متفرقات

سلطنة عمان: الربيع في ظفار… حكايات لا تنتهي ومنافع كثيرة

رحل الخريف وأتانا الربيع وأشرقت شمسه على سهول وجبال محافظة ظفار في سلطنة عمان، وبددت أشعتها الغيوم، وانزاح ستار الضباب، وولى فصل الخريف بأيامه وبدأ يوم 22 ايلول (سبتمبر) فلكياً فصل الربيع لتبدأ حكايةً جديدةً مع موسم جديد يعرف محلياً باسم (الصرب)، وهذا الموسم من المواسم الجميلة في محافظة ظفار، ويرتبط دخوله بمنافع كثيرة منذ القدم على أهالي محافظة ظفار حيث يرتبط بعادات وتقاليد لا تزال تمارس حتى الآن وإن لم تكن بتلك الصورة التي كانت عليها قديماً، ولكن يظل بقايا من تلك العادات الجميلة متوارثة وتمارس في موسم الربيع.

بطبيعة الحال فإن شمس الربيع ليست تلك هي التي اعتاد الناس عليها طيلة أيام موسم الخريف فحرارتها تكون أشد وإن كانت درجاتها ليست مرتفعة، ولكن اعتياد الناس على أجواء الخريف وغياب الشمس عنهم طيلة ذلك الموسم يجعلهم يشعرون بحرارتها أكثر من ذي قبل ولكن مع دخول المساء تتجلى روعة الربيع بنسائم عليلة تنعش الأفئدة وتحرك بداخلك بواعث الشجن والحنين ويترنم الشعراء بقصائد الشوق والحنين بمختلف معانيها سواء على نظم فن الدبرارات أو فن النانا باللغة الشحرية أو القصائد ذي اللحن العربي الجميل على إيقاعات تراثية طربية.
وكما أن النباتات والزهور تتوهج بألوان زاهية وتبعث بروائحها الجميلة العاطرة في مختلف الأرجاء تحملها النسمات بين جنبات الأودية وعلى الروابي الفسيحة الخضيرة وتتموج الأغصان الوارفة الظلال المحملة بالأوراق الخضراء في منظر جميل لا يستطيع كل عاشق ومحب للجمال إلا أن يتشجن معها ويتمايل معها طرباً،
في فصل الربيع تبدو الجبال في أفضل حالاتها فترى فيها هيبة الشموخ والديمومة والثبات، ويخالط ذلك المنظر جمال اللون الأخضر وصفة الوداعة والأمن التي يعبر عنها، طبيعة نظيفة من كل عوالق الخريف، لا وجود للأتربة، لا وجود للطين اللزج المبلول بالماء، عشب أخضر تفترشه في أي مكان وكأنه الحرير.
في الربيع الشطآن والبحر تراها رؤية العين من قمم الجبال بوضوح، البحر ذو لون أزرق صافٍ، هادي الموج بعد فترة من الهيجان استمرت طيلة أيام الخريف، الشواطىء كأنها الفضة مرشوشة على طول الساحل، رمال نظيفة، تتلوى عليها وحين تقوم تنفضها عن جسدك ولا يعلق بك ذرة واحدة من رمالها.
مع كل هذه المغريات التي يأتي بها فصل الربيع تنشط حركة الناس وخصوصاً ما بعد العصر حيث تجدهم يتوجهون إلى تلك الجبال مع عوائلهم وأصدقائهم لقضاء ليلة ربيعية هانئة في تلك المساحات الخضراء يتمتعون بنسائم عليلة وأجواء هادئة تبعث فيهم السكينة وراحة البال ومنهم من يفضل المبيت مع عوائلهم بين تلك الأودية وعلى تلك الروابي وبين الأشجار الوارفة الظلال.

عادات ظفار في كل ربيع
للربيع مواقف جميلة وحكايات لا تنتهي مع المجتمع الظفاري، وهو موسم تبدأ فيه الحركة على كل المستويات ويبدأ الترحال والسفر والعودة والوفاء بالوعود وتقضى فيه الديون، لأن (إيصرب بش آفلوك، إديفر يسينود إنوف) هذه العبارة باللغة الشحرية تعني (الصرب أي الربيع فيه بشائر الخير، حتى العالة على المجتمع يسد نفسه عن الناس، من هذا المثل المتعارف عليه هنا في ظفار نعرف قيمة الربيع بالنسبة اليهم وما يحمله من الخير حيث تكثر فيه المراعي الغنية وتباع فيه المحاصيل الزراعية ويفتح بحر العرب ذراعيه لرواد البحر ليجود عليهم من فيض خيراته وكما أن الماشية تكون مراعيها متوفرة لذا يكثر فيها الخير وتدر الحليب بوفرة وكما أن موسم الربيع يشهد إنتاج كميات كبيرة من المواليد حيث يحرص ملاك الماشية على أن تكون فترة الإنتاج تصادف موسم الربيع.
وتعد «خطيل الابل» أكثر العادات شهرة وانتشاراً في موسم الربيع بظفار، وقد أتت كلمة خطل بأكثر من معنى في المعجم الوسيط حيث أتت بمعنى الخفة والاسترخاء والتلوَي والتبختر في المشية ولعل هذه المعاني قريبة جداً من مصطلح «خطيل الإبل» حيث إن الأبل تكون تواقة لانجلاء موسم الخريف ليتسنى لها التمخطر في الجبال والأودية ومن هنا أتت هذه التسمية حيث تسرح الإبل في موسم الربيع على شكل قطعان كل قطيع يتراوح ما بين 500 – 2000 رأس من الإبل في عدد من الأودية الشهيرة باحتواء هذه القطعان في كل موسم مثل وادي قوصد وجنين ووادي خشيم ووادي نحيز ووادي دربات وثيدوت وريثوت ووادي غيضت بالإضافة للعديد من المناطق الجبلية الأخرى في ظفار.
وقد اعتاد ملاك الإبل في ظفار على النزوح للسهول في موسم الخريف مع حلول تباشير موسم الخريف كون طبيعة الإبل لا تتأقلم للمكوث في الجبال والأودية أثناء موسم الخريف لذا يتم النزوح إما شمالاً باتجاه القطن أي المناطق التي ما بعد الجبال حيث يقل تأثير الخريف أو النزوح جنوباً للسهل وما يعرف محلياً (بالجربيب)، في الأيام الأخيرة لموسم الخريف يبدأ ملاك الابل بتوجيه قطعانهم للمناطق القريبة المحاذية للجبال للرعي وقد تستمر مدة أسبوع أو عشرة أيام قبل «خطيل الإبل».
وقبل عشرات السنين من الآن كانت هناك طقوس خاصة بموسم «خطيل النوق» حيث يعد ذلك اليوم أقرب إلى الأعياد منه كعادة قبل أن يرتبط أبناء أصحاب الإبل بالمدارس والوظائف الحكومية كانت كل العائلة ترافق الابل في الاودية المتعارف عليها والتي تستقبل تلك القطعان مثل وادي قوصد وجنين وخشيم ودربات وغيضت وثيدوت وريثات ومن ثم الانتقال للجبال المتاخمة لتلك الأودية.
فقبل الخطلة بأيام معدودات يتجهز ملاك الإبل ويشترون الثياب الجديدة والتي كانت عبارة عن الصبيغة للرجل وهو رداء نيلي اللون يتأزر بنصفه والنصف الآخر يلفها على نصف الجسم من الأعلى وتسمى (خرقت) أي بمعنى خرقة وكذلك المرأة تخيط لنفسها ثوباً من القماش عينه وهي الصبيغة، وتسمى عند خياطتها كثوب نسائي (طقت).
وترش على تلك الملابس العطور العربية المركزة والتي كان يجلبها التجار من مدينة عدن اليمنية وكانت تعرف البضاعة التي تأتي من هناك بـ (وارد عدن) حيث تبقى رائحتها عالقة في الملابس لفترات طويلة وتختلط تلك الروائح مع رائحة الصبيغة ذي المادة اللينية والتي يقال أنها تعمل على تحسين حالة الجلد ليظهر بصورة أكثر إشراقاً وحيوية وهذه الملابس الجديدة يعدونها لليوم الأول الذي يبدأ فيه «خطيل النوق»، فما أن يصلوا مع قطعان ابلهم إلى الأودية وتنهمك الإبل بين تلك الأشجار المختلفة ثمارها وزهورها يقومون بأداء الفنون الريفية المتعارف عليها، النانا والدبرارات والمشعير وتكون أشعارهم تحمل في مضمون معانيها عبارات الفرح والشكر على النعم التي هم فيها وكذلك وصف للأجواء والطبيعة التي يعيشون فيها تلك الأيام ويقضون ليلاً من السمر والاحتفال بعودة موسم الصرب وهم في عافية وقد جمعهم مع باقي أقاربهم في المكان عينه.
وكما اعتاد المجتمع الظفاري في موسم الخريف على زرع بعض المحاصيل الزراعية في أيام موسم الخريف للاستفادة من الموسم الماطر حيث يتم زرع محصول الفاصوليا وما يعرف محلياً بالدجر وكذلك زراعة الخيار والذرة الظفارية ويتم حصادها في فصل الربيع وبهذا يستبشر الناس بدخول فصل الربيع لارتباطه بأيام الحصاد وهذا ما كان عليه الاقتصاد المعيشي في فترة ما قبل السبعينيات وهذا ما يوفر لهم غذاء طيلة مواسم السنة الباقية.
وكما يبدأ أهل الساحل في موسم الربيع بنزول البحر بعد أن كان يمنعهم من ارتياده ارتفاع الموج بسبب موسم الخريف الذي يصاحبه في العادة ارتفاع أمواج البحر، حيث يجتمع الصيادين ويحددون اليوم الذي سيبدأ فيه موسم الضواغي ويعرف ذلك اليوم (بيوم الفتوح) وهو اليوم الذي تبدأ فيه مزاولة حرفة صيد أسماك السردين أو ما تعرف محلياً «بالضواغي» ومفردها ضاغية وهو مصطلح يطلق على مجموعة من الافراد الذين يعملون معاً على شكل مجموعة يقومون بصيد سمك السردين بطرق تقليدية ومن ثم يتقاسمون ما تم بيعه من تلك الاسماك ولكل ضاغية ربان يقوم بالاشراف عليها وتسييرها ويكون من ذوي الخبرة في البحر وأنوائها وتقلباتها، ويقوم ذلك الربان بتوزيع الحصص المالية على المشاركين كل حسب اختصاصه.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق