تحقيق

جداريات كنيسة القديس تادروس – بحديدات تنبعث مجدداً «مهللة» للعهدين

«في الوقت الذي تقتل فيه الايادي العبثية وتدمر التراث الكنسي المسيحي في المشرق»، كان لبنان «يقاوم» على طريقته محتفلاً بانتهاء مشروع ترميم لوحات جدارية تعود الى القرون الوسطى في كنيسة القديس تادروس في بلدة بحديدات في قضاء جبيل.. الحدث الذي طال انتظاره ثلاث سنوات، استبشر فيه وزير الثقافة اللبناني «الامل في اعادة تراث كنسي أصيل متجذر في لبنان وفي جبل لبنان».

كان الحدث في وسط بلاد جبيل، هناك تتربع القرية اللبنانية بحديدات على علو 600 متر متفاخرة بما تضمه ارضها من معالم وكنوز اثرية تاريخية، هناك اربع كنائس اثرية تعود جميعها الى القرون الوسطى لكن ابرزها واشهرها كنيسة مار تادروس.

العهدان القديم والجديد
الكنيسة المبنية من العقد الحجر بطول 15 متراً وعرض 7 امتار، ادرجت على لائحة الجرد العام للمواقع الاثرية التاريخية منذ العام 1966 وهي تعود الى القرن الحادي عشر، وتحتوي على مجموعة جداريات تعود الى القرون الوسطى وتعتبر الاكثر اكتمالاً في لبنان. تجسد هذه الجداريات التي زينت الكنيسة خلال القرن الثالث عشر، موضوعات من العهدين القديم والجديد وتشهد من وجهة نظر أيقونية على التقليد العريق والغني المتمثل في تزيين كنائس الجبل اللبناني أيام الصليبيين.


فعلى قبة الكنيسة وعلى جدرانها تتمدد مجموعة من الرسوم الجدارية رسمت عام 1243 تجسد مشاهد من العهدين القديم والجديد، وهي تغطي الحنية وواجهة القوس المقدس والحائطين الشمالي والجنوبي المحاذيين لها وواجهة صحن الكنيسة، وتروي بمجملها قصة الخلاص المقسمة الى جزءين:

 


– الاول يعود الى العهد القديم حيث على قمة قوس الحنية لناحية اليمين رسم جداري يجسد يدي الرب وموسى يتلقى منهما الوصايا العشر، ويساراً النبي ابرهيم يستعد لتقديم ابنه الوحيد اضحية للرب، وما بين الاثنين رسم للمسيح عمانوئيل وتجسيد للقمر والشمس.


– والثاني يعود الى العهد الجديد ويبدأ برسم يمثل بشارة السيدة العذراء ويليه رسم للنبي دانيال الذي شهد رؤية المسيح قبل مجيئه. وفي الناحية المقابلة يبدو مار اسطفان الذي يعتبر اول شهيد واول شماس انجيلي عاصر المسيح وشهد مجيئه وتجسده. وعلى الحائط الشمالي القديس تادروس الذي كرست الكنيسة على اسمه، وعلى الحائط الجنوبي القديس جاورجيوس يقتل التنين.

 

اما في الوسط  وضمن واجهة القوس المقدس فترتفع لوحة للسيد المسيح، تحوطه رموز للانجيليين الأربعة والعذراء ويوحنا المعمدان.

 

وعلى واجهة القوس المقدس، لوحة جدارية تجسد الرسل الاثني عشر والانجيليين الأربعة وهم واقفون  وحول رؤوسهم هالة من نور، اربعة منهم يحملون بيسراهم كتباً ختمت بالصليب، بعض الاسماء لا يزال قابلاً للقراءة وهو باللغة السريانية لذا يمكن تبين هوية القسم الاكبر منهم، ففي الوسط يقف بطرس والى جانبه بولس، وعن يمين بطرس يقف مرقس ثم يوحنا وفي يد كل منهما انجيله، يليهما اندراوس واثنان من الرسل آخرهما هو القديس توما. اما عن اليسار فنجد، انطلاقاً من بولس لوقا ومتى يحملان الانجيل ثم القديس يعقوب فالقديس فيليبس.

 

 


المرممون ايطاليون ولبنانيون
مشروع ترميم جداريات كنيسة مار تادروس الاثرية الفريدة انطلق في تشرين الاول (اكتوبر) 2009، وقام به فريق ايطالي – لبناني مشترك، تألف من 3 مرممين ايطاليين: جورجيو كابريوتي، وكاترينا ميشيليني توشي، وسيلفيا تريبولاتي، و4 مرممين لبنانيين هم: ايزابيل ضومط سكاف (مديرة المشروع)، ونتالي حنا، وبدر جبور وغادة سالم، بإشراف المديرية العامة للآثار، وبالاتفاق مع أبرشية جبيل المارونية. وبلغت تكاليفه 220 ألف دولار موّلتها «مؤسسة أناستاسيوس جورج ليفينتيس» في قبرص، و«صندوق السفراء للحفاظ على التراث الثقافي» التابع للولايات المتحدة الاميركية، و«مؤسسة فيليب جبر»، وكارول وانطوان قارح، وأليس وروجيه إده، بالإضافة إلى شركة «كونسرفاسيون ش.م.م» التي تولت أيضاً إدارة هذا المشروع. كذلك، شارك «المركز الدولي لدراسة صون وترميم الممتلكات الثقافية» (ايكروم)، في إطار برنامج «آثار» الذي يهدف إلى الحفاظ على التراث الثقافي في المنطقة العربية وتحسينه.

ترميم، دراسات وتحاليل
مديرة المشروع  الاختصاصية في الترميم ايزابيل ضومط سكاف تحدثت عن حالة حفظ الجداريات التي كانت «تنذر بالخطر»، رغم الجهود التي بذلت في سبيل منع النش وتسرّب المياه من سقف الكنيسة. وذكرت ان طبقة الرسم كانت ضعيفة جداً بسبب طفح الأملاح، كما أن تفاصيل السطح، يحجبها بالكامل في بعض الأجزاء، قناع أبيض من الكالسيت الناتج عن انسياب الماء لفترات طويلة على الجدران الداخلية للكنيسة. كذلك، ساهم فساد الطلاء والشمع المستعمل على مدى أعوام، وأعمال سد الفجوات بالاسمنت، في فقدان الزخارف إلى حد كبير، وأدى إلى تعتيمها الى درجة جعلتها غير مرئية في بعض الأماكن».
شملت أعمال الترميم التي استغرقت ثلاث سنوات التنظيف اليدوي والكيميائي، ومعالجة الطبقات الكلسية. كذلك أعيد العمل على منع نش المياه بالكامل من السطح، إضافة الى سد كل الواجهة بالطين، للحد من تسرب المياه وضمان حماية الجداريات الموجودة في الكنيسة على المدى الطويل. وتمت معالجة 60 متراً مربعاً من الرسوم التي تغطي الحنية واللوحات الموجودة على الجدران الجانبية للكنيسة. وأجريت دراسة مفصلة توثيقية بيانية وتصويرية على الرسوم، ستمثل قاعدة بيانات ثمينة للبحوث التي ستجرى في المستقبل كما اوضحت سكاف. وأجريت تحاليل على خليط الرمل والكلس والمواد الملونة بغية الحصول على معلومات إضافية عن التقنيات القديمة التي كان يستعملها الرسامون المحليّون في العصور الوسطى. ويمكن أن تستعمل نتيجة هذه التحاليل في المستقبل كمرجع لدراسات تتناول جداريات أخرى تعود إلى الحقبة نفسها موجودة في كنائس لبنان وسوريا.

 

 

ليون: الامل في إعادة تراث كنسي اصيل
في حفل افتتاح كنيسة القديس تادروس في بحديدات بعيد الانتهاء من ترميم لوحاتها الجدارية الاثرية، كان لوزير الثقافة في حكومة تصريف الاعمال كابي ليون كلمة ربط فيها بين هذا الحدث الثقافي التراثي وواقع المسيحيين المهدد في هذا الشرق قائلاً: «في الوقت الذي تقتل الايادي العبثية وتدمر التراث الكنسي المسيحي في المشرق، نرى أن لدينا الامل في إعادة تراث كنسي أصيل متجذر في لبنان وفي جبل لبنان. ومن الناحية الرمزية نرى مخاطر عديدة تتناول هذا الوجود المتأصل في هذا المشرق، وهذه الكنيسة من أحد الرموز والبراهين على هذه الاصالة والعراقة والتأصل وهناك نماذج اخرى في لبنان». واعلن عن اكتشاف مهم وهو بقايا كنيسة تعود الى القرن الرابع ميلادي وسط بيروت و«سيتم استملاك العقار لحفظه مع كامل الموجودات الاثرية الاخرى كي يكون شاهداً على هذه الحقبة من التاريخ والحضارة بأن أرض لبنان منبت جميع الاديان وتآلفها وتآخيها».
وختم: «ان لبنان وهذا المشرق هما منبت الاديان والتآخي وهذا يحجب كل هذه المظاهر الغريبة عن حضارتنا وتاريخنا واصالتنا في هذه المنطقة حيث بدأت اياديها السوداء تلتف من حولنا ولكن بارادة الجميع سنقطع عليها الطريق ونرد هذا المشرق الى أصالته».
وكانت كلمة اخرى  لرئيس البعثة ريشارد ميلز من السفارة الاميركية في بيروت الممولة لمشروع الترميم لافتاً الى أن «الكونغرس الاميركي أنشأ صندوق السفير للحفاظ على التراث الثقافي والمعروف بـ:  ambassador’s fund for cultural preservation” منذ ثلاثة عشر عاماً، بهدف مساعدة الدول في الحفاظ على مواقعها، تحفها ومجموعاتها الثقافية، بالاضافة الى أشكال عدة من التقاليد الثقافية».
وأضاف: «يتمتع لبنان بغنى في تاريخه الثقافي وقد حاز على ثلاث عشرة هبة منذ العام 2003 من الصندوق»، لافتاً الى أن «الثقافة اللبنانية جديرة بالاهتمام وفي غاية الاهمية على المستوى العالمي، وتمثل كنيسة مار تادروس دليلاً حياً على غنى وأهمية التراث الثقافي في لبنان، وتعود الى القرن الثالث عشر مسلطة الضوء على الجماعات المسيحية التي اعتبرت لبنان ملجأ لها لممارسة إيمانها بحرية».
وقال: «سكنت جماعات عدة لبنان خلال التاريخ محولة إياه المكان المثالي للتعايش السلمي والازدهار بين الشعوب، وبما أن لبنان والمنطقة يواجهان تحديات عدة، فإنه لمن المهم المحافظة على فكرة الوحدة ومفهوم لبنان كمكان للعيش بسلام»، مشيراً الى «عمل السفارة الاميركية مع وزارة الثقافة عن كثب في ترميم وحفظ مشاريع عدة في مختلف المناطق اللبنانية كدليل على إيماننا بأهمية المحافظة على التاريخ الثقافي في لبنان»، ومؤكداً أن «دعم السفارة للمشروع هو مثال على أولوية السفارة العالية لتعزيز التفاهم بين الشعبين الاميركي واللبناني».

كشف صور مدفونة
ويذكر اخيراً انه ليست المرة الاولى التي تشهد كنيسة مار تادروس اعمال تأهيل، فقد سبق ان رممت مديرية الاثار جدرانها من الخارج باشراف المهندس هاروتين كالايان، وحاولت انتزاع الطلاء الداخلي لتبرز الى النور الصور المدفونة تحتها. كما عملت على توفير غطاء للكنيسة لا تخترقه السوائل يقي الرسوم من امطار الشتاء قام به المدير العام السابق للآثار الدكتور كميل الأسمر فنزع عن السطح كميات كبيرة من التراب واستبدلها باسمنت مسلح تعلوه طبقات من المواد العازلة المغطاة بالبلاط لا ينفذ عبرها الماء. وعلى اثر اعمال الوقاية هذه، قام مدير قسم الترميم في متحف بيروت في حينه الدكتور ميشال صراف بكشف النقاب عن هذه الرسوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق