
من يحاسب العناصر الأمنية؟! للوهلة الأولى فكرنا أنه مجرد سيناريو لفيلم رعب طويل. لكن الحقيقة كشفت المستور، وتبين أن ما ورد في تقرير هيومن رايتس ووتش لمناسبة اليوم العالمي للتعذيب ليس الا انعكاساً لتفاصيل ووقائع تجري في مراكز التحقيق، مع متهمين مصنفين من الفئات المهمشة في المجتمع اللبناني. المشهد واحد: ضرب، ركل، اغتصاب، تهديد، تعنيف جسدي وكلامي، وصولاً الى… المقايضة على حساب الكرامات والأعراض في مقابل خدمة جنسية. نعم كل هذا يحصل في مراكز التحقيق في مخافر قوى الأمن بعدما كانت هذه الأفعال – ولا تزال – تمارس في مراكز مخابرات الجيش مع متهمين أمنيين بحسب تقرير المنظمة. وليس في الكلام مبالغة، اذ ليس صدفة أن تتقاطع 48 افادة من أصل 50 أجريت معهم مقابلات، لكن وفق مصادر امنية تقرير هيومن رايتش ووتش «قيد الدرس لأخذ التدابير اللازمة» و«محاسبة كل عنصر متورط في عمليات التعذيب» مع التأكيد ان «الصورة ليست بهذه السوداوية… وهذه «الممارسات تحصل حتى في أرقى دول العالم والمطلوب باختصار شديد تطبيق مبدأ الثواب والعقاب؟
كان يمكن أن تمر كل هذه الممارسات تحت جنح الصمت والظلام كما جرت العادة. لكن شهادة واحدة كانت كافية لفضح المستور، فكيف إذا جاءت على لسان 50 متهماً تعرضوا لشتى أنواع ممارسات الذل والتعذيب في مخافر الشرطة أثناء التحقيق معهم في جرائم عدة؟ قد يفترض البعض أن شهاداتهم ليست إلا غطاء تحريضياً لجرائمهم أو ربما هي رد فعل إنتقامي بسبب فضح أعمالهم وسمعتهم في المجتمع. صحيح والمعنيون في منظمة هيومن رايتس ووتش وضعوا كل الإحتمالات وافترضوا أنها مزاعم، لكن أن تتقاطع شهادات غالبية من خضعوا للإستقصاء، فهذا يعني ان في الأمر أكثر من جواب حتمي.
تقرير و50 شهادة
تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش أعد بناء على 50 مقابلة أجريت مع اشخاص اعتقلوا خلال الأعوام الماضية بتهم تعاطي المخدرات أو الدعارة أو المثلية الجنسية. ومن خلال الشهادات اكتشفت المنظمة أن هناك حالات أجبرت فيها الشرطة المحتجزين على اتخاذ أوضاع مؤلمة لساعات عدة، مما أدى إلى إصابتهم بخلع الكتفين وكسر في الأسنان وعظام الأنف ومنعت عنهم الطعام والشراب واستخدمت معهم ممارسات جنسية عنيفة.
نعود لندخل في تفاصيل بعض الشهادات التي وردت جميعها إما من دون أسماء أو بأخرى وهمية. هو الخوف؟ حتماً. وكيف لا يخشى رجل اعتقل في تشرين الأول (اكتوبر) من العام 2010 لأن الشرطة عجزت عن إيجاد شقيقه المتهم في تجارة المخدرات، وعندما عجزت عن إيجاد دليل في حق الأخ البريء، عمد المحققون إلى تغيير مضمون التقرير وتحول اتهام الرجل البريء من حيازة وتعاطي المخدرات إلى المثلية التي لا يقر بها القانون اللبناني.
ويتابع الرجل في شهادته «منذ اللحظة الأولى بدأ التحقيق معي تحت الضغط والترهيب ثم انهالوا علي بالضرب. توسلت المحقق أن يتوقف لكن الأمر استفزه وبدأ يكيل لي الضربات بقوة على رأسي وجميع أنحاء جسمي. ثم ارغمني على توقيع اعتراف بممارستي الجنس مع الرجال وهو يكيل لي اللكمات طوال الوقت. ثم جعلني أنزع ثيابي كلها ونظر إلي وقال إنني مخنث وأهانني وهددني بالأسوأ”… وبحسب المنظمة فإن المتهم البريء رفع شكواه إلى أحد الضباط لكن النتيجة كانت نفسها إذ انهال عليه «الضابط» المسؤول بالضرب والصعق الكهربائي. وبعد أيام أطلق سراح الرجل من دون توجيه أية تهمة إليه. ولم يلق القبض على شقيقه المتهم أساساً بالجرم».
يشير تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الى أن 23 شخصاً انتزعت منهم الاعترافات بالإكراه الجسدي والعقلي، وغالبيتها لم تكن صحيحة. ومن بين الشهادات واحدة لسيدة متحولة جنسياً اعتقلت بعدما اتهمها الجيران بممارسة الدعارة. وعلى رغم نفيها للتهمة إلا أنها اقتيدت إلى مخفر حبيش. وتقول من سمت نفسها تمارا: «عندما دخلت المركز أصبت بالذهول. رأيت دماً واشخاصاً يتعرضون للضرب. وشعرت بخوف كبير. بعدها اقتادني عنصران الى مكتب آخر للتحقيق وتولى ثلاثة رجال شرطة العملية فبدأوا في توجيه الضربات وركلوني بقوة ثم طلبوا مني التوقيع على ممارستي الجنس بعكس الطبيعة وإلا سأعاقب بالسجن. كنت خائفة ولا اريد التعرض لمزيد من الضرب فوافقت على كل شيء ووقعت على الإفادة تحت الضغط والتعذيب والإكراه». ولاحقاً أصدرت إحدى المحاكم حكماً في حق تمارا قضى في سجنها 3 اشهر بتهمة «المجامعة على خلاف الطبيعة». وعندما حان موعد المحاكمة كانت تمارا قضت خمسة اشهر على ذمة التحقيق.
خاص بالفئات المهمشة
مدير مكتب هيومن رايتس واتش ونائب مدير قسم الشرق الأوسط نديم حوري أوضح أن التقرير الذي نشر في مناسبة اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب يأتي في سياق التقارير التي تعدها المنظمة. وكانت سبقتها نشرات تتضمن شهادات ومعلومات موثقة عن ممارسات التعذيب التي يتعرض لها المتهمون في جرائم التعامل مع إسرائيل أو الموقوفون الإسلاميون ومتهمون آخرون في جرائم الإرهاب في مراكز مخابرات الجيش اللبناني وفرع المعلومات التابع لمديرية قوى الأمن الداخلي. هذه السنة تم حصر النشرة بالفئات المهمشة إجتماعياً وتحديداً بالأشخاص المتهمين بجرائم الدعارة والمثلية وتعاطي المخدرات أو التجارة بالمادة بهدف تسليط الضوء على هذه الفئات الموجودة داخل المجتمع اللبناني وتقديم توصيات لإصلاح كل منظومة الإعتقال.
انتزاع الاعترافات
وسائل التعذيب بحسب حوري متنوعة والجلاد واحد «قد تبدأ الممارسات بالإهانات اللفظية والضرب بجميع الوسائل (مسطرة، سوط، حبل كاوتشوك) أو التكبيل بطريقة موجعة ومهينة في غالبية الأحيان، وصولاً إلى التحرش الجنسي والإغتصاب أو ربما مقايضة النساء المتهمات في مقابل تقديم خدمات جنسية لبعض عناصر الشرطة. ومن وسائل التعذيب التي وثقها التقرير بناء على شهادات، ما يعرف بالفحوصات الشرجية التي يقوم بها أطباء بأمر من النيابة العامة للأشخاص المتهمين بالمثلية. «وهذه الفحوصات تدخل في إطار التعذيب الجسدي وانتهاك خصوصية الإنسان. وفي حال رفض المتهم الخضوع لهذا النوع من الفحوصات تثبت عليه تهمة المثلية، وهذه جريمة في حد ذاتها خصوصاً إذ ثبت علمياً أن لا قيمة طبية لهذه الفحوصات». وعلى رغم الضغوطات التي مارستها بعض جمعيات المجتمع المدني وساهمت في الحد من نسبة هذا النوع من الفحوصات المهينة لكرامة الإنسان، «إلا أنها لا تزال تطبق في بعض المخافر وبأمر قضائي».
ممارسات أخرى سجلها حوري وكنا فكرنا اننا تجاوزناها أشواطاً منذ العام 2005. فقد ورد في التقرير أن المحقق يمتنع عن إعطاء أدوية للمدمنين حتى يصل الأخير الى مرحلة النزاع. عندها يبدأ التحقيق معه تحت التهديد بعدم إعطائه الدواء إلا في حال الإعتراف بالتهم الموجهة إليه. كما يصر بعض المحققين على عزل المتهم في غرفة وإسماعه أصوات وصرخات متهمين يتعرضون للتعذيب. وقد تكون مجرد تسجيلات وهمية، لكنها تؤثر على اعصاب ونفسية المتهم الذي يخضع للإستجواب مما يضطره إلى الاعتراف بالتهمة الموجهة إليه بهدف التفلت من سياسة التعذيب. ولفت حوري إلى أنه «في كل دول العالم انتقلنا من عقلية انتزاع الإعترافات تحت التعذيب إلى أساليب أكثر علمية وعقلانية وموضوعية. وهذا هو المطلوب اليوم من القضاء وأجهزة التحقيقات خصوصاً اننا نملك مختبرات خاصة بفحوصات الـ «دي إن آي» فلماذا نلجأ إلى وسائل التعذيب لانتزاع الإعترافات بالإكراه؟ واستغرب حوري مبدأ التوقيف الإحتياطي لمدة تتجاوز الأربعة أيام المحددة قانوناً، لافتاً الى انه «يحصل أحياناً أن بعض الضباط والعناصر يعمدون إلى إطالة مدة التوقيف حتى زوال آثار الضرب والتعذيب ومنهم من يرفض عرض المتهم على طبيب شرعي نزولاً عند طلبه بحجة عدم توافر أي طبيب. فيترك المتهم أحياناً مدة تصل إلى 20 يوماً حتى تزول آثار الإعتداء الجسدي والجنسي». الى ذلك، أفاد محتجزون سابقون بالتعرض للتعذيب وإساءة المعاملة في المنشآت كافة التي حققت فيها «هيومن رايتس ووتش»، بما في ذلك مخفر حبيش في بيروت، ومخفر الجميزة، ومخفر بعبدا، ومخفر المصيطبة، ومخفر زحلة، ومخفر الأوزاعي، ومخفر صيدا، وفرع المعلومات في الجديدة، ومقر الحجز على ذمة المحاكمات بسجن النساء في بعبدا.
«مزاعم»!
من أصل 52 شهادة، 49 اعترفوا بالتعرض للتعذيب وسوء المعاملة. وعلى رغم تقاطع المعلومات تحرص المنظمة على استعمال كلمة «مزاعم»، لكن الثابت وفق حوري أن «هناك ممارسات موثقة ولا تمت إلى الإنسانية بصلة». هذا عدا عن خوف البعض من الإعتراف أو ذكر الإسم حتى لا يتعرض للتوقيف والتعذيب من جديد. وفي حال كان يمضي فترة عقوبته فهو يخشى ايضاً من الممارسات التي قد يتعرض لها داخل السجن. وتمنى حوري الوصول إلى نظام شكاوى موحد وشفاف ومحاسبة الضباط والعناصر والتحقيق في المزاعم حتى لا تتحول هذه الثقافة إلى عرف وتقليد.
قيد الدرس
نطرق باب الأجهزة الأمنية المعنية مباشرة في هذا التقرير ويأتي الجواب بأن الموضوع «قيد الدرس لأخذ التدابير اللازمة» في حال ثبتت صحة المعلومات الواردة فيه مع محاسبة كل عنصر متورط في عمليات التعذيب. لكن وفق مرجع امني «هذه الممارسات تحصل حتى في أرقى دول العالم ولا يجوز الإنجرار وراء كل المزاعم لأن الصورة ليست بهذه السوداوية». هذا الكلام الصادر عن المرجع الأمني ربما هو أقرب إلى الحقيقة المجردة وأكثر تطابقاً مع الواقع، لكن في المقلب الآخر هناك الكثير من الصرخات التي تثبت أن أنظمة التعذيب لا تزال تعشش في نفوس وثقافة المحققين في مراكز الشرطة. يروي «محمد»، الذي اعتقل بتهمة حيازة المخدرات: «(..) اقتادوني إلى مركز الإستجواب عارياً، وسكبوا فوقي الماء البارد، وقيدوني إلى إحدى مكبات النفايات بسلسلة، وعلقوني في وضع الفروج»، وكان يصف تعليقه من قدميه مع تقييد يديه إلى قضيب حديدي يمر أسفل الركبتين: «أثناء التحقيق تعرضت للضرب المبرح مما أدى إلى كسر أنفي وكل أسناني، ثم ضربوني بمسدس حتى انخلع مفصل كتفي». كل هذا والتهمة: مثلي!
لسنا على اللائحة السوداء
إنتهى البيان لكن طريق الجلجلة طويل. الأستاذ الجامعي والناشط في مجال حقوق الإنسان جان بيار قطريب اعتبر أن ما يحصل هو نتيجة لتلاشي سيادة القانون والتآكل السياسي في السلطتين القضائية والمجلس الدستوري. وأضاف: «معلوم أن المجتمع لا يقوم إلا على توازن دفتي الحرية والعدالة. والمؤسف أنهما غائبتان عندنا. وما يحصل اليوم داخل مراكز التحقيق والسجون ليس إلا ترجمة لهذا الواقع ولغياب الرقيب والحسيب. لكن لا بد من التمييز. فالتقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية في العام 2004 أكد على وجود محاكمات غير عادلة وحرة، في إشارة إلى محاكمة الدكتور سمير جعجع آنذاك. وطالبت المنظمة يومها في إعادة المحاكمة. لكن الوضع تغير بعد العام 2005. علماً بأن ممارسات التعذيب لا تزال موجودة، لكن الصورة ليست سوداوية، ولا يجوز تعميمها. وما يحصل لا يشبه النمط السائد في المحيط. والدليل أننا لسنا على اللائحة السوداء وغير متقدمين في موضوع التعذيب على رغم كل الخروقات التي تحصل في مراكز الشرطة والتحقيق ومخابرات الجيش اللبناني. وتمنى قطريب على الدولة «بما تبقى لها من سيادة أن تفتح التحقيقات اللازمة خصوصاً أن لبنان التزم باتفاقية مناهضة التعذيب وعليه تطبيق بنودها».
تجاهل الشكاوى
يذكر أن لبنان حصل خلال الأعوام الخمسة الأخيرة على مساعدات من بعض البلدان المانحة، لتوسيع وإصلاح قوى الأمن الداخلي. وتشمل الإصلاحات تحديد معايير السلوك والإلتزامات المتجذرة في القانون اللبناني والمبادىء الدولية لحقوق الإنسان. لكن هذه الجهود تبقى غير كافية، وقد أخفقت في معالجة الإنتهاكات المستمرّة من قبل أفراد الشرطة، بحسب «هيومن رايتس ووتش» التي وجدت أن القضاء تجاهل بانتظام الشكاوى الواردة في حق رجال الشرطة. ويختم التقرير بإشارة إلى ضرورة «ضمان محاسبة قوى الأمن الداخلي على الإنتهاكات عن طريق آلية فعالة للشكاوى، واتخاذ إجراءات شفافة وعليه مراجعة قانون الإجراءات الجنائية لتحسين صيانة حقوق المحتجزين وإلغاء القوانين التي تجرم المثلية الجنسية وتعاطي المخدرات والعمل في مجال الجنس».
نعود إلى الناشط في مجال حقوق الإنسان الذي أصر بدوره على مسألة المحاسبة “لأنها غير موجودة للإعتبارات السياسية المتعارف عليها في لبنان والتي أدت إلى غياب مرجعية السلطات. ويختم قطريب: «المؤسف أن ممارسات التعذيب والنيل من كرامة المتهمين الذين يقتادون إلى مراكز التحقيق لا تقتصر على الأفراد، إنما تطاول الجماعات وتقوض من حريتها وحقوقها الأساسية. وفي غياب المحاسبة والسير في سياسة التفلت من العقاب يبقى الإنسان رخيصاً في هذا البلد. من هنا أهمية توعية الرأي العام وتثقيفه وعدم الإنجرار وراء كل الأخبار».
جومانا نصر