آدب

فؤاد افرام البستاني… حكواتي عتيق نشر المعرفة بين الناس

اللبنانيون ما زالوا يتذكرون العلاّمة الدكتور فؤاد افرام البستاني (1904 – 1994)، تارة من خلال ندوة او مؤتمر او محاضرة تقام حول سيرته الادبية واعماله المختلفة، وطوراً من خلال ذكرى او مناسبة تكريمية، او دراسة في مجلة او جريدة… في بداية عهدي بالصحافة، في اوائل الستينيات من القرن العشرين كان فؤاد افرام البستاني من جملة الذين حاورتهم، وبعدئذٍ، صرت التقيه في اوقات متفاوتة… اكثر ما لفتني في شخصيته التي لا تشبه اية شخصية اخرى، تعدد اهتماماته الادبية، وقوة ذاكرته، واسلوبه الحكواتي العتيق – اذا جاز القول – في توصيل افكاره بشكل واضح وشامل… انطلاقاً من هنا، باستطاعتي القول، انه دائرة معارف متنقلة، تعاطى مع مختلف فنون الكتابة، ومختلف الموضوعات… انجز خلال عمره المديد ثلاث موسوعات في الادب والتاريخ والمعرفة العامة، وألّف عشرات الكتب، وامضى عمره في التعليم والتربية في كبريات المعاهد والجامعات، وساهم في انشاء البكالوريا اللبنانية والعديد من المؤسسات العلمية والتربوية، بما فيها الجامعة اللبنانية في سنة 1953 وتولى رئاستها حتى بلوغه سن التقاعد في اول تموز (يوليو) سنة 1970.

يوم زرته في مكتبه الانيق في الجامعة اللبنانية، حدثني مطولاً عن موسوعة «دائرة المعارف»، وكان يكمل ما بدأه المعلّم بطرس البستاني، وصودف – يومئذٍ – صدور المجلد الرابع الذي كان لا يزال يدور حول حرف الألف صاحب النصيب الاكبر في هذا العمل الموسوعي الضخم، اذ ان معظم الكلمات والاسماء تبدأ به، ومثالاً على ذلك، القارات الخمس، اي آسيا وافريقيا واوروبا واميركا واوقيانيا، فضلاً عن ذلك، فان ثلاثة ارباع الاسماء في الشرق تبتدىء بالألف، مثل: ابن، او أبو، كما ان اكثرية الكلمات المتداولة يأتي الالف في اولها، مثل: الاتحاد، الاحلاف، السكان، الخ…
ومن الاسماء التي تناولها المجلد الرابع: ابن المقفع – ابن منظور – ابن ميمون – ابن النفيس – ابن الهشيم – ابو تمّام – ابو العلاء المعري – ابو شبكة – وهكذا دواليك…
وكان الدكتور فؤاد افرام البستاني يتوقع ان ثلث المشروع بكامله سوف يدور حول حرف الألف.

موسوعة جامعة لكل المعارف البشرية
في ذلك الحين، قال لي فؤاد افرام البستاني، بأن «دائرة المعارف» تعتبر أثراً يكتبه الاختصاصيون لغير الاختصاصيين، وهي بالاضافة الى صفتها العلمية، كتاب ثقافة عامة، وتبسيط عام، تغني القارىء عن مكتبة كاملة.
وبشكل واضح، قال: «هذه الدائرة» هي قاموس عام لكل فن ومطلب، كما حددّها منشئها الاول المعلّم بطرس البستاني، فهي جامعة لكل المعارف البشرية، ونرى فيها كل ما نجده في دوائر المعارف العالمية، شرقية وغربية، انما كان لنا عناية خاصة في الابحاث الشرقية، ولا سيما العربية منها وخصوصاً اللبنانية. وهكذا يندرج الانسان من دراسة بيته الى معرفة احوال جيرانه ثم معرفة احوال العالم، وهو امر طبيعي. وقد يستغرب المطالع، للوهلة الاولى، التوسع في ابحاث قد لا يجد عنها في الموسوعات الاوروبية الا الكلام القليل…».
يومها، عرفت منه، ان «دائرة المعارف» تطبع ما يناهز العشرة آلاف نسخة، وذلك في سبيل حاجة البلاد العربية ودوائر الاستشراق والمكتبات العالمية.

مسيرة معرفية طويلة لم تُتعب صاحبها
من المعروف، ان العلاّمة الدكتور فؤاد افرام البستاني امضى سنوات عمره الطويلة منكباً على الكتابة والتدريس ونشر المعرفة بين الناس… وعدا الموسوعات الثلاث: «دائرة المعارف»، و«الروائع»، و«تاريخ لبنان»، له عشرات المؤلفات… وعندما التقيته في التسعينيات من القرن الماضي، وكان عمره 85 سنة، قلت له: ألم يتسرب التعب اليك بعد؟
فقال: «ما هو التعب؟ التعب في العرف العام، ما يشعر به الانسان بعد ان يتكلف امراً خارقاً او غير طبيعي في حياته اليومية، اما وقد اصبحت الكتابة والتأليف، بفضل مهنة التدريس التي اتخذتها منذ الصبا الاول، من صلب حياتي اليومية، فلم يعد هناك مجال للتعب، لان الكتابة والتأليف وما اليهما من اعمال عقلية اصبحت من طبيعة الحياة، لهذا، والحمدللهّ، لا اشعر بما يشعر به من يتكلف شيئاً لم يألفه في طبيعة حياته».
في ذلك الحين، كان اصدر كتابه الضخم «الاسبوع الحاسم في تاريخ الانسانية» وهو مجموعة تأملات وتعليقات على اسبوع الآلام يوماً فيوماً. كما صدر له بعد هذا الكتاب، كتابان لطيفان، الاول «لبنان ما قبل التاريخ»، والثاني «لبنان في ما قبيل التاريخ»، وغيرها من الكتب…

«حشرية» في سبيل المعرفة
وكما سبق وذكرت، فمن ميزاته البارزة، قوة الذاكرة، وشمولية المعرفة، ودقة السرد… وعندما حاولت معرفة سر هذه الظاهرة البشرية، بادرني بالقول: «ان السر في قوة الذاكرة، فهو هبة من جملة المواهب التي منحها اللّه بعض الناس، ولكن هذه المواهب، مهما كانت، يعززها الانسان بارادته وايجاده الاساليب التي نغذيها وننميها في مقارنات تاريخية قديمة او حديثة. ومن عادتي ان ادّل طلابي الى بعض هذه المقارنات. مثلاً: اذا ذكرنا الثورة الفرنسية سنة 1789، اقول لهم: في هذه السنة نفسها كان بدء حكم الامير بشير، وتأسيس مدرسة عين ورقة. اما الرغبة في شمولية المعرفة، فهي «حشرية»، اي من نوع الاندفاع الفضولي في سبيل المعرفة ومقارنة المعطيات».

البداية مع قصة «على عهد الامير»
يقول ادوار حنين، لو ان فؤاد افرام البستاني واصل كتابته في اتجاه القصة التاريخية لشهدنا بلزاكاً سوّيا… وعندما ذكرت له ذلك، حدثني عن تجربته في هذا الميدان التي بدأها في سنة 1926، مع كتاب «على عهد الامير» بعد سنة من بدايته التدريس في سنة 1925، وكان عمره 19 سنة، اي فور حصوله على شهادة البكالوريا الفرنسية (القسم الثاني)، كما باشر تأليف سلسلة «الروائع» وهو في التدريس ايضاً…
في هذا الصدد قال لي: «بالواقع، ان اول نشاط لي في الكتابة كان في الفن القصصي، لاني كنت مشبعاً بشخصية الامير بشير وبما كان يرويه عنه بالتواتر مشاريخ دير القمر، ولا سيما مشايخ العائلة البستانية…».
مشيراً الى ان هذه الاخبار وصلته متسلسلة، شفهية، لم تتغيّر، وكتبها بالاسلوب الذي كان يسمعها فيه «فأعجبت الناس بطبيعتها وواقعيتها وبداهتها وخلوها من كل تصنع وتكلف، وهو السر في جاذبية الفن القصصي، وهو ما اخذ به تلميذي وصديقي ادوار حنين، فاعجب واسف على اني لم اخصص كل حياتي في هذا السبيل».

عدد تلاميذه بالآلاف…
عندما ذكر لي ان ادوار حنين هو تلميذه، لم أتمالك من ان اسأله: من خلال لقاءاتي الاخيرة معك، اراك كلما ذكرت اسم احد الاشخاص الكبار، تقول: «هذا من تلاميذنا…»، فهل تذكر عدد تلاميذك؟
ضحك وقال: عددهم كبير جداً، جداً… وهم ينتمون الى مختلف الطبقات والمذاهب… فهناك الالوف من رجال السياسة والدين، ومن اهل الادب والفكر والشعر والصحافة…».

«الروائع» التي نهلت منها الاجيال
تعتبر سلسلة «الروائع» علامة مضيئة في مسيرة فؤاد افرام البستاني الادبية، وظهر الجزء الاول منها، وهو خاص بنهج البلاغة لعلي بن ابي طالب، في حزيران (يونيو) 1927، وصدر منها اكثر من 60 جزءاً، واقتضى رواجها اعادة طبعها مرات في طبعات منقحة، وزيد عليها حتى تجاوزت نسخها المليون، وهو ما لم يعهد في كتاب ادبي باللغة العربية.
وفي حينه، استقبلتها اوساط التدريس في المدارس الثانوية والكليات الجامعية بالتأهيل والترحيب، كما ذكرتها اقلام النقاد من عرب ومستشرقين بالرضى والتقريظ والاستزادة.
نشأت لديه فكرة «الروائع» بعد اطلاعه على مجموعة «هاتيه» الفرنسية التي كانت تخص كل جزء منها بمؤلف، او بأثر للمؤلف، ينشر بكامله، او بمختارات منه… وكان همها تسهيل درس الادب الفرنسي بابراز اعلامه وعرض آثارهم، في اطار تعليمي سهل التناول.
وكان فؤاد افرام البستاني يتمنى «ان يكون لنا يوماً في الادب العربي، ما يماثل هذه المجموعة من دراسات ومنتخبات، بدلاً من اكتفاء الاستاذ باملاء ملخص لحياة الاديب في بضعة اسطر يردفها ببعض الابيات المختارة، ثم ينتقل الى ذكر غيره، وهكذا ينتهي من مؤلفين او ثلاثة في الدرس الواحد».
سألت الدكتور فؤاد افرام البستاني: بين القاص والمؤرخ والبحاثة والمربي والمترجم وكاتب السيرة والحكواتي الخ… اين تجد نفسك على حقيقتها؟
اجابني: في كل شيء.

اسكندر داغر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق