولا شك ايضاً في ان انشاء دولة الاسلام في العراق والشام والذي كان بمثابة امر واقع جديد داخل في معادلة الصراع في سوريا والعراق وبين جانبي الحدود بين الدولتين، وبالتالي صارت المجموعات المتبنية هذه الدولة وطروحاتها، تعمل بشكل مشترك وتضع اجندة  مشتركة تنعكس على الساحتين وعلى الواقع الميداني والعملاني فيهما، بل ان ثمة من يتحدث عن دورة اموال ودعم وتسليح مشتركة بين الدولتين المتجاورتين مما فرض مرحلة امنية جديدة في الساحة العراقية، وخصوصاً ان ثمة من يتهم المالكي بأنه صار جزءاً من منظومة الدعم للنظام السوري برئاسة الرئيس بشار الاسد.
وبمعنى اخر، نجحت المجموعات المسلحة في ايجاد تأثيرات متبادلة بين الساحتين السورية والعراقية، برزت فيها المجموعات الكامنة في العراق كممثل وكرديف وداعم للمجموعات المماثلة عقائدياً وفكرياً والمنتشرة بكثافة في الاراضي السورية.

معطى جديد
وثمة معطى جديد برز مؤخراً يتمثل في اندلاع المواجهات بين الاكراد والمجموعات السورية المعارضة ودخول المجموعات المحسوبة على دولة الاسلام في العراق وسوريا طرفاً في هذا النزاع في وجه المسلحين الاكراد، وخصوصاً ان الاطراف المتعددة والمشاركة في المواجهات الحامية الدائرة منذ اسابيع في محافظتي الحسكة والرقة السوريتين ولا سيما في المناطق ذات الاغلبية السكانية الكردية صارت تتعامل مع هذه المواجهات على اساس انها معركة وجود ومصير، اذ ان الاكراد من جهة والمعارضين السوريين المعادين لهم من جهة اخرى يريدون هذه المساحة الجغرافية التي يتقاتلون فيها وتشكيل مسرح المواجهات بين بعضهم البعض، قاعدة لدويلاتهم الطموحة، استعداداً للمرحلة المقبلة، فضلاً عن ان ثمة صراعاً خفياً على حقول نفط في المنطقة، اضافة الى مسألة ان الاكراد يريدون مناطق ومعابر بعينها لتكون مستقبلاً منفذهم الى دويلة كردستان العراق، وشريان الحياة المتبادل بين المنطقتين.
واذا كانت هذه باختصار ابعاد التصعيد الامني الاخير للمجموعات المسلحة في العراق، واذا كانت هذه بعض الخطوط العريضة لتوجهاتها، فإن السؤال المطروح: ماذا عن تعامل المالكي مع هذه التحديات واختبارات القوة الجديدة من جانب جبهة الاعداء والخصوم؟
الواضح ان رئيس الوزراء العراقي ما زال يتصرف على اساس ان الوضع ما برح تحت السيطرة وان اعداءه لم يبلغوا بعد هدفهم الاقصى بايجاد توازن رعب معه على الارض مجدداً. لكن الجلي ان المالكي بدأ اطلاق خطاب جديد ينطوي على توجيه التهديد الى دول الجوار من ان المخاطر المتأتية من هذا التصعيد الخارج عن المألوف في الساحة العراقية لن تبقى محصورة في حدود العراق.
ووفق رأي بعض المراقبين لم يكن امام المالكي الا ان يسلك هذا المسلك التصعيدي التحذيري.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق