افتتاحية

هل هذا كثير على لبنان؟

يبدو ان السياسيين لا يروق لهم الجو في البلد، فاذا تواجدوا فيه اختلفوا على كل شيء، وقسموا الشعب وشكلوا تكتلات تناحر بعضها البعض، دون ان يكون للبنان دخل في هذا الصراع. فكلهم مع انفسهم ومصالحهم وعلى الوطن ومصلحته.
ففي العام 1989 وبعدما وصل تناحرهم الى اشده وبعدما دمروا البشر والحجر، خرجوا الى الطائف وهناك استطاعوا ان يتفاهموا ولو بالشكل، وعلى الاقل اوقفوا الحرب فسكتت المدافع وساد الهدوء. وبعد نحو شهر من المداولات توصلوا الى اتفاق جعلوه في ما بعد دستوراً للبنان. وما ان عادوا الى لبنان حتى اخذت الخلافات تدب من جديد. فقبلوا بعض بنود هذا الاتفاق ورفضوا اخرى، فاصبح الاتفاق مبتوراً مليئاً بالثغرات التي نفدوا منها ليعودوا الى الانقسام.
استمرت الحال على هذا المنوال بضع عشرة سنة، وبالتحديد الى العام 2008، وتعذر عليهم انتخاب رئيس للجمهورية يرعى المؤسسات ويحافظ على الدستور. ومرة جديدة خرجوا الى ما بعد الحدود الى الدوحة، وهناك توصلوا الى اتفاق، ويا ليتهم لم يتوصلوا اليه، اذ حمل في بنوده ما يفجره من الداخل. فظهر الثلث المعطل، وسموه تلطفاً وتلطيفاً الثلث الضامن. وظهرت تسميات لم نكن نألفها بمعناها الجديد مثل «الميثاقية» مع ما تعنيه في نظرهم و«الديمقراطية التوافقية» وغير ذلك. اشتد الصراع من جديد فابتكروا طاولة للحوار جلسوا حولها واتفقوا على بعض البنود، الا ان بنداً واحداً مما اتفقوا عليه لم ينفذ، وبقي حبراً على ورق حتى اعلان بعبدا الذي ايده مجلس الامن وجامعة الدول العربية لم يلتزموا به، واعتبره فريق منهم وكأنه غير موجود.
تصاعد الخلاف وانتهى عهد الرئيس ميشال سليمان ولم يتفقوا على رئيس. وانقسمت البلاد بين 8 و14 اذار. فما هو مقبول هنا مرفوض هناك، والعكس صحيح. سنة ونصف واكثر والبلاد بلا رئيس للجمهورية رغم الفرص الكبيرة التي سنحت امامهم. فعادوا يتطلعون الى الخارج وهذه المرة الى باريس ولكنهم لم يذهبوا مجتمعين بل ذهبوا افراداً وتوصلوا الى تسوية وطرح اسم النائب سليمان فرنجية رئيساً. ومرة جديدة قامت قيامة البعض ووضعت العقد في الطريق، رغم ان المواطنين جميعاً ابدوا ارتياحهم للتسوية، باعتبار ان البلد سينهض من جديد في ظل رئيس للجمهورية سينفض الغبار عن قصر بعبدا، وعن المؤسسات المعطلة لها، بفعل هؤلاء السياسيين الذين تنكروا للشعب وللوطن وساروا وراء مصالحهم. فهل يكون المشرفون على التسوية اقوى منهم وينهض البلد؟
لقد عطلوا مجلس الوزراء وهي المؤسسة الوحيدة الباقية التي كانت تعمل ولو بالحد الادنى. وتعذر عليها الاجتماع، مما اضطر الرئيس تمام سلام الى عقد اجتماعات مصغرة مع هذا الوزير او ذاك او مع هذه المجموعة الصغيرة من الوزراء على امل حل مشاكل الناس، الذين كفروا بسياسييهم وباتوا يتطلعون الى الخارج الى بلاد الناس البعيدة، علهم يجدون ما فشل وطنهم في تأمينه لهم.
افضل ما يحصل اليوم ان التسوية المطروحة نسفت تكتلي 8 و14 اذار فانفخت الدف وتفرق العشاق، ولم يعد من هاتين القوتين الا الاسم. فتكتل 14 اذار انقسم حول التسوية، خصوصاً وان بين صفوفه مرشحين عدة للرئاسة وكل واحد يشد نحو صدره، حتى انهم يسعون الى توحيد صفوفهم لمواجهة هذه التسوية التي تحرمهم من تحقيق احلامهم.
وقوى 8 اذار انتابتها العوارض نفسها وكل مرشح للرئاسة يسعى الى ان يكون هو الذي يجب ان يقع الخيار عليه. وهكذا وبفكفكة هذين التكتلين بدأ البلد يتنفس وابدى المواطنون ارتياحهم لانهم لم يروا خيراً بوجود هذه القوى التي اثبتت انها تعمل لمصالحها الخاصة.
المهم ان يوفق الله سعاة الخير فتمشي التسوية وينتخب رئيس للجمهورية يعيد الحياة السياسية الى طبيعتها. ولا نخال ان هذا الرئيس الذي سينتخب سيكون سعيد الحظ، اذ ان احمالاً ثقيلة تنتظره، وعسى ان يتمكن من حملها، فللفئات السياسية مطالب وللشعب اللبناني مطالب اكبر.
مثلاً ان اول ما يطلب من الرئيس الجديد ان يجد حلاً لعقدة انتخابات الرئاسة. فلا يجوز ان تنتظر البلاد في نهاية كل عهد اشهراً وسنوات لتتمكن من تنفيذ هذا الاستحقاق. وهناك حلول معتمدة في الدول الراقية ويمكن ان نستلهم منها لمعالجة هذا الامر.
وعلى الرئيس الجديد ان يخرج البلاد من انعكاسات ونتائج اتفاق الدوحة فلا يكون هناك فيتوات ولا معطلات لشؤون المواطنين، اذ لا يجوز ان يتمكن شخص واحد كما هو الحال اليوم من التحكم بمصير البلاد. وعلى الرئيس الجديد ان يبادر الى الطلب من المجلس النيابي، رغم عدم شرعية هذا المجلس الممد لنفسه وضع قانون منصف وعادل للانتخابات، يراعي مصالح كل اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم. فمن غير المعقول ان يعمد النواب في كل مرة تنتهي ولايتهم الى التمديد لانفسهم، وهذا اسهل الحلول، بحجة عدم وجود قانون للانتخاب يؤمن المصلحة للجميع.
وعندها يصبح من الطبيعي ان يكون في المجلس موالاة ومعارضة، وهذا امر ضروري والا غابت المحاسبة كما هو حاصل اليوم. ففي بلاد العالم كله هناك موالاة تتولى الحكم وهناك معارضة تراقب وتحاسب وتصحح المسار في حال وجود خطأ وبذلك تستقيم الحياة الديمقراطية.
ان ما نطلبه يبدو بالنسبة الى الوضع الذي نعيشه ضرباً من الاحلام مع انه في الواقع امر طبيعي لا جدال فيه والمطالب عادية ومحقة. فهل هذا كثير على لبنان؟

«الاسبوع العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق