سياسة عربية

العراق: ديالى… البيئة الحاضنة للفتنة

تعود محافظة ديالى العراقية القريبة من بغداد مجدداً الى واجهة احداث العنف المتصاعدة في الآونة الاخيرة قياساً الى ما سبق. فأعمال العنف فيها ضربت رقماً قياسياً، واعمال تفجير المساجد اتخذت شكلاً غير مسبوق، والتهديدات المتبادلة بين القوى والتيارات والمجموعات المنتشرة في هذه المحافظة، تعيد الى الاذهان سنوات الاضطراب العالي الذي شهده العراق في الفترة الواقعة بين عامي 2005 و2008.

اعمال التهجير والنزوح القسري والطوعي للسكان الخائفين والمرعوبين من هذه المحافظة المختلطة، تظهر وكأن ساعة انفجار العنف بلا ضوابط وبلا حدود وقيود، باتت على قاب قوسين او ادنى. وارقام ضحايا العنف في هذه المحافظة بالذات فاقت بما لا يقاس عدد ضحايا العنف في محافظات اخرى، وخصوصاً خلال الاشهر الثلاثة الاخيرة بمن فيهم الذين يقتلون بالتفجيرات او برصاص الاغتيال.
واكثر من ذلك، بات سكان هذه المحافظة على اختلاف انتماءاتهم المذهبية والطائفية يرددون اسماء ميليشيات سبق ان ادت ادواراً وارتكبت ممارسات واعمالاً اقل ما يطلق عليها انها ممارسات وحشية بحق الاهالي، كمثل «جيش المختار» بزعامة واثق البطاطا و«كتائب اليوم الموعود»، و«عصائب اهل الحق»، في مقابل «جيش الطريقة النقشبندية» و«انصار الاسلام» و«الجيش الاسلامي»، فضلاً عن تنظيم «القاعدة» الذي ما غادر اسمه الساحة والواجهة.
  في المحصلة، ووفق رأي جميع الراصدين للشأن العراقي، باتت محافظة ديالى على اتم الجهوزية لتكون مسرحاً منتظراً لفتنة عمياء يمكن ان تستيقظ وتفعل فعلها المدوي والخطير، مستعيدة معها صورة من صور الحرب الاهلية او ما هو على شاكلتها وغرارها.

مخاوف من الفتنة
المخاوف من اتقا
د نار هذه الفتنة على نطاق واسع يخرج عن اطار السيطرة، تلقي بثقلها ووطأتها على المشهد السياسي والامني في العراق، تتردد على ألسنة شخصيات وزعامات وقيادات رسمية تقدم نفسها على اساس انها تمثل سكان هذه المحافظة مثل نائب رئيس الوزراء صالح المطلك ورئيس البرلمان العراقي اسامة النجيفي، اللذين تحدثا عن ادوار مشبوهة لقوات الامن تساهم في تأجيج النزاعات ومناخات العنف واجواء الاحتقان واعمال تهجير لشريحة معينة من سكان المحافظة.
وبالطبع ثمة من الوقائع والمعطيات الديموغرافية والجغرافية السياسية، ما يساهم في ان تكون محافظة ديالى «النموذج الامثل» والمكان الافضل لاندلاع الفتنة التي تطل بوجهها القبيح عنوة، وتسمح بظهور بوادرها قهراً.
وابرز هذه المع
طيات والوقائع ان ديالى محافظة تتصل مباشرة بالعاصمة بغداد، وتضم خليطاً من السنة والشيعة العرب والتركمان، فضلاً عن تجمعات سكانية يحسب لها حساب كالأكراد على انواعهم.
وعلى المستوى
الجغرافي هناك تداخل بين قرى وتجمعات من اللونين المذهبيين الاساسيين في العراق. ولعل ابرز نموذج لهذا الاختلاط هو قضاء المقدادية الذي كان في الآونة الاخيرة المسرح الابرز لاعمال العنف المتبادلة ولمآسي واعمال تفجير لمجالس العزاء ومواكب تشييع الضحايا والقتل.
وعلى المستوى الجغرافي ايضاً، فإن حدود محافظة ديالى تحاذي الحدود الايرانية ايضاً.
وبمعنى اخر، كانت ديالى
حتى فترة قريبة نموذج التعايش المهيمن صورة بين المجموعات المذهبية العراقية والعشائرية والاجتماعية العراقية، وهو امر تمايزت به عن باقي المحافظات العراقية بما فيها العاصمة بغداد، حيث الاماكن والاحياء والشوارع المختلطة قليلة وحديثة العهد خلافاً لما هو قائم في ديالى.
وهذا الواقع الاختلاطي جعلها ايضاً بيئة خصبة لانتشار كل الاحزاب والتيارات السياسية والدينية والفكرية.

مناخات حضرية
ولا ريب في ان وقوعها على مسافة قصيرة نسبياً من العاصمة (على بعد نحو 57 كيلومتراً من بغداد من ناحية الشمال) جعل المناخات الحضرية والمدنية تبدو طاغية على سلوك السكان وعلاقاتهم مع بعضهم وعلاقتهم بالمركز والدولة، وجعلها اكثر بعداً عن العادات والتقاليد العشائرية والقبلية، بل انها صارت في مراحل متقدمة، ينظر اليها على انها جزء من العاصمة، لا سيما بعد ان فضل الكثيرون من سكان بغداد او العاملين فيها العيش والسكن في بعض مدن ديالى ولا سيما بعقوبة، وذلك هرباً من اكتظاظ العاصمة وارتفاع تكاليف العيش والسكن فيها.
وبمعنى اخر، صارت ديالى في مرحلة من المراحل صورة بهية عما يفترض ان يكون عليه العراق بكل مكوناته وثقافاته.
لكن رياح التحولات والتغيرات عصفت بالعراق من اقصاه الى اقصاه بعد الاحتلال الاميركي لبلاد الرافدين في ربيع عام 2003، ولفحت ديالى كما سائر المحافظات العراقية، وخصوصاً محافظات الوسط، اذ عاشت المحافظات اياماً سوداء خلال السنوات العجاف، لكنها ما لبثت ان استعادت هدوءها واستقرارها منذ عام 2008، لا بل ان قواها السياسية ومجتمعها الاهلي سارعا الى نفض اثار وتداعيات تلك المرحلة السوداء عن المحافظة حيث سجلت العديد من الخطوات والتدابير الآيلة الى اعادة الامور الى سيرتها الاولى وتعزيز اواصر الوحدة الوطنية والتحرر من مناخات التعصب والعصبيات.
ولكن الاكيد انه في اعقاب الجلاء التام للقوات الاميركية عن الاراضي العراقية، وما تلاها من احداث وانقسامات، وتصدعات في المعادلة السياسية في بغداد، ولا سيما في اعقاب النفي القسري لنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي الى خارج العراق، تأثرت ديالى كما سواها بتداعيات هذه المناخات والاجواء المحتقنة التي بدأت تفعل فعلها في المجتمع السياسي العراقي عموماً، وفي محافظات الوسط الثلاث، خصوصاً، ومنها محافظة ديالى التي شاركت بنشاط وكثافة في بدايات «الانتفاضة» الاخيرة المستمرة ضد حكومة نوري المالكي وان كانت دون مشاركة محافظة الانبار المجاورة.
لماذا ديالى دون سواها مرشحة لان تكون «موئل الفتنة» التي يلوح شبحها في الافق ومنطلقها دون سواها؟

عوامل مساعدة
الى جانب كونها محافظة مختلطة ومتنوعة حيث مجال الاحتكاكات والصراعات اكثر وروداً واحتمالاً في ظل مناخات الاحتقان الحاصلة، فإن ثمة اسباباً وعوامل اخرى تساهم في توفير ارضية خصبة وبيئة حاضنة لهذه الفتنة التي يخشى منها وابرزها:
- ان المجموعات التكفيرية والمتعصبة والمتشددة عادت لتستعيد ما فقدته من فرص للحراك والفعل، فعادت الى مربعها الاول وعادت الى سيرتها الاولى في ممارسة اعمال العنف على انواعها. في البداية عادت مجموعات تنظيم «القاعدة» لترفع من وتيرة اعمالها، فعادت فجأة الى واجهة الفعل مجموعات اخرى من الطرق الاخرى اوشك الجمهور ان تغيب عن ذهنه افعالها وممارساتها السلبية في مرحلة من المراحل الحالكة في تاريخ عراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين.
– ان رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي ذهب بعيداً في صراعه مع خصمه الالد وهو «القائمة العراقية» وسعى فعلاً الى كسر شوكة القوى المكونة لهذه القائمة، والتي هي خليط من زعامات وقوى وتيارات مختلفة ائتلفت بالاصل لتكون قوة واطاراً في مواجهة المالكي من جهة ولاستعادة التوازن في هرم الحكم في بغداد، وقد احرزت فعلاً تقدماً في هذا المجال، خصوصاً بعد ظهور نتائج فرز صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية الاخيرة، لكنها اصطدمت بمقاومة شرسة من المالكي الذي وضع كل ثقله وكل نفوذه وسلطاته لمواجهة القائمة العراقية وتفكيك وحدتها وسحب البساط من تحت اقدام زعمائها واحداً تلو الاخر توطئة لاقصائه ثم الغائه كما فعل مع الهاشمي ثم مع وزير المال وسواهما.
واللافت ان المالكي لم يبذل الجهود اللازمة والجدية لاستيعاب غضبة المحافظات الوسطى والتجاوب مع المطالب التي رفعوا لواءها، واستطراداً لانجاز مصالحة وطنية حقيقية بل حاول فرط حراكهم وتشتيت قواهم بوسائل واساليب شتى، منها الاغراء ومنها الترهيب ومنها اللامبالاة.

التدخلات الخارجية
– ان التدخلات الخارجية ولا سيما من جاري العراق الاكبرين اي ايران وتركيا فعلت فعلها، فصار سكان المحافظات الوسطى يشكون الاطماع الايرانية المتعددة في العراق، في حين يشكو المالكي وفريقه السياسي من اطماع انقرة وتدخلاتها المكشوفة والمضمرة في الشؤون الداخلية العراقية، بدءاً من الشمال العراقي اي كردستان العراق، وصولاً الى بغداد نفسها، حتى ان المالكي افتعل سجالاً دام اسابيع مع رئيس الوزراء ورجل تركيا الاقوى رجب طيب اردوغان.
– نتيجة لكل هذه المناخات المحتقنة والصراعات المستمرة، خفت تدريجاً قبضة الحكومة العراقية عن ديالى ومحافظتي الانبار وصلاح الدين وتعامل السكان مع دولة عراقية مؤجلة وغير موجودة.
– ثمة سبب اخر وهو خفوت دور مجالس الصحوة وانقسامها على بعضها وضعف روابطها بالحكومة المركزية، علماً بان هذه المجالس اخذت على عاتقها في مرحلة من المراحل ضبط الاوضاع في المحافظات والمناطق المتواجدة فيها وفي مواجهة شتى صنوف الارهاب، ونظر اليها السكان على اساس انها عنصر اطمئنان لهم كون عناصرها وقياداتها من نسيجهم الديني والاجتماعي، اي انهم لا ينظرون اليهم على اساس انهم غرباء، فاعتقدوا جازمين بأنهم بذلك امنوا نوعاً من الاطمئنان الى حكم ذاتي، واستقلالية في مجالات وقرارات معينة.
وبمعنى اخر، مثلت مجالس الصحوة التي تزعمتها بالاصل شخصيات هي بالاصل زعامات عشائرية دور الوسيط بينهم وبين الدولة التي تكونت بعد الاجتياح الاميركي للاراضي العراقية في العام 2003 والتي لم يرتاحوا كثيراً الى ادائها وممارساتها.

في حدود المعقول
ماذا بعد في ديالى، وهل ان مخاوف دخولها في حرب اهلية امر وارد؟
رغم كل صور المآسي والقتل والخراب اليومي، فإن ثمة من لا يزال يرى ان زمام الامور لن تفلت  وستبقى مضبوطة في حدود معقولة في حين ان ثمة من يتخوف من ان يكون جميع الاطراف في العراق باتت تراوح في الازمة، وبالتالي صار الوضع يحتاج الى مشاهد عنف لكي يخرج منها، وليس افضل من ديالى مكاناً لتحقيق هذا المبتغى.

ا. ب


ديالى مساحة وسكاناً وثروات
مساحة محافظة ديالى نحو 17،685 كيلومتراً مربعاً وتقع في شرق بغداد.
عدد سكانها يتجاوز الـ 1،2 مليون نسمة.
اهم مدنها: بعقوبة، بلدوزر، العظيم، صهيب، خانقين، خان بني سعد، الخالص، المقدادية، المنصورية، جلولا وبهرز.
اهم مواردها: الحمضيات ومزروعات اخرى لان فيها ثروة مائية الى جانب الغاز.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق