ماذا في يد المالكي لدرء الخطر الداهم؟
قبل ايام قليلة، خاض تنظيم «القاعدة» اختباراً امنياً مع القوى الامنية العراقية، اذ اقتحمت عناصر منه مجمعاً حكومياً في الفلوجة في شرق محافظة الانبار، وسيطرت عليه لمدة نحو عشر ساعات صمدت خلالها في وجه محاولات عدة من جانب قوات النظام العراقية لاسترداده واخراجهم منه.
بديهي القول ان المواجهات بين مجموعات تنظيم «القاعدة» والقوى الامنية العراقية على اشدها منذ فترة، ولكن هذا الحدث الميداني في الانبار، حمل معه ابعاداً عسكرية وسياسية متعددة تجعل مراقبي الشأن العراقي يعتقدون جازمين بأن هذا التنظيم الارهابي قد ادخل في بنك اهدافه، عناصر جديدة او بمعنى آخر، قرر فعلاً ولوج عتبة مواجهات نوعية مع القوات العراقية، ولعل ابرز هذه الابعاد:
– ان هذا الهجوم النوعي في الفلوجة جاء بعد سلسلة هجمات مماثلة سجلت في عدد من القرى والبلدات في محافظات الوسط العراقية، لكنه انطوى على ميزات عسكرية تتصف بالجرأة الى حد التهور، فالهجوم على مجمع الفلوجة، استهدف من الناحية الاستراتيجية موقعاً حكومياً محصناً ويقع في مدينة كبرى وليس في قرية او بلدة قصية. كما ان الهجوم تم بمجموعات كبيرة نسبياً وكان هدفه احتلال مبنى المجمع لوقت طويل.
– وبمعنى اكثر وضوحاً، اراد تنظيم «القاعدة» ان يبعث برسالة جلية لحكومة نوري المالكي فحواها انه انتقل من طور الى طور، وانه بات لا يريد فقط تفجير السيارات او ممارسة اغتيالات لبعض الاشخاص، بل هو في وارد الذهاب الى ابعد من ذلك، وبالتحديد الى مرحلة التحضير لبسط النفوذ والهيمنة على مدن عراقية بكاملها، على غرار ما فعله هذا التنظيم في ذروة حضوره القوي والفاعل في الساحة العراقية ما بين عامي 2006 و2008.
– ان هذا الهجوم النوعي للمجموعات التابعة لتنظيم «القاعدة» في الانبار، جاء في اعقاب الارتفاع الكبير في عدد السيارات المفخخة في بغداد، والعديد من المناطق العراقية والتي وصلت اخيراً الى مناطق كان ساكنوها والقيمون عليها يعتقدون بأنها في مأمن مثل اربيل عاصمة اقليم كردستان.
ارقام قياسية
وعموماً، سجل تنظيم «القاعدة» في الاشهر الستة الاخيرة ارقاماً قياسية في عدد عمليات تفجير السيارات المفخخة وحصد الضحايا على نحو فاق احياناً حتى السنوات الممتدة ما بين 2006 و2008.
وبدا واضحاً ان ذلك يستهدف ارباك النظام العراقي وجعله يعيش حالة اختلال وزن والشعور بالعجز والضياع، الى ان يأتي حين من الدهر ويستطيع فيه هذا التنظيم الانتقال الى مرحلة العمليات النوعية والاكثر جرأة وتحدياً كبيراً للنظام العراقي وآلته الامنية والعسكرية.
< ان تنظيم «القاعدة» اطلق غداة عمليته النوعية الاخيرة في الفلوجة، سلسلة مواقف وتصريحات يلوح فيها بأنه في وارد اجتياح محافظة الانبار، وبالتالي فتح الحدود العراقية – السورية، وهو ان نجح في تنفيذ هذا الوعد، فإنه يكون قد بدأ يشكل عملياً تنفيذ مشروع الدولة الاسلامية في العراق والشام والرامي في المرحلة الاولى الى احتلال مناطق سورية متاخمة للحدود مع العراق، ومن ثم بسط سيطرته على مناطق في العراق، ملاصقة للحدود السورية، وبالتالي جعلها قاعدة اولى للامارة الاسلامية التي لا يخفي اطلاقاً سعيه لبلوغها، ولا سيما بعد انفجار الاوضاع في الساحة السورية، وتقليص مساحة المناطق السورية الخاضعة لسطوة النظام في دمشق، وبعد ان استطاع تنظيم «داعش» القضاء على تواجد مجموعات سورية مسلحة كانت سبقته الى معارضة النظام السوري مثل «الجيش السوري الحر» و«جبهة النصرة» وان بدرجة اقل.
عرض عضلات
– الى جانب كل ذلك، يبدي تنظيم «القاعدة» في العراق في الآونة الاخيرة حرصاً على اظهار قوته وعرض عضلاته العسكرية كدلالة واضحة على تنامي قوته من جهة، واستعداده للانتقال الى مرحلة نوعية جديدة في مساره العسكري، كما بث في الآونة الاخيرة فيلماً تسجيلياً عن عمليات اقتحام قامت بها احدى مجموعاته، والتي كان افرادها يرتدون الزي الذي ترتديه القوى الامنية العراقية، ويستقلون سيارات تحمل شعار القوات الخاصة العراقية، وقد نجحت هذه السيارات في تجاوز حواجز امنية عسكرية رسمية.
– اضافة الى ذلك، فإن تنظيم «القاعدة» حرص على نشر اجواء ومعلومات في اوساط قبائل وعشائر منطقة الانبار على وجه التحديد، فحواها انه بات يمتلك قدرات مضاعفة عما كان يمتلكه في الاعوام السابقة. وبناء على ذلك ذكرت معلومات ان تنظيم «القاعدة» اراد في الآونة الاخيرة ان يمارسة حملة ترهيب للعشائر واركان وفاعليات محافظة الانبار وذلك لكي لا يكرروا تجربة مجالس الصحوات التي نجحت في السابق في القضاء على نفوذ تنظيم «القاعدة» والمجموعات الارهابية الاخرى في محافظات الوسط، مما ادى الى تبديد مشاريع واحلام هذا التنظيم في السابق، وخصوصاً ان هذا التنظيم نجح فعلاً في بسط نفوذه الحصري في هذه المحافظات، وبات مرهوب الجانب ولا سيما بعدما نجح في طرد قوات النظام ومعها القوات الاميركية.
انها اذاً عملية تأديب مسبقة وبمفعول رجعي للقوى والفاعليات التي قد تفكر لاحقاً في مواجهة تمدد تنظيم «القاعدة» ولا سيما ان التهديدات اقترنت بعمليات تصفية واسعة وممنهجة لمجموعات تنتمي الى مجالس الصحوة الى درجة ان هذه المجالس باتت في وضع صعب جداً.
المالكي وخطة المواجهة
والواضح ان المالكي استشعر فعلاً ارتفاع منسوب مخاطر تنظيم «القاعدة» حاضراً وفي القريب العاجل، وما تعتزم تنفيذه من مخططات متطورة ونوعية داخل العراق، لذلك فهو شرع منذ فترة بحملة مضادة مستهدفاً منها اولاً وقف تمدد خطر هذا التنظيم الذي كبرت ولا ريب احلامه واطماعه بعد دوره وانجازاته العسكرية الاخيرة في الساحة السورية، ومن ثم ابعاد خطر هذا التنظيم.
ولم يعد خافياً ان المالكي بدأ حملة المواجهة منذ فترة، انطلاقاً من ثلاثة منطلقات اساسية:
الاولى: تحذير دول الجوار العراقي من مخاطر دعم المجموعات الارهابية لاعادة الساحة العراقية الى مربع العنف وبؤرة التوتر لان ذلك سيولد انعاكاسات وتداعيات على دول المنطقة عموماً.
الثاني: ان المالكي شرع فعلاً وقبل اشهر عدة في انفاذ اجراءات وتدابير عسكرية مشددة ولا سيما في مناطق الحدود مع سوريا، بغية ضبط هذه الحدود وعدم استباحة المجموعات الارهابية لها في الاتجاهين. وقد نجح فعلاً في سد العديد من الثغرات وتوجيه المزيد من الضربات لهذه المجموعات على نحو اعاق حركتها، وخفف كثيراً من وهجها وكسر حدة هجمتها وصد سطوتها الزاحفة الى محافظات الوسط. ولكن ذلك على اهميته، لم يبعد الخطر الداهم والمتصاعد الوتيرة.
الثالث: في الآونة الاخيرة، بدا واضحاً ان المالكي شرع في رسم معالم مرحلة جديدة اكثر تصعيداً من المواجهة او التلويح بها على الاقل، ومن ضمنها الاعلان عن رغبته في السعي لتشكيل فصائل ومجموعات من اهالي المحافظات المعنية لمواجهة عناصر ومجموعات تنظيم «القاعدة» على ان تكون بمثابة ميليشات تحظى بغطاء ودعم رسميين وهو نوع من احياء تجربة مجالس الصحوات في السابق.
وقرن المالكي دعوته تلك بحض العشائر العراقية على اخذ دورها في التصدي للمجموعات الارهابية، باعتبار الامر مسؤولية مشتركة بين الاهالي والدولة.
الاستعانة بخبراء اميركيين
واخيراً وليس اخراً، اعلن المالكي وللمرة الاولى انه سيطرح في زيارته الحالية الرسمية المقررة لواشنطن مع الرئيس الاميركي باراك اوباما فكرة الاستعانة بخبراء اميركيين لمساعدة حكومته ومؤسساته في مواجهة زحف الارهاب.
والمعلوم ان المالكي يعتمد في ذلك على الاتفاقية المعقودة بين بغداد وواشنطن قبيل الجلاء العسكري الاميركي التام من العراق قبل اقل من عامين. فضلاً عن ان المالكي بات يدرك تماماً ان واشنطن لم تعد في وارد غض الطرف عن الانشطة المتنامية لتنظيم «القاعدة» في سوريا والعراق، كما فعلت في العامين الماضيين في اطار دعمها المطلق لكل المجموعات التي هبت وانتفضت لاسقاط نظام الرئيس بشار الاسد في دمشق. فالواضح انها دخلت مرحلة جديدة في التعامل مع الوضع الناشىء في سوريا والمنطقة عموماً.
ولا ريب في ان ثمة ورقة اخرى في هذا الاطار، باتت في يد المالكي في الآونة الاخيرة وهي متأتية اصلاً من مسارعة انقرة الى مد جسور العلاقة مع بغداد مجدداً، في اطار السعي لطي صفحة العداء التي بدأتها معها. وقد تجلى ذلك في توجيه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان دعوته الى المالكي لزيارة العاصمة التركية في القريب العاجل، وتحضيراً لذلك الحدث النوعي، زار وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري انقرة، فيما سيزور نظيره التركي احمد داود اوغلو بغداد قريباً.
والواضح ان الحكومة التركية التي رفعت سقف العداء لحكومة المالكي وحاصرتها بشتى التهم، ومنها انها تمارس ممارسات طائفية، قد بدأت تعيد النظر في سياستها تجاه الاوضاع في المنطقة، وخصوصاً في سوريا والعراق، بعدما استشعرت خطر تمدد المجموعات المتشددة على الحدود التركية مع سوريا، لذلك فهي باتت في وارد اعادة ترتيب علاقتها مع جارتها العراق، وهو امر يلائم بطبيعة الحال المالكي وحكومته، وهو الباحث بدأب عن تعاون مع دول الجوار لمعاونته في ابعاد خطر المجموعات المتشددة عن بلاده.
وفي كل الاحوال، فإن في بغداد من بات يتخوف من ان يكون تنظيم «القاعدة» قد رفع من مستوى حربه على النظام العراقي الى درجة كبيرة، مما يعني استعداده لاغراق الساحة العراقية في المزيد من بؤر العنف والدماء. والسؤال هو: هل يستطيع المالكي المواجهة؟.
ابرهيم بيرم