كتب

جوزف أبو رزق: الفن رسالة تواصل بين الكائنات الانسانية

في بلدة المتين النائية، البعيدة عن بيروت، أقيم اول متحف للفنون التشكيلية في لبنان، وذلك في احدى قاعات القصر البلدي، تحت اسم «متحف المتين للفنون» الذي انبثق من خلال تكاتف ابناء البلدة وايمانهم الكبير بالعِلم والفن. منذ زمن بعيد ونحن ننتظر من دولتنا ان تقيم مثل هذا المتحف، في بيروت، خصوصاً وان المكان جاهز، والقرار اتخذ، والاعمال الفنية «أكثر من الهمّ على القلب» – كما يقول المثل عندنا – وهي فريسة للاهمال والضياع في مستودعات وزارة الثقافة. وهذه الاعمال تختصر ذاكرتنا الثقافية والوطنية، وبعضها يحمل تواقيع رواد الفن التشكيلي في لبنان. تحية الى بلدة المتين التي حققت ما عجزت عنه الدولة بقضها وقضيضها، فأنشأت هذا المتحف الذي يضم في داخله مجموعة كبيرة من الرسوم والمنحوتات التي تحمل تواقيع عدد كبير من اهل الفن، بلغ عددهم 58 رساماً ونحاتاً، واعمالهم تشكل نواة هذا المتحف، من بينهم: وجيه نحله – سمير ابي راشد – جوزف مطر – حليم الحاج- سميرة نعمة – نزار ضاهر – حليم جرداق – كريكور اغوبيان – حسن جوني – الياس ابو رزق – انطوان برباري – جورج خيرالله – ددي ابو رزق – سامي الرفاعي – الاب جان جبور – وغيرهم… ومن اجل الاطلاع على هذه الخطوة الرائدة، توجهت الى احد ابناء المتين المفكر جوزف ابو رزق، الذي قام بالدور الفاعل، ليس في اقامة «متحف المتين للفنون» فحسب، بل على الصعيد اللبناني ككل، سواء في تنمية الحركة الفنية، او في انشاء معهد الفنون، او في تدريس فلسفة الجمال والفن وتاريخه… فماذا قال؟

 ماذا تحدثني عن «متحف المتين للفنون» الذي اقيم حديثاً؟
المتحف اقيم في بلدة المتين وتم افتتاحه برعاية وزير الثقافة كابي ليون في القصر البلدي الذي كان اساساً مسكن احد الامراء اللمعيين الذين كان مركزهم الاساسي في بلدة المتين. اشير في هذا السياق، الى ان هذا القصر قدّمه لمجلس بلدية المتين احد وجهاء البلدة السيد روجيه صرّوف ليكون مركزاً للبلدية.
من حسن الحظ، ان المتين، منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى، كانت لأهلها نزعة طبيعية نحو التعلّم والتثقف والفن. وبالفعل، فقد انشئت فيها المدارس، والذي انشأها كان سبق له ان تتلمذ في جامعة القديس يوسف في بيروت.
اعني، ان المتين في الثلاثينيات من القرن العشرين كانت تضم مجموعة من الشبان المثقفين، بينهم شعراء وادباء ومسرحيون وموسيقيون وفنانون. من الطبيعي ان يكون لهذا الارث وقعه وأهميته في انماء الحركة الثقافية والفنية في بلدتنا.
أضيف الى ذلك، ان من نتيجة هذه النهضة الثقافية والعلمية والفنية، قامت نخبة من الشبان وجعلوا من محترف الفنان الراحل جورج خيرالله – الذي تتلمذ زهاء 12 سنة في ايطاليا – بعد رحيله في ريع شبابه، مركزاً لاقامة المعارض الفنية وتنظيم السمبوزيونات.

اقامة المتحف
من تذكر من هؤلاء الشبان؟

بين هؤلاء الشبان المتذوقين للفن، الاستاذ نعيم بارود الذي كان يهتم بصورة خاصة باقامة هذه المعارض التي اشرنا اليها والتي جعلته على صلة بعدد من الفنانين المعروفين. ولحسن الحظ، يشغل نعيم بارود مكان عضو في المجلس البلدي. وبما ان البلدية برئاسة الاستاذ زهير ابي نادر المثقف الواعي، كانت قد وزعت الاعضاء على لجان عدة لكل واحدة منها مهامها، فقد اولت رئاسة اللجنة الثقافية للاستاذ بارود اضافة الى اربعة من الاعضاء الذين لا يقلون ثقافة ودربة واطلاعاً على الحركة الفنية.
هي، اذاً، اللجنة الثقافية المذكورة التي اقترحت على رئيس المجلس البلدي واعضائه اقامة متحف في الطبقة السفلى من القصر البلدي فكان لها ما شاءت.

محتويات المتحف
كيف حصلتم على الاعمال الفنية؟
لما كانت البلدية لا تملك من الامكانات المادية ما يمكّنها من الحصول على ما يتطلبه هذا المتحف من اعمال فنية، فقد اخذت اللجنة الثقافية برئيسها واعضائها مسؤولية تزويد هذا المتحف بما يتطلبه من رسوم ومنحوتات. والدليل الذي بين يديكم يكفي لاطلاعكم، ليس فقط على عدد الاعمال الفنية التي تضمها نواة هذا المتحف، بل على اسماء الفنانين المشهورين في لبنان وخارج لبنان الذين تبرعوا بكرم وسخاء باعمالهم لانشاء هذا المتحف.

جهود مشتركة
ما هو دورك في انشاء هذا المتحف؟
سبق لي، كما تعرف ذلك، ان شغلت منصب رئيس دائرة الفنون في وزارة التربية الوطنية، وانني بفضل ما اتاحت لي مسؤولياتي، عملت جاهداً على صعيد تنمية الحركة الفنية في لبنان، وبما انني سعيت الى انشاء معهد الفنون في اطار الجامعة اللبنانية وتم تحقيق هذا الحلم على يد الوزير المرحوم غالب شاهين، بالرغم من انه ليس هو من وقّع المرسوم، وبما ان ثقافتي الفلسفية والادبية والفنية سمحت لي بأن ادرّس فلسفة الجمال والفن وتاريخ الفن اللبناني والفن العالمي في هذا المعهد، ذلك كله، اتاح لي ان اقيم علاقات متينة وصادقة، سواء مع الفنانين ام مع الطلاب الذين تخرجوا، اما من معهد الفنون او من الاكاديمية اللبنانية. لأن الاكاديمية ايضاً دعتني لتدريس الجماليات لطلابها. هذه الصداقة والتعارف والمشاركة في نشر الرسالة الفنية اتاحت لي ان اضم جهودي الى جهود اللجنة الثقافية في المجلس البلدي.

الفن رسالة تواصل
ما الذي دفعكم الى ايلاء مشروع اقامة هذا المتحف النموذجي؟
اذا سمح لي رئيس واعضاء اللجنة الثقافية، ورئيس المجلس البلدي في المتين، ان اتحدث عن الدوافع التي دفعتهم ودفعتني الى اقامة هذا المتحف، قلت ما يأتي: الفن في نظري – وذلك ما فصلته في المؤلف الذي صدر بالفرنسية سنة 1979 تحت عنوان «مخطط لفلسفة جمالية» واعيد طبعه في الاكاديمية اللبنانية، ومنذ بضعة اشهر في دار نشر «لارمتان» في باريس – هو رسالة تواصل بين الكائنات الانسانية. اي ان الفنان، راقصاً كان ام شاعراً ام مغنياً ام موسيقياً ام رساماً ام نحاتاً ام مسرحياً، لا يبغي من خلال نشاطه تأمين حاجاته الجسدية بل ارضاء ما يشعر بأنه اسمى ما في هذه الحياة.
بتعبير اوضح، الفن هو عمل مجاني، فاذا عرفنا بأن من شأن العمل الفني المجاني ان يجذب، ليس فقط انتباه المشاهدين، ولكن حبهم وثقتهم بالفنان لكونه يرفض التخاصم واياهم، تأكد لنا ان ما يطمح اليه الفنان من خلال عمله المجاني هو كسب ثقة وعواطف – والى حد ما – محبة اشباهه. فاذا ادركنا ان من شأن هذا التواصل وهذا التعاطف ان يسهّل ليس فقط للفنان بل للمعجبين بفنه، انتماءهم الى ما نسميه العالم الانساني، عرفنا ان الفن هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن الانسان من الاحتفاظ بهويته الانسانية التي بمعناها الصحيح تعني حريته. اي انه بمجرد انتمائه الى العالم الانساني تحرّر من قبضة العالم المادي واصبح سيّد نفسه، اي ان ما تضمه اللانهاية من نجوم وشموس واقمار وكواكب لا تتمتع بجزء من الحرية التي يتمتع بها الكائن البشري اذا احسن اتصاله وانتماءه الى العالم الانساني.

نحو عالم انساني
ما هو الهدف اذاً؟
الهدف الاساسي اذاً، هو اتاحة الفرصة للناس كافة، بأن يتواصلوا ويحسوا بأنهم ينتمون الى عالم انساني وانهم بذلك يتحدّون كل العوالم المادية المتبعثرة في هذه اللانهاية.
اذا فهمنا اهمية الفن فهمنا الانسان. واذا فهمنا حقيقة الانسان، فهمنا كل ما يقوم به الانسان من نشاطات وتصرفات وابداعات وثورات وحروب ومجازر وجرائم…
متحف المتين الصغير سيعلّم – اقله – ابناء البلدة ومن يزوره من ابناء البلدات المجاورة، ان يهتموا بانماء هويتهم الانسانية.

 سؤال بحاجة الى جواب!
الى متى سيظل لبنان من دون متحف فني مركزي؟
كنّا نأمل ان يكون المسؤولون قد أولوا ليس الفن بما هو فن، بل المنجزات الفنية المحفوظة في متحف ما تستوجبه من اهتمام، خصوصاً وان في عهدة وزارة الثقافة اليوم مجموعة ضخمة من الاعمال الفنية، تمثل ليس ما قام به الفنانون المعاصرون فحسب بل من سبقهم من فنانين لبنانيين، علماً بأنه بتاريخ 14-8-1996 اتخذ مجلس الوزراء بناء على طلب وزير الثقافة ميشال اده قراراً بتحويل المبنى الزجاجي الكائن بالقرب من المتحف الاثري متحفاً للفنون التشكيلية، فما الذي منع تنفيذ هذا القرار؟! هل لأن المسؤولين مطمئنون الى انهم امنوا للبنانيين ما يتيح لهم ان يحافظوا على هوياتهم الانسانية، اي على حقيقة وجودهم وليس حياتهم. فما هو الذي امنوه لهم؟ ليرشدونا فنصمت!

الى اين؟
انطلاقاً من ذلك كله، هل تعتقد ان ذاكرتنا الثقافية والحضارية في خطر؟!
السؤال يا صديقي اسكندر، تصعب الاجابة عليه، باعتبار انه يستوجب التمييز بين مفهوم الثقافة والحضارة والتكنولوجيا ومنتجاتها. انا اعتبر ان العِلم للعِلم هو ثقافة وهو حضارة وهو من العناصر التي تزكي التواصل بين الانسان واشباهه الانسانيين. اما اذا اعتبرنا ان العِلم يستهدف اول ما يستهدف تنمية التكنولوجيا وامكاناتها وما بامكان انتاج هذه التكنولوجيا، سواء على الصعيد التجاري ام الصناعي ام العسكري، من شأنه ان يفقد الانسان انسانيته ويعلّقه بغرائزه وشهواته وما بامكانه ان يرضي هذه الشهوات. اي ان العِلم الذي ينصرف حالياً الى خدمة الجسد وغرائزه وشهوته سوف يقلل من اهمية الثقافة ويصرف الانسان من التوجه في اتجاهاتها.
مما لا شك فيه، نحن نعود – اذا استمرينا في السير بالاتجاهات التي تيسرها التكنولوجيا – الى الارتماء في حيوانيتنا!.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق