موريس معلوف … خلق من ذاته إنساناً آخر!
باكراً جداً، راودت موريس معلوف الأحلام الوردية… وباكراً ايضاً، شدّه الفن، من خلال الأفلام التي كان يشاهدها على الشاشة، او فوق خشبة المسرح، حالماً بأن يكون مثل اولئك النجوم الكبار الذين يحتلون الشاشات والمسارح وصفحات كبريات مجلات العالم. كانت البداية فوق مسرح المدرسة، وكانت التجربة الاولى التي لم تكن سهلة على الاطلاق – يوم قام بدور فتاة في مدرسة للصبيان فقط – ولكنه تخطاها بنجاح، لأنه كان يختزن في اعماقه موهبة كبيرة، وتصميماً على تحقيق احلامه الوردية. كبر موريس معلوف، وكبر طموحه، وصار همّه الاكبر ان «يكون الآخر» اي ان يجسّد مختلف الشخصيات، وهنا تكمن الصعوبة، ولكنه تخطاها ايضاً وبنجاح، بعد ان صقل موهبته في كبريات المعاهد العالمية، ومن خلال تجاربه الكثيرة… وهكذا استطاع ان «يخلق من ذاته انساناً آخر» على خشبة المسرح، وعلى الشاشة الكبيرة والصغيرة. وكما برع في التمثيل، برع ايضاً، وبشكل لافت ومميز، في الاخراج المسرحي، وفي التدريس والتدريب في الجامعات. ومن اجل ذلك كله، كرّمته «الحركة الثقافية – انطلياس» في اطار المهرجان اللبناني للكتاب – 33».
قدّمت الندوة وادارتها الشاعرة الدكتورة نجاة الصليبي الطويل، مشيرة الى ان المكرّم موريس معلوف ارتبط اسمه بالمسرح اخراجاً وتمثيلاً وتدريساً. تُعَدّ سيرته الذاتية الغنية والمتنوعة مرجعاً لمعظم عناوين الاعمال المسرحية والاتجاهات المختلفة، في الحقبة الممتدة من الستينيات حتى يومنا هذا. عايش مهنة المسرح، منذ «حلقة المسرح اللبناني»، و«المسرح الحرّ»، مع كبار المسرحيين المعاصرين. أسس مسرحاً للأطفال، وكان لافتاً تأسيسه لفرقة المسرح الايمائي اللبناني والمسرح الاختباري. كما عُرف بتمثيل شخصيات عديدة وبالتعاون مع الكثير من المخرجين. وكان لافتاً انتقاله الى ادوار تلفزيونية وسينمائية طبعت ذاكرة المشاهد اللبناني والعربي. اخرج وساعد في اخراج العديد من المسرحيات. وعُرف بتأسيس المهرجان الدولي للمسرح الجامعي.
وعلى الصعيد الاكاديمي، رأت نجاة الصليبي الطويل، انه كان استاذاً ديناميكياً في معهد الفنون الجميلة – الجامعة اللبنانية، ثم التحق بالجامعة اللبنانية الاميركية وكان مؤخراً عميداً في الجامعة الاميركية للتكنولوجيا. وشارك في مهرجانات عديدة، وكان عضواً فاعلاً في الكثير من المراكز والمؤسسات والمؤتمرات الفنية.
كل شيء ممكن
وخلصت الـى القول، ان موريس معلوف حالم كبير، عصامي في المحافظة على عالم تراءى له منذ سنوات شبابه الاولى العابقة بالالوان. يؤمن بأن كل شيء ممكن وانه «لا بدّ…» فاستمر يحاول اللحاق بهذا العالم الافتراضي، مرتفعاً عن اليومي والمألوف. فلا تفاجئك جرأته وبعض مقولاته الخاصة به، فهو يريد دوماً اثبات حريته وحرية تفكيره والتمسك بالقدرة على القيام بأي عمل او تصرّف. فكل شيء قابل للاختبار، وهذا ينبع بالنسبة اليه من قدرات الانسان العالية وقابليته للتغيير والتسامي نحو الافضل بحثاً عن جوهر حياته ومعناها.
داء المسرح كان يتفشى فيه
الصحافية والروائية مي منسى أضاءت على سيرة المسرحي موريس معلوف، المثقف الراقي الذي عجن اخلاقه واحلامه وسني عمره في تربة المسرح. وُلد من رحم مسرح الستينيات، مصاباً بدائه، فتياً، يحلم بدور يصبغه بمصير شخصيات الروايات ومن قدرهم قدره، يموت ميتتهم ويعود من كيميائية المسرح العجيبة الى الحياة. وتحقق الحلم، اذ اصبح موريس معلوف ممثلاً محترفاً في «حلقة المسرح اللبناني» مع انطوان ملتقى وريمون جبارة وغيرهما، لكن داء المسرح بقدر ما كان يتفشى فيه، كان في آن يحثه على تحصيل اكاديمي يجمع فنون المسرح من اطرافها.
مشيرة الى ان هذا العطش كان لا شك يشعر به حاجة لبلوغ الينبوع ليرتوي، لذلك مضى الى صميم التخصص في اوروبا الى ان حاز على دبلوم دراسات عليا في الاخراج التلفزيوني في لندن، وماجستير دراما من جامعة كاليفورنيا، وماجستير تمثيل واخراج من جامعة «بازادينا بلايهاوس» في لوس انجلوس، كما دبلوم للتمثيل من معهد ستراسبورغ. خبرات واسعة كانت لموريس معلوف البذور التي جاء بها الى بيروت، زرعها مواد مسرحية عامة، في طلاب الجامعات فينهل الجيل من تجاربه عشقاً وطموحاً لصناعة خلية فنية من شهد العسل المسرحي.
تألق في ادوار مختلفة
في رأي مي منسى، ان سيرة موريس معلوف المسرحية وان بدأت مع بدايات المسرح في بيروت، غير انه لم يدخل في خانة زمنية ام تصنيفية، فهو مشى مع قافلة المرصودين للاستمرارية، فارشاً ذراعيه كقائد اوركسترا على التمثيل، والاخراج، والتدريس الجامعي. وتاريخه في التمثيل والاخراج متمدد على نصف قرن من الترهّب في هيكل المسرح والولادات العجيبة من رحمه والتنكر في شخصيات مختلفة…
وتابعت تألق موريس معلوف في الادوار التي لعبها على الخشبة منذ الستينيات حين كانت الخلية المسرحية تزداد يوماً بعد يوم بصانعي النحل. عرفته متعرياً من انسان الحياة متخاوياً بانسان الحكاية، ممثلاً في مسرحيات اصبحت تاريخاً في ثقافة الوطن، وصناعة وطنية بحتة، «من قطف زهرة الخريف» لريمون جبارة، و«الازميل» لانطوان معلوف، «محاكمة يسوع» و«صانع الاحلام» لريمون جبارة، و«اماريس» لموريس عواد… كما انتحل عشرات الشخصيات المقتبسة حكاياتهن عن كبار مسرحيي العالم، يكتسي بهم، يتلوّن بمصيرهم، ويبقى بعد ان يعم الصمت على الخشبة وتعلو هتافات الجمهور، مسكوناً بخرافتهم، موسوماً بطلاسمهم. فبين المسرح والحياة معجزة تتكرر تحت الاضواء، أمسك موريس معلوف بمقاديرها السحرية جاعلاً من كل دور ولادة، باقية ليس فقط في ذاكرته بل في ذاكرتنا نحن ايضاً كذخيرة تحرسها من النسيان.
محاكاة مخلوقات هذا العالم
المسرحي موريس معلوف تطرق في مستهل كلامه، الى لعبة المسرح والتمثيل بشكل عميق، واقفاً باجلال وبدهشة امام عظمة خلق اللّه وابداعه، هو خلق الانسان – الممثل ايضاً يخلق انساناً؟ – كلما مثّل دوراً. او كما نقول احياناً، تقمّص شخصية، بتحوّل تلك الشخصية، جسداً، عقلاً، وروحاً. قد تقولون هذا مبالغ فيه، لا يصدق. ولكنها الحقيقة. انها ارفع مرتبة في الخلق والابداع عند الممثل. الممثل يخلق من ذاته انساناً آخر. من جسده وصوته وأحاسيسه. من عقله وروحه. انه بذلك يحاكي اللّه.
مشيراً، الى انه منذ طفولته، نمت عنده موهبة تقليد ومحاكاة مخلوقات هذا العالم، لمعرفة مكنوناتها والولوج الى جوهرها. كان السؤال دائماً عنده: كيف يعيش الانسان ويتصرف ويعبّر؟ كانت عندي رغبة قوية لمعرفة الآخر. وجدت نفسي ممثلاً ادوار بعض الاشخاص في المناسبات الاجتماعية، محاطاً بالاقارب والاصحاب. كنت افرح كثيراً من دهشتهم، من صمتهم وهم يلاحقونني بعيونهم باهتمام واعجاب.
التحوّل الى شخص آخر!
بعد تجربته المدرسية الاولى اتخذ موريس معلوف القرار: أكرّس حياتي لهذا الفن. أليس هذا ما كنت احلم به كلما حضرت فيلماً لجيرار فيليب، وجيمس دين، وروك هدسون، ومارلون براندو، وإيف مونتان، آه كل هذا السحر! أن أكون الآخر. ان اتحول الى شخص آخر في كل مسرحية او فيلم. حدث رائع! انك خلال ايام تصبح: ملكاً – بطلاً اسطورياً – قائد عسكر – قاضياً – كاهناً – تاجراً مشهوراً – مجرماً – عشيقاً لأجمل ممثلات العالم… ان اكون كل هؤلاء متخطياً حدود الزمان والمكان، وكل القواعد والموانع.
الى ان كانت مرحلة المراهقة، وهنا قال: جمعتني المصادفة، بواسطة صديق، بالفنان المسرحي انطوان ملتقى وبأعضاء «حلقة المسرح اللبناني». ودخلت عالم المسرح من بابه الواسع. كانت البداية مساعد مخرج لأنطوان ملتقى في مسرحية «جريمة وعقاب» قُدّمت في راشانا، تمثيل: ريمون جبارة ومجموعة كبيرة من الممثلين. وكرت سبحة الاعمال حتى مسرحية «لعبة الختيار»، في مسرح بيروت (عين المريسة)، انتاج «المسرح الحر»، اخراج برج فازليان، وتمثيل: اندريه جدعون – ريمون جبارة – رضى خوري – مادونا غازي – نبيه أبو الحسن – وغيرهم…
مسيرة فنية لافتة ومميزة
اعتبر موريس معلوف، ان خمس سنوات ونصف السنة في فرنسا واميركا كانت كافية، ومن اروع سنوات حياته، تدريباً وتمثيلاً مع كبار الفنانين في معهد ستراسبورغ حيث تخرّج روجيه عساف، وفي باسادينا (لوس انجلوس) حيث تخرّج يوسف شاهين، ودوستن هوفمان، وغيرهم من نجوم المسرح والسينما.
بعدها في لبنان، حيث تابع الفنان المسرحي موريس معلوف مسيرته اللافتة والمميزة على دروب الفن، سواء في الاخراج او في التمثيل، في المسرح او في السينما والتلفزيون…
وما زال موريس معلوف يواصل المسيرة التي كرّس حياته لها.
اسكندر داغر