دوليات

حرب جواسيس بين الولايات المتحدة وروسيا

قبعة رياضية، فوق باروكة شعرها اشقر، وحقيبة عسكرية خضراء توضع على الظهر، مع مجموعة اجهزة لجواسيس الحرب الباردة: نظارات سوداء، قفازات، باروكات للتنكر، جهاز هاتف خلوي قديم، خريطة موسكو وبوصلة. هكذا وصل عميل الـ «سي. اي. ايه» الذي كان يعمل تحت غطاء ديبلوماسي «شرعي» في السفارة الاميركية في موسكو، حتى الموعد الذي كان من المفروض، ان يقود الى تجنيد عميل روسي في ليل موسكو.

كان عميل الـ «سي. اي. ايه» يحمل اضافة الى مجموعة من اوراق 500 يورو النقدية، رسالة مكتوبة باللغة الروسية، موجهة الى «الصديق العزيز» مرفقة بالتعليمات، وبارقام مذهلة حول التعويضات المعروضة عليه والتي تصل الى الملايين.
ولكنه كان امام مجرد فخ، وقع فيه بكل سذاجة وهواية مهنية، من شأنها ان تلقي ظلالاً على جهاز المخابرات الاميركية، شرط الا يكون كل ما حصل، تركيبة، ويبقى ان الذي حصل، يهدد بانعكاسات سلبية على العلاقات بين البلدين: «ففي الوقت الذي يعمل رئيسانا، على توسيع التعاون بين اجهزة مخابرات البلدين بهدف محاربة الارهاب، فان مثل هذه الاعمال لا تشجع على زيادة الثقة المتبادلة»، في نظر وزارة الخارجية الروسية. ولكن الكسي بوشكوف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الدوما (مجلس النواب) الروسي، يرى انه من الصعب ان تصل ذيول ما حدث، الى المدى البعيد، فاعتبر مراقبون ان ما حصل يشكل رسالة وجهها الروس الى واشنطن، في ظل اجواء اللا-ثقة التي تحوط بالعلاقات بين البلدين. وليس مجرد صدفة ان تكون صورة الديبلوماسي  الاميركي، مطروحاً على الارض، في ملابسه التنكرية، مكبل اليدين وراء ظهره، تنقلت في سرعة البرق، على كل شبكات التلفزيون الروسية.

رايان فوغل
وكالة المخابرات الروسية «اف. س. ب» وريثة الـ «ك. ج.ب» كشفت ان رايان كريستوفر فوغل هذا هو اسمه، كان جاسوساً، بغطاء ديبلوماسي حيث كان يعمل رسمياً، سكرتيراً ثالثاً في السفارة الاميركية في موسكو. واذاعت وسائط الاعلام، اجزاء من استجواب الرجل، فيه الكثير من فن البلاغة، وان العميل الاميركي، اتصل هاتفياً باحد ضباط المخابرات الروسية الناشطة في مكافحة الارهاب في القوقاز الشمالي، عارضاً عليه التعاون، وبعد رفض اول، عرض فوغل على الضابط الروسي، دائماً على للهاتف 100 الف دولار. ثم كان الفخ الذي جرى اعداده على مدى اكثر من شهر.
وجاء الديبلوماسي الاميركي، الى مكان الموعد في الهواء الطلق، مزوداً بالاجهزة المسرحية التي ذكرناها، اضافة الى رسالة تحمل ارشادات بدائية، لانشاء حساب انترنيتي، يعتمد في اتصالات لاحقة، مع المبالغ المعروضة: مئة الف دولار، لبدء مناقشة التعاون، وحتى مليون دولار في السنة، للتعاون على مدى طويل، اضافة الى مكافآت «مقابل كل معلومات مفيدة». وكان من المفروض ان تشكل حزمة الاموال التي كانت في حوزته «مقدمة». وحملت الرسالة توقيع «اصدقاؤكم». ولكن فوغل وجد نفسه، مطروحاً على الارض، مكبل اليدين وراء ظهره.
قصة جاسوسية، مضحكة، تبدو وكأنها خارجة من اجواء سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، او من احد الافلام الوطنية السوفياتية. مما جعل حسابات انترنيتية اميركية ترد: «وهل يعتقدون اننا من البلاهة، لان نصدق مثل هذه الرواية، التي تنقصها ازرار تطلق الرصاص. كما لم يفعل جيمس بوند».
ورب تأكيد في اوساط المراقبين، ان وراء هذه القصة اهدافاً سياسية، ورسالة موجهة الى الولايات المتحدة، وضبطاً الى التشكيك الذي اعربت عنه، في شأن التعاون ضد الارهاب. وكانت واشنطن شككت، بعد القنابل على ماراتون بوسطن، في ان تكون المخابرات الروسية اعطتها كل ما كانت تعرفه عن منفذ الاعتداء، الشيشاني الاصل. تامرلان نزارناييف، وانها تجاهلت، ثلاثة طلبات ايضاحات اضافية، تقدمت بها «اف. بي. اي». وقد يكون عدم التعاون هذا نتيجة «احقاد قديمة»، والحاجة الى تغطية خلايا مخابراتية روسية في الولايات المتحدة.

 مشاكل جدية
ولكن الاعتماد على «ترسانة تجسسية كلاسيكية» وكمية ضخمة من الاموال، لا يكشف
عميلاًاجنبياً، قبض عليه بالجرم المشهود، فحسب، بل ان الامر يثير في وجه واشنطن، في نظر وزارة الخارجية الروسية، «مشاكل جدية»، بالنسبة الى الولايات المتحدة، التي وصفت الكشف عن العميل بـ «عمل استفزازي»، من طراز روحية الحرب الباردة».
وتركت التفاصيل البدائية، في لائحة الارشادات المكتوبة، شكوكاً مثل التساؤل: هل من المعقول، ان يتجول عميل مخابرات، مثل السي اي ايه حاملاً التوجيهات في جيبه؟ وهل ان الروس، هم الذين تولوا، وضع الاجهزة التي ضبطت في سيارة الديبلوماسي؟ وهل انهم ارادوا تقليد الاميركيين، عندما وزعوا فيلم الفيديو، عن مجموعة آنا تشابمان؟!
كما ان الرئيس بوتين، اتهم في اكثر من مناسبة، شأن مسؤولين روس آخرين، واشنطن بتمويل نشاطات ترمي الى زعزعة استقرار روسيا، وان هذا هو احد الاسباب التي علقت موسكو، من اجلها نشاطات «مصلحة المساعدات الخارجية الحكومية الاميركية» في تشرين الاول (اكتوبر) 2012.
الاعلان عن التعاون على تنظيم مؤتمر دولي حول سوريا، والالتزام بتقوية التعاون على محاربة الارهاب، بعد تفجير طناجر الضغط على هامش ماراتون بوسطن، كانا اثارا شعوراً بان العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة على طريق التهدئة. ولكن يبدو ان هذه المرحلة كانت قصيرة الامد. فجاء خبر من موسكو يعيد عقارب الساعة الى قصص الحرب الباردة.

حرب الجواسيس
ولمن يسأل اذا كنا امام عودة الى الحرب الباردة؟ نقول ان الوضع اسوأ لان الحرب بين الجواسيس الاميركيين والروس، هي اليوم اكثر نشاطاً واوسع افقاً، واكثر غرابة، مما كانت عليه في زمن كان التهديد بحرب نووية مدمرة يحرمنا من النوم. فعدد الجواسيس الذين يجري تسللهم، ارتفع، فيتنكرون تحت اقنعة جيران طيبين، بينما ازدادت المجالات التي يجري التجسس عليها.
ففي عصر الحرب الباردة، كانت اللعبة اكثر وضوحاً، فكان للتجسس طابع عسكري، في صورة خاصة، وكان الجواسيس يجوبون العالم، في سترة ديبلوماسيين مزورين، وصحافيين، وفي بعض الحالات عسكريين.
وبعد سقوط جدار برلين، اعتقد الاغبياء، ان الجاسوسية اضحت من بقايا الماضي، التي سيقضي عليها التاريخ. لكنها ما برحت ان ازدهرت وتضاعفت، وتنوعت وتجددت.
وربما كانت الاحداث الاكثر اثارة، حالتي الدريتش آمس وروبرت هانسن. كان الاول يعمل مع الـ سي. اي. ايه الاميركية، عندما سلّم موسكو لائحة بالعملاء الروسي الذين يتعاونون مع المخابرات الاميركية في دول الاتحاد السوفياتي السابق، اولاً، ثم روسيا لاحقاً. فجرى اعتقاله في سنة 1994.
وكان الثاني، في خدمة اف. بي. اي، فاستغل التهاء المعنيين بقضية آمس، ليبيع الروس معلومات اثمن.
ثم كانت حالات اكثر دموية مثل تسميم العميل الروسي في لندن الكسندر ليتفيننكو، بالبولونيوم، الذي تقول زوجته مارينا، انه جرى بأمر مباشر، من فلاديمير بوتين، بواسطة مقربين.
الى هذا الحد، كنا في مجال التأريخ العادي للحرب الباردة: مهنيون في اجهزة المخابرات، يتسللون الى دول اخرى، تحت غطاء رسمي، ثم يعتمدون الخيانة.

اتهام اميركي
واما التحول الحقيقي، فانه انتظر حزيران (يونيو) 2010، عندما اتهم الاميركيون، حوالي عشرة اشخاص، كانوا يعيشون في الولايات المتحدة، كأي افراد عاديين، بينما كانوا يمارسون، في الحقيقة التجسس، لمصلحة روسيا. وكانت الشخصية الاكثر اثارة، في المجموعة امرأة اسمها آنا تشابمان، ابنة احد الموظفين، التي فضلت اعتناق الجنسية البريطانية، ثم الانتقال الى نيويورك، حيث كانت تتذوق الحياة الحلوة، بين وول ستريت وعلب الليل الاكثر خصوصية في حي مانهاتن، وساعد جمال آنا وحيوية شخصيتها، على الهاء الناس عن الجديد الحقيقي، الذي يتضمنه برنامج جهاز س. ف. ر، (خليفة ك. ج. ب)، فراحت تعمل على انشاء شبكة دائمة من العملاء. فكان ان القت قوى الامن الاميركية، القبض على عائلات كانت تعيش في صورة طبيعية في نيو جرسي او سياتل، بينما كانوا يعملون في الحقيقة، على جمع المعلومات لاجهزة موسكو. وكان هؤلاء يعملون جواسيس في صورة «غير شرعية» بمعنى انهم لم يكونوا دخلوا الى الولايات المتحدة تحت الغطاء الديبلوماسي المعهود الذي يعتمده الجواسيس الشرعيون». ولكنهم كانوا دخلوا الى الولايات المتحدة كمواطنين عاديين، بحيث يستطيعون البقاء، مدى الحياة، والاهتمام بكل شيء، وخصوصاً بالاسرار العسكرية، والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
هذا مع الاشارة الى ان الجديد الحقيقي في العالم المعولم هو الآتي: انه يمكن لاي موظف في شركة روسية او اميركية، ان يكون جاسوساً، فوصل الامر، في هذا المجال الى حد التشكيك، بان حوالي 3000 من موظفي شركة الطيران الروسية ايرفلوت، يمارسون عملاً مزدوجاً. وكانت آنا شابمان نفسها، تدعي العمل كناشطة في دنيا الاعمال، وليس كديبلوماسية ام ملحقة عسكرية.

تبادل جواسيس
وانه لمن الاهمية في مكان، ان نلاحظ، انه عندما اكتشفها الاميركيون، اكتشفوا حقيقة امرها، لم يرفعوا بيرق الفضيحة. وانما اسرعوا ينظمون عملية تبادل، تمت في فيينا، بين عشرة روس «غير شرعيين» واربعة جواسيس، كانوا يستغلون في موسكو، لحساب الولايات المتحدة.
اننا لا نزال نعيش في العالم اياه.
وقد تكون الحرب الباردة، انتهت، ولكن احداً لم يبلغ ذلك الى الجواسيس.

جوزف صفير
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق