سياسة عربية

ماذا يحصل في السودان؟

انها ليست المرة الاولى. ومن يدري…؟ ففي السودان، ثار الشارع، ضد «برنامج التقشف الذي اطلقته الحكومة»، فانضمت اليه اصوات عديدة، تطالب مباشرة بسقوط الرئيس عمر البشير. اما الرد فكان عمليات قمع عنيفة، ادت في اقل من اسبوع الى سقوط مئات القتلى وحصول مئات الاعتقالات واغلاق وسائل اعلام.

عاش السودان، على مدى ايام، تجربة الاحتجاجات الشارعية الاضخم والاهم، التي شهدتها شوارعه ضد الحكومة منذ قيام نظام عمر البشير. وكان الرئيس عمر البشير، اطلق في 22 ايلول (سبتمبر)، مجموعة من تدابير التقشف لمواجهة العجز الذي تتخبط فيه ميزانية الدولة، ودافع عن تدابيره، بانها الحل الوحيد لتفادي انهيار الاقتصاد، بالرغم من موجة الاحتجاجات والاعتراضات. وتشمل خطة التقشف، وقف الدعم عن المحروقات، وتدابير اخرى ادت الى ارتفاع اسعار وزيادة كلفة معيشة السودانيين في صورة جنونية.
وفي اليوم الذي تلا هذا الاعلان نزل المتظاهرون الى شوارع واد مدني، ثم امتدت التظاهرات الى الخرطوم وبورسودان والعبيد وام درمان وغيرها من المدن.

 تصاعد الاحتجاجات
وراحت الاحتجاجات الشارعية تتضاعف مع مرور الايام، وتحولت عنفاً، عندما اشعل المتظاهرون النار في صهاريج النفط والسيارات الخاصة، ورشقوا مراكز الشرطة بالحجارة، فردت باطلاق قنابل مسيلة للدموع وبرصاص مطاط على المتظاهرين. ولكن الصحف السودانية، نقلت عن شهود عيان، ان الشرطة اطلقت رصاصاً حياً على المتظاهرين، واكدت منظمة حقوق الانسان، «يومان رايتس دوتش» ذلك بالرغم من نفي السلطات التي ارسلت دعماً عسكرياً الى بعض المناطق.
واعلن وزير الداخلية، ابرهيم محمود، على التلفزيون، بعد اسبوع من اندلاع الاضطرابات، ان 34 متظاهراً قتلوا و700 اعتقلوا. لكن مصادر وزارة الصحة اشارت الى ان عدد القتلى تجاوز المئة. ونسب محمود مسؤولية سقوط القتلى الى المتظاهرين، وحذر من ان حكومته لا تسمح باعمال الشغب، وان كانت لا تمنع التظاهرات السلمية.
وصرح وزير الاعلام، احمد عثمان الى تلفزيون الشروق: «أن الذين نزلوا الى الشارع، ليسوا متظاهرين سلميين، بل مجرمون».
واغلقت الحكومة المدارس، لمدة اسبوع مبدئياً، بينما راجت شائعات عن امكانية اعلان حالة الطوارىء.
ارقام المعارضة عن الضحايا، اعلى بكثير مما صرحت به الحكومة. وتقدر حساباتها، ان عدد القتلى، بعد اسبوع من الاضطرابات الشارعية يزيد على 140 شخصاً، اكثريتهم سقطوا بالرصاص، بينما اشارت منظمة «العفو الدولية» الى ان حوالي 50 قتلوا برصاص قوى الامن، في الصدر وفي الرأس.
وبالنسبة الى الاعتقالات، افادت «يومان رايتس ووتش»، ان الحكومة استبقت الاحداث واحتاطت لما قد يحصل باعتقال عدد كبير من قادة احزاب وحركات المعارضة وناشطيها، بعضهم منذ  18 ايلول (سبتمبر).
وابلغ شهود مراقبي يومان ووتش، في الخرطوم  وام درمان، انهم رأوا رجال الامن يطلقون النار على المتظاهرين، كما قال ناشطون سودانيون ان ميليشيات موالية للحكومة، مسؤولة كذلك عن عدد من عمليات القتل.

للصبر حدود
يبلغ متوسط الاجور في السودان الف ليرة سودانية، اي حوالي 250 دولاراً او 185 يورو، حسب معدلات القطع الرسمية، بينما المعادلة اكثر بكثير في السوق السوداء. ويبلغ سعر غالون البنزين، الآن 21 ليرة سودانية، اي 3،52 يورو، مقابل 12،5 ليرة قبل اعتماد تدابير التقشف، وارتفع سعر غالون المازوت، من 8 ليرات الى 14 ليرة.
وقال احد اللاجئين السياسيين السودانيين في لبنان، فضل عدم الكشف عن اسمه، خوفاً من اعمال الانتقام لـ «الاسبوع العربي»: «ان القضية ليست مجرد اسعار الوقود لان الحكومة رفعت اسعار اكثرية مواد الاستهلاك اليومي الاساسية، مما جعل الناس عاجزين عن مواجهة حاجاتهم اليومية، بسبب اجورهم المنخفضة، ويعجز المواطن العادي، عن سد حاجاته، حتى اخر الشهر، الا اذا كان يعمل في دوائر حكومية».
وليست المعيشة السبب الوحيد، لما يحصل، فالذي حدث، فعلاً، هو ان الناس فقدوا الصبر الذي كانوا يتميزون به، فعندما لا يعود في استطاعة المرء ان يعيش في بلاده، بسبب ارتفاع كلفة المعيشة، يعني ذلك، ان هناك شيئاً ما خطأ… ان البشير اكثر في كل الاوقات، من الوعود التي لم يف بها، ولم يعد في استطاعة الناس ان يصبروا.
ويذكر واصل علي، مساعد مدير جريدة «سودان تريبيون» الصادرة باللغة الانكليزية في الخرطوم، بانه اذا كانت «الاحتجاجات تصاعدت بسب بارتفاع اسعار الوقود، نتيجة الغاء الدعم، فان الناس يرفعون الصوت ضد النظام. ان اكثرية «مواسم» الربيع العربي بدأت بمطالب معيشية وانتهت بالمطالبة بتغيير النظام».
ومن الشعارات التي نادى بها المتظاهرون: «ليسقط النظام»، «نعم للحرية» وحتى «ارحل يا بشير». وشرح محلل اسباني خبير بشؤون النظام، لوكالة «ايفه» ان الذي يجري اليوم، هو بكل تأكيد، اوسع موجة استنكار واعتراض عرفها السودان.
وفي مسعى آخر غير العنف لمحاولة ضبط الاوضاع، عمدت الحكومة الى قطع الاتصالات بواسطة الانترنت، واغلقت مكاتب شبكات اتصالات من بينها تلفزيون «العربية» ومكاتب شبكة «سكاي نيوز العربية». وصادرت اجهزة عملها ومنعت مراسليها من العمل لانها تعتبر انها اساءت نقل وقائع الاحداث، ونشرت قوى الجيش في شوارع الخرطوم.

احتجاجات سابقة
وكان نظام عمر البشير، تمكن منذ وصوله الى رئاسة السودان، عن طريق انقلاب 1989، من صد رياح «الربيع العربي» التي عصفت برؤساء مصر وتونس واليمن وليبيا.
وشهد السودان في شهر حزيران (يونيو)، من السنة الماضية، اضطرابات شارعية مماثلة كالتي تجري اليوم احتجاجاً، كذلك على قرار الحكومة، تخفيض الدعم عن المحروقات. ولكن قوى الامن تمكنت من قمع هذه التظاهرات، ونزلت الجماهير الى الشوارع. في تلك المرة، كذلك، احتجاجاً، وراحت تردد الشعارات التي انطلقت من سائر التحركات الشعبية، التي كانت تعصف ببعض الشارع العربي، ولا تزال في سوريا والعراق: «الشعب يريد تغيير النظام».
خطة البشير اليوم، انطلاقاً من رفع الدعم، في صورة نهائية، عن المحروقات، ترمي الى  تأمين حاجة الحكومة الى تخفيض العجز المتزايد في الميزانية الحكومية، في صورة مثيرة للقلق. فكان اللجوء الى الغاء الدعم عن اسعار المحروقات، في صورة نهائية، وليس الاكتفاء بتخفيضها، وليس عن طريق اتخاذ تدابير للاصلاح والتقشف وضبط التبذير والسرقات والفساد.
فمالية الدولة، تواجه صعوبات مخيفة، منذ انفصال جنوب السودان، في سنة 2011، وانخفاض احتياطها النفطي، في معدل 75 في المئة. وكان النفط، يشكل قبل الانفصال مصدر مداخليها الرئيسي وأدى الانخفاض الكبير الذي شهدته العملة الوطنية، بالنسبة الى الدولار، خلال الاشهر الماضية، الى ارتفاع التضخم بمعدل 50 في المئة.
وكان البشير، سعى الى اعطاء نظامه العسكري، شرعية باعتماد سياسة المحاكم الاسلامية، وصمد، بالرغم من الانتفاضات المسلحة، التي قامت ضده، والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة، والازمة الاقتصادية في البلاد وفي العالم، ومحاولة انقلاب وقعت في السنة الماضية وتهمة اقترافه جرائم حرب ومذابح وابادة في دارفور، وجهتها اليه محكمة الجزاء الدولية.
وتبقى سلطته قائمة، بفضل الدعم الذي يوفره له الجيش، وحزبه واغنياء السودان الذين يفضلون النظام الحالي، الذي يضمن لهم مصالحهم الاقتصادية حسب رويترز.
اما المعارضة الممزقة تاريخياً، فتتزعمها طبقة سياسية، ممزقة ايضاً، بينما يتزايد غضب الناس، بسبب الفساد المتفشي في الدوائر العامة والبلاد، وارتفاع التضخم وازدياد الفقر.

ادانة العنف
ولكن يبدو ان هذه المرة، ليست كسابقاتها فان 31 من قياديي الحزب الحاكم، «المؤتمر الوطني»، من بينهم مستشار عمر البشير السابق، غازي صلاح الدين، عميد سابق في الجيش، كتبوا الى الرئيس يدينون اعمال العنف التي تمارس لقمع المتظاهرين المحتجين على تدهور الحالة المعيشية.
وكما بدأت الاحداث في سوريا، اعلنت تجمعات معارضة، تشكيل «تنسيقية قوى التغيير» من قوى نقابية وشبابية ومعارضة.
ورد وزير الاعلام السوداني ان الحكومة لن تتراجع عن قرارها، بالغاء الدعم عن اسعار الوقود مهما حصل. في تحد للشارع الهائج جوعاً.
وفي يوم الاثنين 29 ايلول (سبتمبر)، اعلن نقيب الاطباء في السودان، الدكتور احمد الشيخ، ان عدد قتلى الاحداث المتوقع ان تتواصل حتى تراجع الحكومة عن قرار رفع الدعم عن اسعار الوقود، بلغ حتى اليوم 210 قتلى.
يبقى ان رئيس السودان، عمر البشير، مطلوب من محكمة الجزاء الدولية في لاهاي، منذ 4 سنوات، بموجب صلاحيات منحها اياها مجلس الامن باصدار مذكرة اعتقال في حق البشير بتهمة ابادة وجرائم حرب.
فالمحكمة، هي ابنة الامم المتحدة، ولها رباط وثيق بمجلس الامن، الذي تقدم له التقارير عن اعمالها، ولكن المحكمة لا تعتمد على شرطة تسمح لها بتنفيذ قراراتها، بل على الدول التي تكوّن المجتمع الدولي، الذي يضم العديد من الدول العربية والافريقية، التي وافقت وصادقت على قيام هذه المحكمة.
عمر البشير، خرق اكثر من مرة شرعية المحكمة، وسافر الى بعض هذه الدول.
وكان في نية رئيس السودان، المطلوب من العدالة الدولية، ان يتحدى هذا النظام الدولي، ويسافر الى نيويورك ليطلب ليس الا، مساعدة الجمعية العامة للامم المتحدة التي تطلب اعتقاله.
الولايات المتحدة، لا تملك الواجب القانوني، باعتقال البشير وارساله الى لاهاي، لانها اكتفت بالتوقيع على المعاهدة من دون المصادقة عليها، ولكنها مرتبطة بالواجب المعنوي والاخلاقي.
وتقف الامم المتحدة، امام واجب المحافظة على السلام، من دون التضحية بالعدالة. وفي هذه الاثناء وقعت احداث السودان، ولم يعد البشير يتحدث عن الذهاب الى نيويورك.
بينما دعا حزب المؤتمر الشعبي، الذي يتزعمه حسن الترابي، الى الاستمرار في التظاهر، مؤكداً دعمه للثورة، داعياً الى تشكيل حكومة انتقالية وكذلك فعل الحزب الشيوعي السوداني.

ج. ص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق