سياسة عربية

«حماس»… انهار الحلم الكبير وبدأت مرحلة اعادة النظر بالخيارات

منذ فترة قصيرة، اعلنت قيادة «حماس» في غزة، عن ترحيبها بمشاركة قوى اخرى معها في ادارة حكم هذه المدينة وقطاعها. وقبل ايام قليلة، فاجأت قيادة الحركة الشارع الفلسطيني وغير الفلسطيني عندما ابدت استعدادها لقبول عناصر عسكرية لا ينتمون الى الحركة لتكون في المعابر القائمة بين صحراء سيناء والقطاع.

منذ فترة غير بعيدة، صدر من داخل الاطر القيادية للحركة الاسلامية صوت يدعو الحركة الى التخلي عن الحكم في غزة، وذلك على لسان القيادي في الحركة والنائب في المجلس التشريعي الفلسطيني يحيى موسى الذي دعا ايضاً الى ان تعود الحركة الى مربعها الاول، اي الى كونها حركة تحرر وطني فلسطيني والى مربع الثورة.
واكثر من ذلك، دعا القيادي نفسه قيادة الحركة الى عدم ابقاء اطرها وهياكلها «اخوانية» بحتة، اي محاكاة الشكل التنظيمي لجماعة الاخوان المسلمين، التي تنتسب اليها الحركة بالفكر والعقيدة، بل ان يكون فيها متسع للجميع.
كل هذه المحطات والتصريحات المستجدة والمثيرة للاهتمام والسجال، تندرج عموماً في سياق خطاب سياسي واحد ينم عن رغبة تعتمل في داخل الحركة التي تشكل احد الفصيلين الاساسيين في الساحة الفلسطينية بعد حركة «فتح»، (او ربما معها) لاجراء تغييرات وتحولات على مستويات ثلاثة.

العلاقة مع الاطراف
الاول: على مستوى العلاقة مع الاطراف والفصائل الاخرى الموجودة على الساحة الفلسطينية، وهو يعني ضمناً الرغبة في ايجاد قواعد عمل وتوجه مختلف، ينهي عهد تفرد الحركة بحكم القطاع الصغير من الارض الفلسطينية المحررة تماماً، لكنه يحتوي اعلى نسبة من الاكتظاظ السكاني، اذ يضم نحو مليوني نسمة.
وهذا ان دل على شيء، فإنما يدل على ان قيادة الحركة التي تحكم منفردة هذا القطاع منذ اكثر من ستة اعوام متتالية، بدأت تنوء من حمل هذه المسؤولية الثقيلة منفردة، وانها مستعدة لفتح الابواب امام مشاركة الاخرين معها في الادارة والمسؤولية، والمقصود بالطبع في الدرجة الاولى هو حركة «فتح» اعرق الفصائل الفلسطينية واكثرها حضوراً وتأثيراً.
الثاني: ان الحركة تريد ضمناً ان تتخلى طوعاً او قسراً عن فكرة راودتها منذ زمن، وبالتحديد منذ ظهرت كقوة منافسة في الشارع الفلسطيني، رغم حداثة ولادتها وكونها آخر عنقود الفصائل الفلسطينية، (يعود ظهورها الى النصف الثاني من عقد الثمانينيات في القرن الماضي) وفحواها ان امساكها منفردة لمنطقة فلسطينية محررة تماماً، وبالتالي اقامة تجربة حكم وادارة فيها سيكون بمثابة فتح مبين من شأنه ان يفضي الى مميزات ابرزها انها ستقدم نموذج حكم ناجح وشفاف، اذا ما قورن بتجربة الحكم الذاتي التي قادتها حركة «فتح» في الضفة الغربية، بعد فترة قصيرة على توقيع مؤسسها ورمزها الراحل ياسر عرفات، على اتفاقية اوسلو في عام 1993، وهي تجربة اقر الجميع لاحقاً بمن فيهم قيادة «فتح» نفسها، بأنها لم تكن تجربة «فذة» وناجحة يمكن الاعتداد بها وتقديمها كنموذج لتجربة حكم فاضلة، اذ شابها الكثير من الاخطاء واعتراها الكثير من مظاهر الفساد، مما اضطر رعاة هذه التجربة الى التحذير من مخاطر استمرار النسج على هذا المنوال، فضلاً عن ان الجمهور الفلسطيني نفسه، اعلن انتفاضة مضادة في وجه هذه التجربة، فصبت اصواته بشكل مخالف لكل الحسابات والاستطلاعات، لمصلحة مرشحي حركة «حماس» في الانتخابات العامة الفلسطينية التي جرت اخيراً، فحصدت «حماس» نسبة عالية من المقاعد في المجلس التشريعي، فيما تنبهت حركة «فتح» الى  ان كل مسيرة تاريخها النضالي الطويل، اوشكت على الضياع بفعل ارتداد الجمهور الفلسطيني عليها، واقتصاصه منها بإسقاط المرشحين الذين سمتهم هي.
وفي كل الاحوال، تبدو حركة «حماس» وكأنها تيقظت وتنبهت، بل واخذت حذرها من ان يأتي حين من الدهر، وبالتالي تمنى بما منيت به حركة «فتح» من خسران ونكران، ولا سيما ان «حماس» باتت تتلمس صعوبة الاوضاع في غزة وقطاعها، والتي تتوقع ان تزداد بفعل تشدد النظام المصري الجديد حيال القطاع، وبالتالي التضييق على المعابر وهدم معظم الانفاق، وذلك في اطار توجه لدى القاهرة لفصم عرى العلاقة مع «حماس» متهمة اياها بشكل واضح، بأنها من داعمي نظام الرئيس الاخواني المعزول محمد مرسي.

 العقلية الاخوانية
الثالث: ان في حركة «حماس» من بات يضيق ذرعاً بالعقلية والهيكلية «الاخوانية» التي انتسبت اليهما هذه الحركة طائعة ومختارة مما ابعدها عن كونها حركة تحرير، وقربها من كونها ذراعاً عسكرية لتنظيم
الاخوان المسلمين، تأتمر بأمره وتسير على هديه، وبالتالي تتحمل تبعات اخفاقاته وانكساراته، كما هي تتحمل منذ فترة في الشارع المصري تبعات علاقاتها المميزة بنظام مرسي المعزول قبل نحو شهرين فقط.
وهكذا يظهر من خلال الربط بين هذه المحطات والوقائع الثلاث، ان حركة «حماس» ولجت لتوها مرحلة تقويم واعادة نظر لرحلة ادائها السياسي والفكري والامني، وخصوصاً في مرحلة ما بعد صعود الاسلام السياسي الى السلطة اثر ما صار متعارف عليه بـ «الربيع العربي».
ثمة من يرى ان الدافع الاساسي الذي دفع «حماس» الى اللجوء الى خيار اعادة النظر، هو السقوط السريع لتجربة «الاخوان المسلمين» في حكم مصر، وانقلاب الشارع المصري وقسم واسع من الشارع العربي عليها.
وربما كان ذلك من اوجه الاسباب ومن اكثرها الحاحاً، فما حصل في مصر منذ نهاية حزيران (يونيو) الماضي، لم يكن بالامر العابر بل هو مؤشر كبير لا يمكن تجاوزه، خصوصاً بالنسبة الى حركة سياسية – عسكرية مثل حركة «حماس» التي تدرج في خانة انها جزء من هذه التجربة، او على الاقل لها علاقة وثقى بها.
غير ان هناك من يرى بأن ثمة اسباباً ودوافع اخرى اجبرت «حماس» على سلوك هذا المسلك «التأديبي» لنفسها ولمرحلتها النضالية التي لم تعد قصيرة على رغم حداثتها نسبياً.
ما من مراقب محايد الا ويدرك ان «حماس» قدمت نموذجاً نضالياً فذاً، اذ هي التي تولت عملياً مرتبة القيادة في الانتفاضة الفلسطينية، اي انتفاضة اواسط الثمانينيات وانتفاضة الاقصى في اواخر عام 2000.

الدور الافعل
وعليه، فإنه لا يمكن نكران وتجاهل ان الحركة هي التي قادت عن جدارة النضال الفلسطيني في مرحلة ما قبل اتفاق اوسلو مباشرة، وما بعدها عموماً، حيث كان لها الدور الافعل والاكبر نظراً لانها كانت في ذروة نشاطها وقوتها، وكانت تندفع الى صدارة العمل الفلسطيني المقاوم، مزودة برد فعل على الاذلال الكبير الذي مورس على الشعب الفلسطيني بعد جلاء الجسم العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان في اواخر صيف عام 1982، ومن ثم الشعور الاحباط الذي شعر به الانسان الفلسطيني بعيد الشروع بتطبيق مضامين ومندرجات اتفاق اوسلو، اذ تبين لهذا الانسان ان الاتفاق ليس «الدولة الفاضلة» التي يسعى اليها، وليست النهاية المثلى لهذا التاريخ الطويل من النضال والمكابدة والمعاناة.
وعليه صارت حركة «حماس» رقماً اساسياً صعباً في معادلة الصراع العربي – الاسرائيلي من جهة، وفي المعادلة الفلسطينية نفسها من جهة اخرى.
وعليه، صارت للحركة هوية سياسية اذ انتسبت في الزمن العربي الصعب، الى محور المقاومة والممانعة الذي ينتظم تحت لوائه ايران وسوريا و«حزب الله» وقوى اخرى، اي انها امتلكت فضاء تسبح فيه، مستفيدة بطبيعة الحال من الصورة المشرقة لـ «حزب الله» التي تكونت عنه بعد الجلاء الاسرائيلي عن لبنان في ايار (مايو) عام 2000 ثم في عدوان تموز (يوليو) من عام 2006.
وصار لها ايضاً تطلعات اوسع من تطلعات حركة «فتح» مستفيدة من تاريخها  وانتسابها الى تنظيم «الاخوان المسلمين» الذي له حضوره وامتداده الان بشكل او بآخر في الشارعين العربي والاسلامي.
صعود الاسلام السياسي في تركيا على يد حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان، عزز من حضور الحركة وامن لها فضاء اوسع تتمدد فيه، ثم كانت انتفاضات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا بمثابة الحلم الكبير الذي تحقق للحركة كونها تصعد وتكبر مع كل صعود للاسلام السياسي الذي تنتمي اليه بشكل او بآخر.

انهيار الحلم
وعليه، ثمة من يرى ان «جبل الاحلام» الكبير الذي عاشت عليه الحركة، وخصوصاً بعد خروجها المدوي من سوريا قد بدأ يتضاءل ويتقلص تدريجياً بالضربة الكبرى التي اصيبت بها تجربة الاخوان في مصر.
فضلاً عن ذلك، ثمة عمل واسع لاعادة تعويم حركة «فتح» في الداخل الفلسطيني على اساس انها ومنظمة التحرير هما الممثل الشرعي والتاريخي للشعب الفلسطيني.
اذاً ثمة اكثر من داع وموجب لكي تعيد قيادة «حماس» قراءة اوراق تجربتها بتمعن وتعيد بناء اسس وتوجهات جديدة لمرحلة مختلفة بكل المقاييس.
ولكن السؤال: الى اي مدى يمكن لـ «حماس» المضي والذهاب؟
ثمة من يرى انها بدأت فعلاً بترجمة هذه القراءة العميقة لتجربتها من خلال اعادة الاعتبار لعلاقتها التحالفية القديمة بإيران و«حزب الله»، فضلاً عن انها بدأت تعد تجربة انشاء علاقة جديدة في الداخل الفلسطيني، ومن المرتقب ان تظهر نتائجها وتداعياتها في وقت قريب.
المهم ان «حماس» هي الان في طور اعادة النظر في تجربتها.

ا. ب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق