أبرز الأخبارتحقيق

خربت ولاّ عمرت… بيروت سهرانة!

هو المكان الذي يلجأ إليه الإنسان ليفجر فيه كل طاقاته. غضب، حزن، فرح لا فرق! المهم ان يعيش على سجيته وهذا لا يتحقق إلا في ساعات من السهر تحت اضواء ليل بيروت. لكن ليل بيروت ما عاد نفسه، تماما كما نهاراتها المكدسة خوفا وقلقا من الموت القابع في سيارات إرهابية أو من الركود الساكن في حنايا الدورة الإقتصادية مما يولد قلقا على المستقبل ويوسع أفق أبواب الهجرة.
لكن نسينا أن بيروت لا تشبه سواها ولا حتى ناسها. فهل تأملتم ملاهيها الليلية ومرابع السهر المندثرة على ما كان يعرف بخطوط التماس؟ هناك يشلح الشباب همومهم ويعودون إلى طبيعة ذاك اللبناني العاشق للحياة والحياة فقط. قلتم سيارات مفخخة؟ ضائقة إقتصادية ؟ حكومة حيادية أو توافقية أو ميثاقية؟ كلها عبارات يضعها الشباب عند ابواب الملاهي الليلية وما تبقى من مطاعم ليدخلوا عالم الليل ونحن معهم.

 

ولا مرة فهمنا كلامهم عن شغف اللبناني بالحياة. حتى توصيف اللبناني “بالإنتحاري” من كثرة حبه وعشقه للحياة كنا نقول إنه “كلام صحافة” أو ربما رد فعل طبيعي من قبل مراسل اجنبي يزور لبنان للمرة الأولى بعدما سمع عنه الكثير من الأخبار السوداوية. لكن الحقيقة تكمن هنا، في ليل بيروت. وتحديدا في زمن تحول فيه الموت على الطرقات إلى هاجس يومي والأخبار عن وجود سيارات مفخخة تجوب الشوارع إلى أسلوب حياة يقض مضاجع اللبناني . لكن هذا في النهار فماذا عن ليل لبنان واللبنانيين؟ وللدقة ماذا عن ليل بيروت وكسروان والبترون والمتن الشمالي و…

 

السهر بألف خير
ميزة اللبناني أنه يريد ان يعيش وبالطرق التي تليق بالحياة. يعني العمل نهارا والسهر ليلا. وإذا تطلب الأمر يدلل نفسه. صدقوا. شهادة قد يفترض البعض انها تحمل الكثير من المبالغة لكنه الواقع على ما يقول مدير ملهى ليلي في منطقة مار مخايل في بيروت. وعلى رغم اعترافه بأن الحركة خفت تدريجيا منذ بدء موجة التفجيرات الإرهابية “لكن زبائني ما زالوا انفسهم سواء رواد المطعم من الطلاب الجامعيين والثانويين نهارا أو شباب من مختلف المناطق والأعمار ليلا”.
كلام لا يفاجئ اصحاب الملاهي الليلية أو منظمي السهرات في المطاعم والمرابع الليلية.”دي جي مارك” أيمن مسعود الذي احترف مهنة ال”دي جي” في ملاهي بيروت والمتن وصولا إلى الدول العربية يؤكد أن السهر في لبنان لا يزال بألف خير “إذا لم تصدقوا حاولوا إيجاد طاولة واحدة في الملهيين حيث أعمل بين الخط البحري في منطقة جل الديب والأشرفية- السوديكو”. ويؤكد أن الحجوزات تكون كاملة حتى في ايام منتصف الأسبوع لكنها تتوقف احيانا على المناسبات فتخف الحجوزات أو ترتفع إلى درجة قد نضطر فيها إلى إقفال باب الملهى بسبب عدم القدرة على استقبال اي زبون”.

 

بعيدا عن القلق والسياسة
مراكز السهر لا تقتصر على مربع جغرافي واحد. الجميزة، السوديكو، مار مخايل، جل الديب، جونيه، البترون.. هي مجرد لائحة. لكن الأهم يتوقف على الوضع الأمني. “ثقي أن رواد الملاهي الليلية هم في أغلبيتهم من فئة الشباب ولا أحد يسأل عن وضع امني. الكل يفتش عن منفذ او مساحة قد لا تتجاوز مساحة الطاولة والكرسي في الملهى. المهم ان ينفس الساهرون عن هموم النهار ويتحررون من عبء الأخبار السياسية وأجواء القلق التي نعيشها رغما عنا”. كلام “دي جي مارك” يستند إلى وقائع: “مبدئيا لم نسمع بعد بتهديدات تطاول أماكن السهر في لبنان. مما يعني أن الملاهي والمرابع الليلية في منأى عن التفجيرات الإرهابية”. الكلام صادر من مصدر موثوق؟ نسأل ويجيب: “لا شيء يمكن أن نثق به في هذا البلد حتى حياتنا باتت معلقة بكبسة زر إرهابي. وتسألين بعد عن ضمانات”؟
قد تكون هذه الفرضيات كافية لهرب الشباب اللبناني نحو اماكن السهر الليلي غير آبهين بالتهديدات التي تطاول المراكز التجارية والتجمعات السكنية. واللافت أن التدابير الأمنية عند أبواب الملاهي لم تتغير باستثناء البعض الذي قرر إضافة عدد عناصر”الفاليه باركينغ” بسبب ارتفاع عدد رواد السهر ولا سيما في منطقتي انطلياس والسوديكو اما في الوسط التجاري فالحركة إلى افول. ويؤكد صاحب ملهى في منطقة الجميزة ان التدابير الأمنية تقتصر على التدقيق في الهويات والتأكد من عدم وجود سلاح. ويستثنى من هذا القرار عناصر المواكبة ومرافقو الشخصيات السياسية التي يصادف وجودها في الملهى. إطمأنيتم؟


سهرات بيبلوس.. غير شكل
لأماكن السهر أوجه عدة، من بيروت والمتن وجونيه وصولا إلى المطاعم المنتشرة على رصيف ميناء لا يزال يحفر في أشعته عراقة التاريخ.  حزرتم طبعا إننا نتكلم عن مطاعم وملاهي جبيل.
هنا السهر إستثنائي كما يقول موظف في احد المطاعم. حتى رواد السهر لا يشبهون سواهم في باقي المطارح. المهم أن عجقة النهار في السوق التجارية والميناء تتحول رقصا وموسيقى حيث تعلو نغمات الموسيقى من المقاهي والنوادي الليلية لتطرب الأرض والسماء. ويقول رامي صاحب إحدى الحانات: “هنا لا يمكن أن نميز بين مواطن عادي أو إبن وزير لولا المظاهر الأمنية التي ترافق وصول إحدى الشخصيات السياسية. عدا ذلك الكل يدخل في جو الفرح والموسيقى والرقص”.
أما السياسة فلا مكان لها في الملاهي وعلى طاولات الساهرين مما يخفف من وطأة الإشكالات المحتملة. وإذا صادف ودخلت السياسة ليل الساهرين فذلك يكون محصورا في مطاعم “الوان مان شو” على خلفية إحدى الأغنيات الحماسية التي تقيم الدنيا ولا تقعدها. ولا تهدأ الأجواء إلا بعدما يقدم ال”وان مان شو” أغنية ترضي الفريق الآخر وإلا…فهمتم نهاية القصة!.
بالنسبة إلى المعنيين والمسؤولين عن هذا القطاع، الصورة مختلفة تماما وقد تكون محبطة. وهذا طبيعي طالما أننا نتكلم عن أرقام ووضع سياحي. ومعلوم أن الأمن والسياحة وجهان لعملة واحدة. رئيس نقابة اصحاب الفنادق بيار الأشقر أكد ان الوضع الراهن الذي تمر به المؤسسات السياحية سيؤدي الى صرف جماعي للعاملين فيه وإقفال مؤسسات عدة وإفلاس أخرى، فضلاً عن توقيف استثمارات كبيرة في هذا القطاع، لذلك يجب تدارك الامر والإسراع في اتخاذ معالجات جذرية للظروف السياسية الراهنة”.
 في علم الإقتصاد لا بد من دق جرس الإنذار والظاهر أن قرعه مطلوب وبشدة لأننا وطأنا عتبة الخط الأحمر على المستويين الإقتصادي والسياحي. أمين عام اتحاد النقابات السياحية جان بيروتي  أكد ان هناك عددا كبيرا من المطاعم في وسط بيروت أقفلت أبوابها، إضافة إلى عدد من المؤسسات السياحية وإذا استمر الوضع على حاله في ظل الفراغين الأمني والسياسي، فإن حال هذه السنة لن يكون أفضل من السلف على رغم كل مميزات لبنان السياحية”.

 

هروب الى الليل والسهر
الى الآن، تبدو المخاوف الأمنيةَ والقيود، هي السبب وراء تراجع أعداد السياح .لكن ليل بيروت وشبابها لا يعترفون بذلك. فعلى رغم انقطاع الحركة السياحية إلا أن رواد الملاهي والمطاعم ما زالوا أنفسهم. يعني شباب لا يأبهون إلا بالحياة والمرح ونسيان متطلبات الحياة نهارا . تسألون عن جنسيات رواد السهر ليلا في لبنان؟ المعادلة سهلة.هم فقط من اللبنانيين من كل الفئات والطوائف وأيضا من النازحين السوريين الميسورين وتحديدا الوافدين من حلب والشام على ما يقول صاحب أحد الملاهي الليلية في منطقة السوديكو.
قد يفسر البعض ظاهرة السهر عند الشباب اللبناني على رغم كل الظروف الأمنية والإقتصادية بالجنون او نوع من “التنفيسة”. لكن لعلم الإجتماع تفسيرا مغايرا. “فالليل هو المساحة التي يختبر فيها المرء الصفاء، كما يمثل فسحة من الحرية للشباب، تساعدهم على تحقيق ذاتهم بعيدا من عيون الأهل ورقابة المجتمع، ومنفذا للهروب من واقع الحياة اليومية ومشاكلها.
 لكن ماذا عن الوضعين الأمني والسياسي؟ وهل نصدق ان الشباب اللبنانيين مستعدون للتحرر من القلق اليومي والحديث عن وجود سيارات مفخخة تجوب الشوارع؟ وهل صحيح انهم يضعون كل نقاشاتهم السياسية جانبا ويبدون استعدادا للجلوس على الطاولة عينها مع شبان من فريق سياسي مغاير لفكرهم وانتمائهم؟
الليل كفيل في تحويل كل ذلك. لكن بحسب علم الإجتماع للسياسيين دور في ذلك. فكلما عمدوا إلى تهميش الشباب واعتبارهم مجرد ملحق أو آداة لمخططاتهم السياسية وصناديقهم الإنتخابية، كلما ازداد تعطش الشباب إلى الهرب نحو المتعة والفرح واللهو، وهذا لا يتوافر إلا في حياة الليل والسهر. مش غلط، شرط أن تبقى الأمور في إطارها المنضبط.
من يكفل ذلك؟ إطمئنوا كل شيء وارد في لبنان إلا أن يتحول ليله إلى نهار أو الا تعود بيروت أجمل مدينة لليل والثقافة والسهرات الممتعة على رغم إرادة معطليها.

جومانا نصر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق