حين يُصبح القلق مرضياً لا عرضياً!
لبنانيون، سوريون، مصريون، يمنيون، ليبيون، تونسيون، أتراك وعرب… كُلنا نسير في قطار القلق السريع في عالم مجهول، مفتوح على كل الإحتمالات، فكيف لا نُصاب بفوبيا المصير؟ وماذا يعني أن نُصاب بالقلق الكبير؟ وهل الوساوس التي تُساورنا، مع بزوغ كل فجر وأفول كل شمس، عادية؟ وهل نحن قادرون على التحكم بها؟ وكيف نتأكد من أن الأعراض المستجدة في تصرفاتنا وعلاقاتنا ونظرتنا السوداوية الى الحياة مرضية لا عرضية؟
نسمع صوت انفجار فنهرول في اتجاه التلفاز بحثاً عن خبر سريع، وبينما نُشاهد المركبات المتناثرة والأجساد المشلعة، نلتقط حبتي شوكولا ونلتهمهما، بلا انتباه، بلحظتين! وقبل أن نبلع ريقنا ونستعيد رشدنا من صدى ما سمعنا ورأينا وشعرنا نفتح البراد بحثاً عن أي شيء، عن لا شيء، المهم أن نلتقط شيئاً ما يُريح أعصابنا ويُنجينا من وقعِ اللحظة! انه الخوف، انه القلق، انه المجهول.
مرض العصر
في علم النفس يُقال أن للقلق أعراضاً بينها: الهلع الشديد، عدم القدرة على التحكم بالوساوس الفكرية، الغثيان، تصبب العرق، ضربات قلب سريعة، ارتعاش الأطراف، صعوبة في التنفس، دوار، تنميل في الأطراف. هذه إذاً أعراض قد يشعر بها من يتعرض الى رهاب أو وسواس أو هلع! الشعور بعدم الأمان أمر خطير، فالإنسان الذي قد يشعر في أي لحظة، في كل لحظة، وهو ذاهب الى العمل أو وهو عائد من الجامعة أو وهو يصلي أو يستعد للسفر أو يأكل أو وهو ذاهب الى فراشه بخطر، فقد يُصاب بنوع مرضي آخر، يزيد خطورة عن القلق، ألا وهو الإكتئاب النفسي! فهل نفهم من هذا، وفق ما نمر به في عالمنا، أننا في حال اكتئاب شبه عامة؟
لا يختلف إثنان على أن الإكتئاب بات مرض العصر وضحاياه من كل الأعمار والطبقات، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، صبياناً وبناتاً، وقد نكون نحن أو أنتم أو ربما هم من ضحاياه، لم لا ما دمنا كلنا ندور مثل المكوك بحثاً عن مستقبل ملؤه الرمادية وآفاقه المجهول وامتداداته اللحظة!
قلقون؟
قلقون؟ مكتئبون؟ الإختصاصي في علم النفس الدكتور سمير جاموس يحدد الأعراض: يضطرب النوم ليلاً، يحصل الأرق فجراً، ويغط المرء في نوم عميق عميق نهاراً! تضطرب الشهية على الطعام، يأكل المكتئب كثيراً أو بالكاد يأكل، فلا يعود قادراً على التحكم بحاسة الجوع والشبع.
ماذا عن العلاج؟
لعلّ المشكلة الأهم هي عدم التشخيص، فمجتمعاتنا العربية تعتبر هكذا أعراضاً عادية، عرضية، قد تذهب مثلما أتت، وبالتالي الإعتراف، بصوت عال، أن سوءاً ما بدأ يسيطر على النفس والجسد نادراً ما يحصل! لماذا هذا؟ لئلا نُتهم، في الاعتبارات الشعبية، بالجنون! فالقلق، وفق تلك الإعتبارات، ربع مجنون والمكتئب نصف مجنون والإعتراف بالقلق والإكتئاب جنون كامل!
إذا سلمنا جدلاً بأن المجتمع يرفض الإعتراف، والمريض فرد في المجتمع، فماذا عن الطبيب؟ أوليس طبيب العائلة هو من يُلغي أحياناً حالة الإكتئاب من تشخيصه الأولي؟ أليس هو من يكتفي بوصف علاج الى المكتئب ناصحاً إياه «بشم الهوا»؟!
صحيح، نادراً ما يُحوّل الأطباء غير المتخصصين في الأمراض النفسية مرضاهم الى أطباء نفسيين، حتى ولو كانوا يردون ثلاثة أرباع مشاكل مرضاهم، التي يعجزون عن تشخيص سببها الحقيقي، الى تشنجات عصبية وتوترات ويعمدون الى إصدار وصفات علاجية بدواء يُحسن المزاج أو يُزيل الأرق أو يريح الأعصاب من دون البحث عن أسباب الأرق والمزاج السيىء والتوتر السائد، وهذا ما تكون له ارتدادات على المدى البعيد، فالمريض يعتاد دواء الأعصاب ويصبح بحاجة بعد مدة الى دواء أقوى وأكثر فعالية، في حين يكون طبيب العائلة مطمئناً الى زوال المشكلة الصحية التي كان يتسبب بها القلق، الى أن يأتي المريض في يوم ما ويقول له: ما عاد الدواء ينفعني!
اكتئاب… وعوارض
ما لا يدركه كثيرون هو أن القلق إذا اتسع واشتدّ قد يتحول الى اكتئاب والإكتئاب إذا أهمل قد يتطور الى تلبد في المشاعر وخفوت في القدرات الفكرية والجسدية والإجتماعية وصولاً الى الإنتحار. فهل يُفترض أن يكون مصير من ينجو من براثن سيارة مفخخة أو خطف على الهوية أو قذيفة عشوائية أو ثورة عاتية أو حادث سير، الإنتحار؟
يتحدثون عن أعراض الإكتئاب ويُسهبون لكن كيف لنا نحن، بالعين المجردة، تحديد الأعراض؟
يعاني المكتئب، بحسب جاموس، من إشارات سريرية واضحة بينها: اضطراب المزاج وغالباً ما يبدو المريض حزيناً، متشائماً، تراوده أفكار المرض والفشل والكوارث والموت ويكون ثابت العينين، يفكر كثيراً، ويحبذ السكوت…
ننظر حولنا، ننظر الى أنفسنا، فنشعر بأننا كلنا نعيش، في هذه الفترة الزمنية، مثل هذه الأفكار والمشاعر فهل كلنا مكتئبون؟
في علم النفس، لا أحد محصناً ضد القلق والإكتئاب، فالإنسان، أي إنسان، يبقى معرضاً ما دام حياً يُرزق، لكن ما قد يُطمئن قليلاً هو أن الإستعداد الشخصي قد يلعب دوره في الإصابة أو النجاة، فمن يملك شخصية أقوى قد يقوى على الإنفعالات والخلافات والصدمات لكنه إن وقع تكون إصابته كبيرة!
هلع؟ خوف؟ قلق؟ كلام عن حرب تقترب في الشرق الأوسط تُشبه تلك التي حصلت بين داحس والغبراء؟ نترك العنان لتوجساتنا؟ نكتئب؟
اسمعوا الموسيقى
قد لا تجدي نفعاً الدعوات، بعد أن تقع المصيبة وتشتد الإصابة، الى سماع الموسيقى والتنزه ورمي الأحزان في بحر سحيق، لأن أصوات الصراعات ستبقى تتجاوز، أقله في المدى المنظور، أي أصوات أخرى… والحلّ؟ الوقاية قبل استفحال الإصابة، بمعنى أن نقول، إذا شعرنا بإحساس غريب، مزعج، مستجد، أن شيئاً ما يحدث في دواخلنا، علينا أن نتحدث بصوت عال وأن نسمع الموسيقى إذا أمكن وأن نبتعد عن نشرات الأخبار وعن ذوي الذبذبات السلبية، وإذا أردنا أن نذهب أبعد من هذا قد تنفع جداً استشارة اختصاصي في الطب النفسي. في كل حال هناك أدوية حديثة قد تساهم بشفاء اكثر من ثمانين في المئة من حالات الإكتئاب التي قد تعالج في الوقت الصحيح وفي شكل صحيح.
مكتئبون؟ قلقون؟ تسألون لماذا تهرعون الى الطعام حين تشعرون بذعر وخوف؟ تتساءلون لماذا لا تعودون تشبعون حين تمرون بظروف صعبة؟
في المعطى الطبي، يُنبه القلق والضغوطات النفسية نقاطاً في الدماغ، ما يُعزز، في شكل تلقائي، عادة الأكل الانفعالي، بمعنى أننا نأكل من دون أن نشعر بالجوع، وهنا علينا أن نعمل على استبدال هذه العادة بعادات صحية مثل الرياضة أو القراءة أو حتى شرب المياه، علينا بالتالي أن نعي أن سبب هرولتنا الى الطعام والإفراط في تناول أي شيء، في جنون، عامل نفسي بحت. فالطعام، في مثل تلك اللحظات، يُرجح أن تكون له فعالية المواد المخدرة، التي تنتج تغييرات كيميائية في الدماغ تتأتى عنها لذة تتجاوز بأشواط تلك اللذة التي تسري فينا حين نأكل أكلاً شهياً إثر جوع! والأسوأ هنا أنه كما أن الإدمان يرفع المرء الى فوق فوق ثم يرميه الى ما تحت الأرض، كذلك الأكل الإنفعالي يمنح لذة سريعة لا تلبث أن تتلاشى ليحل محلها الإحباط والندم! وهكذا يدخل المرء في دوامة جديدة تُرهق بدل أن تُريح!
قلقٌ؟ مكتئبٌ؟ تشعرُ بالجوع؟ تشعرُ بحاجة قصوى الى تناول شيء، أي شيء؟ إسأل نفسك: هل هي مشاعري وانفعالاتي ما يدفعني الى تناول الطعام؟ هل أنا جائع فعلاً؟ ولا بد أن تجد بنفسك الجواب…
الكلام قد يكون سهلاً، والتجربة نعرف انها اصعب، لكن التجربة، في زمن الانفعالات السلبية المتتالية، تستحق.
يقول الفيلسوف الصيني لين يوتانغ: أن طمأنينة النفس تنبثق من التسليم بأسوأ الظروف… ظروفنا سيئة لكن هناك دائماً أسوأ وأسوأ… فلتأخذ قرارك بالنظر الى ما تبقى من مياه في الكوب الفارغ!.
نوال نصر